دخول القرن الحادي والعشرين تقهقرا إلى الوراء
هناك نواقص فادحة تطبع السير اليومي للنشاط المدرسي في كل مكان من العالم العربي: في مصر والسودان والمغرب واليمن وأغلب بقية البلدان العربية. والنواقص في مجال التربية والتكوين داخل البلدن العربية كبيرة وستزداد تفاقما.
يقول نذير فرجاني مقرر الدراسة التي تحمل عنوان "من أجل تنمية إنسانية في الشرقين الأدنى والأوسط " والتي قدمتها خلال الخريف الماضي منظمة التنمية التابعة للأمم المتحدة (United Nation Development Programme, UNDP). وتشمل النواقص الجانب الكمي والجانب النوعي على حد السواء في برنامج العروض المعرفية، فالعالم العربي يحتل موقعا متأخرا جدا في مجالات الانتاج المعرفي.
واعتمادا على عدد شهادات براءة الاختراع وكذلك أعمال البحوث والمبتكرات والابداعات أو التطويرات التقنية فإن العالم العربي يسير متعثرا بعيدا وراء البلدان المتطورة في أميركا وأوروبا وآسيا، كما ترى ريمة هنيدي من برنامج التنمية لمنظمة الأمم المتحدة.
وعوضا عن السعي إلى إنتاج معارفها الخاصة تعتمد البلدان العربية أكثر من أغلبية غيرها من البلدان من المناطق الأخرى فقط على استعمال معارف الآخرين لقضاء حاجاتها. وليس هناك من مكان يذكر للجهود الابداعية والطاقات الابتكارية الخاصة ضمن هذا السعي.
تنفق مصر معدل 170 دولارا على كل تلميذ في السنة، حسبما صرح السيد حسين بهاء الدين وزير التعليم السابق. وعلى أية حال فإن مصر، كما يصرح الوزير، بإمكانها أن تقدم نتائج جيدة بالمقارنة مع غيرها. والمسؤولون السياسيون بمصر يروق لهم أن يرددوا ذكر عالم الكيمياء المصري أحمد زويل العربي الأول والوحيد الذي حاز على جائزة نوبل للعلوم الطبيعية سنة 1999.\
أدمغة ذكية ولكن؟
ليس هناك من شكّ في أن هناك عددا لا بأس به من الأدمغة الذكية في البلدان العربية، حسبما تؤكد ريمة هنيدي. إلا أن مواهب وقدرات هؤلاء العلماء لا يمكنها أن تعود بالمنفعة على بلدانها الأصلية إلا في صورة ما إذا توفرت لذلك الظروف الملائمة هناك. فالإنتاج المعرفي يتطلب وجود الامكانيات الضرورية لذلك، كما يتطلب دعما من المؤسسات والتزامات سياسية.
وهذا كله مفقود كما تؤكد هنيدي. "يمكن أن يكون لديك أفضل علماء العالم، لكن ذلك سيكون دون فائدة إذا لم تتوفر لهؤلاء الامكانيات المالية و المختبرات الضرورية؛ باختصار: أن توضع على ذمتهم الوسائل الضرورية لإنتاج المعرفة".
لكن ليست الأموال وحدها هي ما يفتقر إليه هؤلاء، فمن يطمح إلى إنتاج المعرفة سيكون عليه أيضا أن يعمل على خلق المناخ السياسي والاجتماعي الذي تتفتق داخله المعرفة. المعرفة الجديدة ليست شأنا صناعيا وتقنيا فقط. والمعرفة الجديدة لا تقدر بقيم اليورو والسنت فقط، وهي لا تمنح نفسها دوما للتسويق الذي يحقق فوائد مالية.
لكنها تقود المجتمعات باتجاه التطور والتحول. وفي هذا المجال بالذات تتمثل العقبة الكبرى بالنسبة للبلدان العربية حاليا، كما تؤكد هنيدي، حيث الحكومات حريصة في أغلبيتها على التمسك بالهياكل السياسية والاجتماعية المتوارثة.
الحفظ كوسيلة للتعلم
في المدارس الحكومية للبلدان العربية تطبق طريقة التعليم التلقيني بصفة قطعية: يقوم المدرس بعرض وشرح المعلومات، وهو الذي يصوغ الأسئلة والإجابات ويمد التلاميذ بما ينبغي عليهم تعلمه؛ ومن لا يماشي هذه المسيرة يقع التخلي عنه في الطريق. أما اكتظاظ الفصول التي يبلغ عدد التلاميذ فيها 50 و60 و70 تلميذا وأكثر فهي القاعدة وليست بالاستثناء.
يجد التلاميذ أنفسهم في وضع من لا يفعل، بل يرد الفعل. يتناولون من المدرس ما يعرضه عليهم من معرفة حرفيا. إلا أن من لا يتعلم وهو تلميذ كيف يعمل بصفة مستقلة فإنه لن يستطيع التحكم في هذا المنهاج من بعد سواء في الجامعة أو في الحياة المهنية.
ويلاحظ ميشائيل فون غاغرن المسؤول عن صيانة المستوى النوعي للجامعة الألمانية بالقاهرة التي فتحت أبوابها في شهر أكتوبر من السنة الماضية، أن الطلبة المصريين يتمسكون بشدة بما يوجد في الكتاب وما يقوله الأستاذ. " وبودهم لو أنهم يسجلون ذلك على شريط ثم يحفظونه عن ظهر قلب ليستظهروا به من بعد في حصة الامتحان".
وبالفعل فإن المدارس الحكومية لا تقدم للتلميذ أي نوع من المحتوى الفكري أو تدريب على تحليل للنصوص وتأويلها، كما يؤكد نجيب صويري المتخرج من المدرسة الألمانية الإنجيلية بالقاهرة. إنما يتعلق الأمر بـ "مجرد حفظ عن ظهر قلب، لا بقدرة على التفكير"، كما يقول رئيس مجموعة Orascom-Telecom التي تضم أكثر من 10 آلاف موظفا موزعين على أنحاء العالم.
هذا المشكل قائم في أغلب البلدان العربية وليس في مصر وحدها. وإلى جانب المؤسسات التعليمية الحكومية قد تركزت منذ مدة طويلة مدارس وجامعات خاصة يمتاز ما تقدمه من تعليم بنوعية أفضل بكثير. و هذا الأمر يؤدي بالنهاية إلى إفراز مجتمع ذي قطبين متباعدين. فمن ينتمي إلى عائلة ثرية سيكون بمستطاعه أن يرسل بأبنائه إلى أفضل المدارس – أي إلى المدارس الخاصة في معظم الحالات، وهو ما يفتح أمامهم مجالات لإمكانية الدراسة في أفضل الجامعات العالمية.
أما من ينتمي إلى الفئات الوسطى والدنيا فإنه سيجد نفسه مجبرا بحكم انعدام الامكانيات المالية على أن يعهد بأبنائه إلى المدارس والجامعات الحكومية التي تقدم تكوينا رديئا. " بهذه الطريقة يقع إعاقة سيولة الحركة الاجتماعية "
وتقول هنيدي: "المعرفة سلطة – إن هذا ما ينطبق على الكثير من البلدان العربية في وقتنا الحاضر. فالافتقار إلى القوة، وكذلك الجهل المنتشر في صفوف الجماهير العريضة تمثل أدوات للهيمنة بالنسبة لأصحاب السيادة".
ويرى نذير فرجاني. " وفقا لهياكلها الاستبدادية تعمل الأنظمة السائدة على ضمان مصالح مجموعات صغيرة، ولا تولي أي هتمام بمصالح الأغلبية من الشعب. فلا ترصد ما يكفي من الامكانيات المالية لصالح البحوث والتنمية والابداع العلمي. ويظل الخط الموجه لكل قراراتها هو المبدأ التالي: هل في هذا الأمر منفعة لي ولأصحابي أم لا. وعندما تكون لديك حكومة غير عقلانية لا تراعي في قراراتها سوى مصالح نخبة ضئيلة من المجتمع، فإنه لا يمكن أن يكون لديك شعب ذا مستوى ثقافي راق".
لكن ستكون هناك كراسي مراحيض من ذهب كما كان لدى صدام حسين ذات يوم، وضواحي سكنية جميلة للأغنياء كما يوجد في مصر، وعربات فاخرة لأصحاب السلطة كما هو الحال في السودان. إن النخب السياسية للبلدان العربية لا تفي بمسؤولياتها تجاه أولئك الذين يفترض أنهم هناك ليمثلونهم ويديرون شؤونهم ويحكمونهم، يقول عالم الاجتماع المصري سعد الدين ابراهيم منتقدا:
"لنأخذ مثال مصر. لم يسبق لأي رئيس مصري أن أنفق من الأموال ما يعادل ما أنفقه الرئيس حسني مبارك خلال الثلاثة وعشرين سنة التي قضاها جالسا على سدّة الحكم عرفت حالة التعليم في مصر تطورا بلغ أربعة أضعاف ما كان عليه من قبل. والحكومة المصرية لا تكف عن التنويه بفخر بنجاحاتها المزعومة في مقاومة الأمية التي لم يتم بعد الانتصار عليها مع ذلك إذ ما زالت تسود بمعدل حوالي 50 بالمائة داخل المجتمع. والحكومة فخورة أيضا بالعدد الكبير من المدارس الجديدة والجامعات ومؤسسات البحوث".
لكن من الذي يحدد المقاييس؟ في بلدان ليس للمواطن فيها أدنى حق في التعبير عن رأيه في المجال السياسي، وحيث ينظر إلى حرية التعبير غالبا كجريمة فإن أولئك الذين لهم القول الفصل في كل أمر ولا يسمحون بأي حال من الأحوال أن يتنازلوا عن سلطتهم وصلاحياتهم، هم الذين سيكونون المعيار والمقياس في كل أمر.
"ليس هناك أي مجال للمحاسبة " تقول هنيدي، وتضيف بأنه "من المفترض على وزراء التعليم أن يقدموا معلومات حول مسائل التعليم، كما أنه يفترض أن يساءل رؤساء الدول ورؤساء الوزراء. لكن هؤلاء لا يخضعون للمساءلة لأنه ليس للناس من علم بموقع النواقص ولا بمن ينبغي عليهم أن يسألوا. وهم لا يعرفون ذلك لأن الحكومات مصرة على عدم تجميع المعلومات حول نوعية التعليم، وما بالك إذن بنشرها."
فوارق طبقية وفرص غير متكافئة
تغدو التخطيطات السيئة والثراء الفاحش أمورا ممكنة في البلدان العربية لا لشيء إلا لأنه لا توجد مراقبة كافية من طرف البرلمانات، وليست هناك أية شفافية ولا إشراك للشعب في سير السلطة ولا في آليات القرار.
من يريد أن يقود الشعوب العربية باتجاه الخروج من أوضاع الكارثة التعليمية والتخلف المزمن في المجالات التقنية والعلمية والاقتصادية فإنه سيكون عليه أن يفعل أكثر من مجرد بناء بعض مدارس جديدة، حسبما يقول نذير فرجاني. بل تقتضي الحاجة اليوم القيام بإصلاحات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية شاملة في البلدان العربية.
وفي هذه النقطة بالذات يكمن الإشكال الأساسي لكل البلدان العربية كما يشير إلى ذلك المحرر المصري محمد سيد أحمد: رفض الإصلاحات الجوهرية التي يمكن أن تؤدي إلى إزاحة أيادي السائدين عن صندوق ذخائر السلطة. وهكذا تقف مظاهر الفساد المتفشي والمحاباة الضاربة داخل التجمعات السياسية عائقا أمام مثل هذه الإصلاحات.
الرؤى الناصرية
منشية عبد الناصر بالقاهرة؛ حي شعبي فقير. هنا تعيش حوالي 500 ألف نفس بشرية. اكتظاظ وصخب وهواء فاسد وشوارع غير معبّدة. ما يقارب الثلثين من مجمل الـ20 مليونا التي تعمر الكيان العمراني الفظيع للقاهرة يسكنون في مثل هذه الأحياء التي توحد بينها جميعا هذه النواقص: انعدام أي تخطيط حكومي أو بلدي، نقص فادح في المدارس والمصحات وقنوات التزويد بالمياه الصالحة للشراب وتصريف المياه القذرة ورفع النفايات– وباختصار كل ما يمت إلى التجهيزات الحضرية بصلة.
نشأت منشية ناصر في الستينات من القرن المنصرم. في ذلك الزمن انقاد النازحون إلى بريق الوعود الناصرية، لقد اعتقدوا بثقة في ما كان يعدهم به عبد الناصر من مستقبل مشرق فتركوا فدادينهم في منطقة الصعيد أو دلتا النيل وجاؤوا يبحثون عن سعادتهم المنشودة في العاصمة. لكن رؤى عبد لناصر سرعان ما انكشفت على حقيقتها كأضغاث أحلام.
لقد قادت الاشتراكية العربية إلى التضليل فيما كانت تعكس عظمة غير متحققة وقوة وتأثيرا موهومين. لقد دشن عبد الناصر حملة تعليمية وفتح الجامعات للجماهير الواسعة ووعد كل متخرج من المعاهد العليا بتأمين وظيفة حكومية. ويقول المنتقدون، أبدا لم يكن في مصر عدد أكبر من الطلاب مثلما يوجد في تلك الفترة، وأبدا لم يكن مستوى التعليم متواضعا بمثل كان عليه آنذاك.
إن بؤس التكوين والتحصيل المعرفي في العالم العربي قد غدا منذ فترة من الزمن ينعكس بصفة سلبية على أوضاع سوق التشغيل المحلية وعلى مستوى السوق العالمية. فالمواد المصرية على سبيل المثال ما انفكت تفقد مقدرتها على المزاحمة العالمية. وهذا الشعب الذي يبلغ تعداده 70 مليون نسمة يصدر اليوم من السلع والمنتوجات ماقيمته 4,5 مليار يورو على أقصى تقدير بينما يستورد ما تتجاوز قيمته الـ 15 مليار يورو سنويا.
إن النقص في الكفاءات الانتاجية ذات التكوين هو ما يفسر أسباب بقاء الانتاجية في مستواها المتدني داخل البلدان العربية وما الذي يجعلها تقف عاجزة عن مواكبة مقتضيات المنافسة العالمية، كما يرى سعد الدين إبراهيم المختص في العلوم الاجتماعية. " أنت بحاجة إلى تعليم كي تكون عمالا مختصين وبذلك ترتفع الانتاجية وتغدو قادرا على المنافسة داخل الأسواق العالمية".
إن البلدان العربية بعدد سكانها البالغ 300 مليون نسمة تحقق مجتمعة دخلا قوميا إجماليا يقدر بحوالي 530 مليار دولار، بينما يبلغ دخل إسبانيا التي تعد قوة اقتصادية متوسطة في أوروبا 590 مليارا من الدولارات.
الافتقاد إلى النقد الذاتي
السياسيون والمثقفون العرب يحبذون تعليل مسألة التخلف التقني والاقتصادي بإلقاء المسؤولية على مخلفات الاستعمار ونهب خيرات بلدانهم من طرف العثمانيين والأوروبيين. لكن نذير فرجاني يرى أن هذا النوع من تقصي الأسباب غير كاف وهو يمثل دليلا على نقص في القدرة على النقد الذاتي. إن المظهر الخارجي يظل دوما أكثر أهمية من الوجود:
"نحن لا نولي أهمية لبلوغ النتائج. إننا أكثر انشغالا بالتصدي إلى كل ما يكشف واقع أننا لم نكن قادرين على تحقيق نتائج من انشغالنا بالسعى إلى تحقيق هذه النتائج فعلا. هذه خاصية من خصائص سياساتنا: السعى إلى ترويج شيء مع محاولة المحافظة على صورة معينة عن النفس، عوضا عن الحرص على أن تكون تلك الصورة مطابقة للواقع".
تقف البلدان العربية أمام تحديات هائلة تواجهها في الداخل. إن الفجوة التي ما انفكت تزداد أتساعا بينها وبين البلدان المصنعة المتطورة تمثل قنبلة تهدد بانفجار عنيف. ولقد عرف عدد السكان في بلدان مثل مصر واليمن والمملكة العربية السعودية والجزائر تطورا دراميا خلال العشريات الماضية، ففي السعودية وحدها قد انتقل هذا العدد من 3,2 مليون نسمة في سنة 1950 إلى 22 مليون. ثلاثة أرباع السكان هم ممن دون سن الـ25.
وبالتالي فإن وضعية عنق الزجاجة في مجال التعليم والتكوين المهني ستواجه المملكة الوهابية أكثر في المستقبل. لقد اتضح خلال العشريات الماضية أن قيادات البلدان العربية كانت غير ذات كفاءة، وبلا إرادة، وعديمة القدرة على إنجاز شروط تطور شعوبها. فتطور البلدان لم يعد يقاس اليوم بمدى الرفاهية، بل بالأحرى بمدى ما تقدمه من إسهام في إنتاج المعارف الجديدة وكيف تسعى إلى إثراء المعرفة الإنسانية.
التقهقر إلى الوراء
وهكذا فإن الفجوة المعرفية تثبّت دعائم التخلف، وبهذا تجد المحاولات الساعية إلى تقليص المسافة الفاصلة بين هذه البلدان وبلدان الغرب الموانع نفسها وترتطم بالحواجز التجارية التي تضعها المصالح الاقتصادية الغربية.
إن كل الدلائل تشير مع الأسف إلى عودة إلى التقاليد المتوارثة داخل أجزاء واسعة من العالم العربي، كما يرى نذير فرجاني، وبالأخص إلى إحياء عادات قمعية قديمة، لكن دون أن تكون مرفوقة بعودة إلى ذلك التوق إلى المعرفة الذي كان من مميزات عصر الازدهار الثقافي والسياسي للعالم الإسلامي في ما مضى. "اطلبوا العلم ولو كان في الصين"، كان ذلك هو ما دعا إليه النبي محمد أتباعه ذات مرة. وكانت الصين تعني آخر الدنيا بالنسبة للعرب في القرن السابع الميلادي.
بقلم راينهارد باومغارتن
عن مجلة التبادل الثقافي Zeitschrift für Kulturaustausch 2/2004
ترجمة علي مصباح