"القيم الإنسانية توحد والدينية تفرق"

يرى الفيلسوف الفلسطيني المعروف والحاصل على جائزة ليو-كوبيليف للسلام ساري نسيبة أن حق العودة مجرد وهم لا يتماشى ومعطيات الواقع، مؤكدا رفضه عسكرة الانتفاضة كونها ألحقت الضرر بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني. مهند حامد وأدهم المناصرة حاورا البروفيسور ساري نسيبة حول مستقبل عملية السلام الشرق أوسطية وآليات تفعيل الحوار بين الأديان والثقافات.

​​تحتفل إسرائيل هذه الأيام بالذكرى الستين لتأسيسها. كيف تتلقى بوصفك فلسطينيا هذا الحدث؟

ساري نسيبة: لا أعتقد أن هناك فرقا بين كونها أصبحت 60 أو أيا كان عدد السنوات، فمن الطبيعي أن يحتفل أي طرف بذكرى مولده وكذلك إسرائيل. ولكن النكبة هي الوجه الآخر بالنسبة لنا وهو ما يعني الاستقلال بالنسبة لإسرائيل. فهذا التناقض سيستمر إلى أن يأتي الوقت الذي نستطيع في أن نتوصل لتسوية وفتح علاقات جديدة بين الطرفين.

هل تعتقد أن حق العودة بمفهومه التقليدي مازال قائما بعد 60 عاما من بدء هذا الصراع؟

نسيبة: إذا ما نظرنا إلى قرار التقسيم 181 وتفحصناه جيدا وبدقة وللأسف لا يقرأه الكثير بهذه الدقة، فلا تجد فيه إطلاقا أي إشارة لاستعمال مصطلح "حق العودة" وإنما تجد فيه دعوة للفلسطينيين بالعودة أو التعويض إن لم يكن لهم إمكانية بالعودة.

ثم إن هناك ما يقارب خمسة ملايين لاجئ فلسطيني، فلا يستطيع أن يتخيل قبول إسرائيل بحل الدولتين إلى جانب قبولها عودة اللاجئين جميعهم معا لأنها بذلك تكون قد قبلت بدولتين ليست إسرائيلية وعربية وإنما دولتان عربيتان، ولماذا تفعل ذلك؟!..فنحن لا نقف على أعتاب تل أبيب بالدبابات لنفرض عليها ذلك، نحن فقط نحاول أن نتفاوض معها وبالتالي ما لم يكن مقبولا لديها فلن تقبله.

ومن هنا أعتقد ان العودة هي حلم وانأ شخصيا لا أعتقد أن بالإمكان تحقيقه بالمدى المنظور، كما أنه لا يمكن تحقيقه بالمعنى المادي بمعنى أن يعود اللاجئ إلى البيت الذي هجر عنه أجداده وآباؤه لأنه في معظم الأحوال سيكون بيته قد دمر وغير موجود وحلت مكانه ناطحة سحاب. ولكن ثمة حق بالمعنى القانوني وهو أننا نستطيع أن نطالب مثلا بالتعويض وأن نقايض العودة بأمور أخرى.

​​وبرأيي الحل في ذلك يكمن بالاتي: وهو أن تكون دولتان وأن نتمكن من تعويض اللاجئين ماديا ونفسيا وأن نوفر لهم حياة جديدة بدلا من التمسك بما لا يمكن تطبيقه وهو العودة بالمعنى التقليدي. وإذا أردنا أن نتوصل إلى حل لقضية اللاجئين كالذي أطرحه فمقابل ذلك يجب أن يدفع الإسرائيليون ثمنا وهو أن نستعيد القدس الشرقية بكاملها وعلى رأسها البلدة القديمة والحرم القدسي الشريف مقابل التنازل عن حق العودة بالمفهوم العام. وأعتقد أن اللاجئ الفلسطيني قد يكون أول من سيكون مستعدا لهذه التضحية.

أنت معروف برفضك عسكرة الانتفاضة الثانية. كيف تستطيع إقناع المواطن الفلسطيني بمغزى المقاومة السلمية؟ وهل هناك أمثلة حية على ذلك؟

نسيبة: نعم هنالك أمثلة حية كثيرة على مر التاريخ، وهي اللجوء إلى وسائل سلمية لا عسكرية من أجل تحقيق أهداف سياسية. ونشرت كتب في ذلك في أماكن مختلفة، لاسيما كتاب المؤلف جين شارب الذي نشر خلال العامين الماضيين في الولايات المتحدة ووثق في صفحاته التي تجاوزت ال600 حالات من الإمكانات المختلفة للمقاومة السلمية.

​​وهناك أيضا وسائل سلمية مختلفة استعملت عبر التاريخ وحققت أهدافا سياسية. ولكني لا أقول إن الوسائل السلمية دائما هي الوحيدة الناجعة..أنا لا أعرف ذلك!.. ولكن الذي أعرفه أن على أرضنا الفلسطينية لم يكن يوما لجوؤنا للوسائل العسكرية مفيدا، بل على العكس كان مضرا بنا، فمثلا باندلاع هذه "الانتفاضة"، وأنا متردد بتسميتها بهذا الاسم لأنها لم تكن يوما انتفاضة شعبية، أعطينا المبرر من خلال العمليات الانتحارية لإسرائيل بإقامة الجدار الفاصل والذي لم يضر فقط بالقرى التي يمر بها ولكنه أضر أيضا من ناحية الخارطة التفاوضية.

فبسبب هذه الانتفاضة أصبحنا في موقع تفاوضي أسوأ من أيام كامب ديفيد. وأصبحنا نطالب بالعودة إلى ما قبل سبتمبر 2000م بدلا من المطالبة بحدود 67، ونطالب الأمريكيين بالضغط على إسرائيل لإزالة بعض الحواجز من أصل مئات الحواجز. نحن الآن في وضع تفاوضي يرثى له وأعتقد أننا نحن من ألقينا أنفسنا وبأيدينا إلى التهلكة.

من المعروف أن غالبية الإسرائيليين والفلسطينيين تؤيد التوصل إلى تسوية سلمية تعتمد حل الدولتين.ما هي المعيقات التي تحول دون تطبيق هذه الرؤية؟

نسيبة: يبدو لي هنالك مجموعة لا بأس بها من المعيقات، أهمها: عدم توفر إجماع على مستوى قيادات الجانبين على تحديد الحل للدولتين. وعامل أخر يتجلى بوجود صراع بين ما يريده القادة السياسيون من جهة ومجرى التاريخ وديناميكيته من جهة أخرى، فالتاريخ لا ينتظر قرارات وإجراءات أصحاب القرار من السياسيين. وأخيرا لا يوجد هنالك اهتمام جدي بما يكفي، فقد لا يكون الحل على جدول أعمال الطرفين ولا يكرسون الوقت الكافي لمحاولة التوصل إلى حل جدي.

هل مازالت الفرصة سانحة هذا العام لتطبيق رؤية الرئيس بوش حول حل الدولتين رغم ضعف عباس واولمرت؟

نسيبة: دعني أقول إنه من الناحية المنطقية الإمكانية قائمة ولكن من ناحية توقعاتي في هذا الشأن فهي قليلة. فعلى سبيل المثال لو افترضنا أن أولمرت وعباس متفقان على ملامح الدولتين، باعتقادي بإمكانهم أن يدخلوا في هذا اليوم بل الآن إلى غرفة ويوقعوا اتفاقا أوليا فيما يتعلق بالحل ثم يخرجوا فيما بعد إلى جمهوريهما الفلسطيني والإسرائيلي ويوضحا لهما أن هذا الحل يصب في مصلحة الشعبين ثم يدعوان إلى انتخابات. وبدوره يتخذ ابو مازن من هذا الاتفاق برنامجا سياسيا لحملته الانتخابية ولحركة فتح ويفعل اولمرت أيضا كذلك مع شعبه بكافة أطيافه. فلو حصل ذلك حتما سيعاد انتخابهما من قبل شعبيهما على أرضية هذا الاتفاق وحينها يستطيعان تنفيذه.

​​إذن لا أعتقد ان هنالك ستارا حديديا يقف حائلا أمام تحقيق حل، كما أنني لا أعتقد أن اولمرت وعباس بالرغم من ضعفهما لا يمكنهما إيجاد مثل هكذا حل. وأنا برأيي أن الأقزام أو العمالقة من الساسة هم كذلك بما يفعلون، فإذا قام اولمرت وعباس بعمل ما أقول فأنهما سيتحولان ما بين عشية وضحاها إلى عمالقة وسيكتب التاريخ عنهم كذلك. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه:هل هذا متوقع؟.للأسف يبدو أنهما مترددان، ووضع اولمرت تحديدا أسوأ مما كان عليه سابقا وبالتالي قد يذهب هذا الحل أدراج الرياح ولن يعود.

ما هي طبيعة الأخطاء التي ارتكبتها القيادات الفلسطينية والعربية في الستين عاما الأخيرة؟هل فوتت القيادة الفلسطينية أكثر من فرصة لتحقيق السلام، كما يدعي الكثيرون؟

نسيبة: بالتأكيد أعتقد ذلك. فمثلا في العام 1917 عندما أطلق اللورد بلفور دعوته باقامة وطن قومي لليهود خرج اجدادنا الى الشارع للتظاهر والاستنكار ولكن بدلا من فعل ذلك كان على قادة ووجهاء المجتمع في ذلك الحين أن يستأجروا طائرة خاصة بهم والذهاب إلى لندن لمقابلة وزر الخارجية البريطاني بلفور ومناقشته بالموضوع وتفعيل الدبلوماسية الفلسطينية، ولو فعلوا ذلك لاستطاعوا أن يضبطوا الأمر بشكل اكبر.

وكذلك في الثلاثينيات كانت هناك ورقة زرقاء تدعو إلى إقامة دولة على كامل تراب فلسطين على أساس أن تكون قيادة حاكمة من البلاد؛ ثلث للمسلمين والثاني للمسيحيين والثلث الثالث لليهود؛ أي ثلثين للعرب وثلث لليهود ولكن العرب رفضوا ذلك، ولو قبلوا ذلك لكان الوضع أفضل.

ومن هنا في كل مرحلة يكون وضعنا أسوا من التي قبلها بفعل أخطاء قياداتنا، وأخطاؤهم لا تعد ولا تحصى. صحيح أن نصف المشكلة سببه الاحتلال ولكن النصف الآخر سببه قياداتنا التي كان بإمكانها منع ذلك على مر التاريخ.

إذا لم يستطع الساسة إحلال السلام، فهل تبقى الآمال معقودة على قوى المجتمع المدني الإسرائيلي والفلسطيني؟

نسيبة: أعتقد الآن أن الفلسطينيين والإسرائيليين عاجزون عن ذلك وللأسف لا نعيش في حالة يكون فيها الجمهور قادرا على أخذ زمام المبادرة، والسبب أن الطرفين في ضياع، ولكني أعتقد أنه قد تنشأ مراحل أخرى بالمستقبل خلال أشهر او أعوام يكون فيها الشارع من الطرفين قادرا على التأثير.

ثمة جدل بالغرب حول كيفية التعامل مع الحركات الإسلامية. هل هناك ضرورة للتحدث مع هذه الحركات من قبل الغرب ودراسة إمكانية دمجها في العملية السياسية؟

نسيبة: بالتأكيد أعتقد أن "الحركات الإسلامية" جزء لا يتجزأ من الخريطة السياسية والثقافية والسكانية للعالم الإسلامي، ولا معنى أن ندعو إلى الحوار مع اليهود وفي الوقت نفسه نرفض الحوار مع الحركات الإسلامية، والحوار لا يعني تقبل رأي وفكر الآخر.
وبالنسبة لحماس تحديدا أعتقد أنه لا يجوز إقصاؤها عن خريطة الحوار السياسي رغم أنني اختلف معها ايدولوجيا وعقائديا، ولكن حماس انتخبت سياسيا وتمثل شريحة من الشعب الفلسطيني.

هناك تجارب مختلفة ومبادرات متعددة لتعزيز الحوار بين الثقافات والأديان، إلا أنها لم تحقق النتائج المرجوة لها. حسب رأيك، أين تكمن نقاط خلل هذا الحوار؟

نسيبة: في الواقع كلما تحدثنا عن ذلك فإننا نقصد دائما الديانات السماوية وهي اليهودية والمسيحية والإسلامية، بينما لا يتم الحديث مثلا عن العلاقات بين البوذية والهندوستانية واللتين لا يوجد بينهما مشاكل كبيرة بل على العكس، فمثلا اليابان كانت الديانة الأصلية فيها هي الديانة الشنتوية، ولما دخل عليهم دين جديد وهو الدين البوذي من الهند عن طريق الصين فإن الياباني لم يتخل عن دينه، بل بقي شنتويا ولكنه اعتنق أيضا البوذية فهو جمع بين البوذية والشنتوية في وقت واحد.

ولكن المشكلة تتجلى بين المسيحية واليهودية والإسلامية كون هذه الديانات متشابهة وذات منطلق وأصل واحد؛ فتجد الصراع بينها على عكس البوذية والشنتوية اللتين تعايشتا والسبب أنهما مختلفتان.ولكن الحل يكمن أولا بالتخلص من العصبية الدينية، وثانيا أن نتبع القيم الإنسانية بدلا من القيم الدينية وذلك لأن الأولى عبارة عن ثوابت يتفق الجميع عليها الجميع. وإذا ما تعارضت قيمة دينية مع قيمة إنسانية علينا تغليب الثانية، وبذلك فقط نتقبل بعضنا بعضا.

أجرى الحوار مهند حامد وأدهم مناصرة
قنطرة 2008

يعمل ساري نسيبة رئيسا لجامعة القدس منذ عام1995 ، كما عمل أستاذا للفلسفة في جامعة النجاح في نابلس شمال الضفة الغربية وحصل على درجة الدكتوراة في الفلسفة الإسلامية من جامعة هارفارد. وكان بين عامي 2001 و2002 مسؤولا عن ملف القدس في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. كما منح عام 2003 جائزة ليو كوبليف للسلام "Lew-Kopelew-Preis". ". صدر له مؤخرا كتاب "كان لي موطن اسمه فلسطين Es war einmal ein Land. Ein Leben in Palästina"
قنطرة

جائزة كوبليف للسلام
أفنيري ونسيبة يحصلان على جائزة كوبليف للسلام
تقديرا لكفاحهما المشترك من أجل السلام نال الصحفي الإسرائيلي المعروف أوري أفنيري مع الأكاديمي الفلسطيني سري نسيبة جائزة كوبليف للسلام وحقوق الإنسان لهذا العام.

السيرة الذاتية لساري نسيبة:
"كان لي موطن اسمه فلسطين"
تشكل سيرة "كان لي موطن اسمه فلسطين" لساري نسيبة تعبيرا عن فضاءات حالمة تتنقل بين الذاكرة المكانية والزمانية في فصول من الأحداث السياسية والمحطات التاريخية التي تشكل نقاطا مفصلية في تجسيد الحالة الفلسطينية بكل مدخلاتها وانعطافاتها. أندرياس بفلتش في عرض لهذه السيرة.

رجالات سلام:
العناد والشجاعة
منح منتدى ليف كوبيليف في كولونيا جائزة السلام وحقوق الإنسان إلى الفلسطيني سري نسيبة والإسرائيلي أوري أفنيري. أولريكه فيسترينغ تعرّف بناشط السلام الإسرائيلي