ألمانيا ينقصها الخيال كي تضع نفسها مكان غزة...!

ما أسهل أن نمتدح سياسات بلدنا حين تتغير نحو الأفضل، لكن الأصعب هو انتقادها وقتما كانت سيئة، هذا ما شعرت به حين قرأت مقال يانيس هجمان في موقع قنطرة، الذي نشر في الثامن والعشرين من شهر يوليو/تموز المنصرم، تحت عنوان "المجاعة في غزة - صناعة ألمانية". تلك النبرة الاعتراضية الناعمة على ما كانت عليه ألمانيا بحكومتها وإعلامها كداعمة لرواية إسرائيل، وما آلت إليه بعد وصول المجاعة إلى أشدها بين أهالي قطاع غزة فنشرت الصحف الألمانية فجأة صور الأطفال النحيلين، ولن أناقش أخلاقية ذلك مهنيًا، بل سأناقش اعتبار ذلك دليل تغيير سياسات حكومية وإعلامية، وكي أقولها صريحة، إن نشر هذه الصور، لا يعني سوى إفاقة ضمير صغيرة سرعان ما ستخمد.
وفي الوقت الذي ظهرت فيه الصور فجأة ووصلت إلى قطاع واسع من الرأي العام الألماني كما يشير هجمان في مقاله، نجد أن الصحف الألمانية سرعان ما نشرت مقالات عكسية تشكك في صحتها، فنشرت صحيفة زود ويتشه تسايتونج في الثالث من أغسطس/آب الجاري عنوانًا بارزًا تساءلت فيه عن مدى واقعية الصور القادمة من غزة؟ لتغيب صحوة الضمير الصغيرة، وتنهال عناوين أخرى تُشكّك في صور التجويع والمجوعين، حين ادعت صحيفة بيلد، أكبر صحيفة ألمانية، بعدها بأيام قليلة أن كثيرًا من صور المجاعة التي نشرتها الصحف العالمية والألمانية مفبركة، والغريب أنّ التحقيق ليس به أدلة قاطعة سوى بضع استنتاجات وآراء قادها ثلاثة صحافيين، ونشرتها الصحيفة في الخامس من أغسطس/آب الجاري، لتستدرك، وتضيف الصحيفة "الجوع حقيقي، لكن الصور غالبًا لا تكون كذلك تمامًا". وهي مفارقة لا تدل على الصدق أو الذكاء، بل ضعف ادّعاء الصحيفة وتناقضه.

الجوع في غزة – صُنع في ألمانيا
يتضوّر الأطفال جوعًا في غزة وسط تصاعد موجة انتقادات واسعة داخل ألمانيا، فيما تقف الحكومة الألمانية مكتوفة الأيدي رغم نفوذها السياسي الكبير. يرى يانيس هجمان، في تعليقه، أن برلين مطالبة الآن بالتحرك لوقف هذه الكارثة اللاإنسانية.
هذا ما آل إليه التغيير المفاجئ الذي كان الكاتب هجمان متفائلاً به، وسأعود لمقالته لاحقًا، لكن قبل ذلك أشير إلى ملاحظات سريعة على ما أوردته صحيفة بيلد، فهي تتهم المصور الصحافي الفلسطيني أنس فتيحة، أنه يلتقط صور النساء والأطفال وهم ينتظرون الطعام، ولا يصورهم وهم يحصلون عليه. من الواضح أن الصحيفة ينقصها مراسلين في الميدان كي يعرفوا أن المئات يبقون ينتظرون بعد انتهاء توزيع الطعام بصحون فارغة لأن الكميات غير كافية، وفي الظروف الطبيعية، ليس على الناس أن تنتظر كي تملأ صحونها بالطعام في تكية أكل؛ لأنه من المفترض أن يكون لديهم طعام في منازلهم أو خيامهم.
وعلى أي حال، لا حاجة أبدًا في القطاع لتزييف صور المجاعة، وقد مررت بذلك بنفسي حين لم أتعرف على والدي، بعد أن أرسل لي صورًا حديثة للعائلة، وقد ظهر التجويع عليه واضحًا، فقد خسر نصف وزنه، نَحِل تمامًا، وغيرت الشمس لون بشرته الأسمر بالأساس إلى أشد اسمرارًا، عيناي استغربتاه لكن قلبي يعرف والدي ولا تهمني الأشكال، وأعرف شعبي، ولا تهمني الأجساد.
نعم، يوجد صحافيون يبحثون عن صورة المأساة المثالية وكأن فجيعتنا بكل أشكالها الصادمة لا تكفي، وذلك ربما لأنهم يعتقدون أن التراجيديا يجب أنْ تكون على أقصاها حين نتحدث عن غزة، وبالتأكيد هذا أيضًا نهج إعلام حركة حماس المُتخصص في صنع المآسي واللعب على أوتارها، ولكن ليست هذه المجاعة وليست هذه الصور. يبدو أنه أسهل على الصحيفة تكذيب صور المجاعة من اتهام إسرائيل بالتسبب بها وارتكاب جريمة حرب، لكن تحقيقات سطحية غير معمقة ولا تحمل توثيقات مصورة أو شفاهية تدل على ــــ تزييف صور المجاعة ــــ، لن تُبرئ أبدًا إسرائيل.
قول كُتّاب المقال في نهايته "لا أحد يتفوق على حماس وغيرها من المنظمات الإرهابية الفلسطينية في مهارة الدعاية"، ثم يتبعون هذه العبارة فورًا بصورة للقائد الفلسطيني الراحل ياسر عرفات على ضوء الشموع من مقر الرئاسة الفلسطينية في رام الله خلال الحصار الذي فرضه الجيش الإسرائيلي منذ عام 2002 حتى وفاة عرفات نوفمبر/تشرين الثاني 2004، والادعاء أنها كانت مزيفة لأنها مُعدة بالكامل. إنّ الصحيفة جنّت لدرجة أرادت حتى إدراج عرفات إلى جانب حماس، وساوتهما معًا ابتداءً من كونهما إرهابيين ثم إنهما خبيثان في نظام الدعاية، ومرورًا بكون الصحافي الفلسطيني عمومًا غير نزيه فكيف يقبل أنْ يصور شمعة ولديه ضوء كشاف لكاميراته. لم أقرأ في حياتي قراءة سيئة سريعة للتاريخ الفلسطيني، كما فعلت هذه السطور الساذجة.

"لا شيء يبرر الإبادة الجماعية"
يدعو عازف الكمان مايكل بارنبويم، قائد أوركسترا الديوان الغربي الشرقي، إلى فرض حظر توريد أسلحة لإسرائيل، ويتهم وسائل الإعلام الألمانية بالتقصير. في مقابلة خاصة مع موقع "قنطرة" يتحدث عن كيفية الموازنة بين تقديم الفن وممارسة النشاط الحقوقي.
سمعت مرة أنّ الضمير الأخلاقي بالأساس يُغذّيه الخيال، الذي يجعل كل شخص يضع نفسه مكان المظلوم، ومن هنا تأتي الانتفاضة على الظالم والرغبة في التغيير، ويبدو أنّ اليمين الألماني وكل ما يمثله من صحافة وساسة ورجال دين معدومو الخيال بالأساس مثل أي متطرف آخر في العالم.
وأعود هنا إلى مقال هجمان الذي بدا إيجابيًا في قراءة المشهد بألمانيا والتغيير الحاصل؛ كتصريحات وزير خارجيتها يوهان فاديفول حول عدم قبوله الوضع في قطاع غزة، ثم مذكرة اعتراض، وقعها حوالي 130 دبلوماسيًا ودبلوماسية داخل وزارة الخارجية الألمانية كضغط لتغيير المسار، لكنه ينسى قمع المتظاهرين والتهم بمعاداة السامية التي دائمًا يلوح بها حين يصل الحديث عن الحقوق إلى غزة، وفوق كل هذا، فإنّ اللاجئ الغزي المقيم في ألمانيا يخشى دعم قومه ومدينته بصوت عالٍ دون أن يُتّهم بدعم حماس والإرهاب.
لذلك فإن ما فعلته الحكومة الألمانية منذ بداية الإبادة في قطاع غزة حتى هذه اللحظة هو عار كبير؛ قمع المتظاهرين وتهديدهم، إدانة أهل غزة وكأنهم ولدوا مكتوب على جباههم حماس، هو عار آخر، فقد عشت هناك حتى منتصف الثلاثينات من عمري، قبل مغادرتها عام 2016، ورأيت الكراهية المتصاعدة نحو هذه الحركة، التي وصلت أوجها الآن، ولكن بالطبع الممزوجة بالخوف أيضًا.
إن ما نستطيع فعله الآن ككتّاب وصحافيين، إما الصراخ حرفيًا والتظاهر حتى تقلق أقلامنا مضاجع نوم الساسة الألمان والأوروبيين وليس التصفيق الخافت لبضع تغييرات، أو نكف تمامًا عن الكتابة إذا كنا سنقبل بالقنابل على رؤوس الأطفال بينما لا نقبل بتجويعهم، لأنه يومًا ما سيأتي سؤال الضمير، وسؤال المستقبل من أولادنا وأحفادنا؛ ماذا فعلنا حين كانت تجوع غزة، ويباد أهلها...؟
إن الدعوة لوقف الحرب غير كافية، ونشر صور المجوّعين غير كاف، ومدح بضع تغييرات خجولة غير كاف، ماذا عن كل تلك الشهور قبل حتى أن تبدأ المجاعة لتحفر عميقًا في أجساد الغزيين؟ حين صمتت هذه الصحف والحكومات عن قتل آلاف العائلات الآمنة في بيوتها.
إن ما يحدث هو ردود مؤقتة على صور منتشرة ومقاطع فيديو تذرف فيها الأمهات الدموع على جوع أطفالهن، لكن هل سبق هذه الصور تحرك حقيقي؟ لماذا قد يختلف موت عن آخر؟ لماذا صورة طفل فقد أطرافه من القنابل الأمريكية والنرويجية والفرنسية والألمانية لا تجلب التعاطف مثل طفل برزت عظام صدره وغارت عيناه في محجريهما؟ هل السلاح شرعي والتجويع لا؟
أكتب هذه المقالة وقد أُعلن على شاشة الجزيرة أمامي، خبر اغتيال طاقم الجزيرة الصحافي ومنهم المراسلين أنس الشريف ومحمد قريقع وأربعة آخرين في مدينة غزة في العاشر من أغسطس/آب الجاري، إنّ قتل الاحتلال للصحافيين يبدأ من التحريض عليهم واتهامهم أنهم ينتمون لأحزاب بعينها تمامًا، كما فعلت صحيفة بيلد التي شهّرت بسمعة الصحافي أنس فتيحة؛ لأنه نشر على صفحته في موقع انستغرام عبارة "فري بالستين/فلسطين حرة"، ماذا تتوقعون؟ هل مثلًا يجب أن يكتب "فري إسرائيل"، قليل من المنطق حين نحاكم كل ما هو فلسطيني دون أن نحمل في رأسنا عبء ذنوبنا الوطنية القديمة، وهنا أتحدث عن مقال صحيفة بيلد، الذي فبرك الحقيقة وهو يسعى لإثبات أنها مفبركة، يا للسخرية!
ثم ثانية مرت بي عناوين صحيفة بيلد وصحف ألمانية أخرى تتهم بها مراسل الجزيرة أنس الشريف بعد أن اغتالته إسرائيل مع صحافيين آخرين في خيمة بمدينة غزة، بأنه "إرهابي". كيف لم يقرأوا تغريدات أنس التي يطالب بها حماس توقيع صفقة فورًا؟ وينتقد تجاهل معاناة الناس، ألم ترى صحيفة بيلد الصحافيين الأجانب والإسرائيليين الذين دخلوا مع الجيش الإسرائيلي في عرباته العسكرية إلى رفح، وهي بالمناسبة المكان الذي ولدت وقضيت طفولتي به، وقد دمرت الآن بالكامل ومُنع الدخول إليها، هل كان هذا حيادًا وموضوعية؟ هل تعرف "بيلد" كم صحافيًا إسرائيليًا خدم بالجيش هناك قبل أن يمسك قلمًا أو كاميرا؟... يا إلهي كم تبدو الآن مقالة يانيس هجمان وردية، أمام كل الانحياز العتم هذا.
قنطرة ©