أكثر من مجرد حركة دوران على البوسفور
"بيكاسو في أسطنبول" هو عنوان معرض كبير أقامه متحف شكيب سبنجي في أسطنبول. أهمية هذا المعرض لا تتأتى فقط من كونه معرضا لأعظم رسام في القرن العشرين وانما أيضا لكونه أول معرض فني فردي لأحد ممثلي الحداثة الغربية، تشهده تركيا على الاطلاق. صاموئيل هرتزوغ زار هذا المعرض وكتب عن انطباعاته عنه.
كال سائق التاكسي لعناته بصوت خافت مرتكزًا بكِلتا يديه على مقود السيارة. إلا أن سيارة الرينو لم تشأ البقاء في خط مسارها فحادت ببطء عن محور الشارع وشرعت بعد بضع مئات من الأمتار على جسر أتاتورك بحركة دوران ضخمة، اندفع أثناءها مضيق القرن الذهبي أمام الزجاج الأمامي كعرْض سينمائي بالحركة البطيئة.
وضع ثقافي متغيَّرفي تركيا
يهطل الثلج من وقت لآخر على البوسفور. وبالرغم من ذلك تغرق المدينة كل مرة في اضطراب شديد لحركة السير. أما بيكاسو فلم يكن في اسطنبول أبدًا، لكن الفنان الغربي الفذ موجود الآن في كل شارع، حيث تعلن الرايات والملصقات التي طبع عليها من أعمال بيكاسو المتأخرة بورتريه تكعيبي لزوجته الأخيرة جاكلين روك هوتين أن "بيكاسو في اسطنبول".
و بينما يُغرق الثلج في هذه الأيام المدينة بأسرها والمرة تلو الأخرى في الفوضى، تسير الأمور عند بيكاسو بكل انتظام وأمان، كما لو أنها لا تتعلق بلوحات فنية بل بسياسيين معرضين للخطر.
يجري العرض في متحف شكيب سبنجي الذي يعنى عادة بفن الخط العثماني بالدرجة الأولى، والذي يقع على بعد نصف ساعة بالسيارة شمال المركز على البوسفور – إنها فيللا قديمة فوق متحف جديد بنيت طوابقه داخل منحدر، تحيط به حديقة تطل فيها آلهة يونانية مبتسمة عبر فصول السنة من بين أشجار الصنوبر الضخمة.
بدت ندفات الثلج المتساقطة من السماء على بحر مرمرة ضخمة تحت ضوء السيارة، فيما السائق يلقي بسيجارته عبر فتحة النافذة الصغيرة، إلا أنها تبقى عالقة بالماء اللزج الذي خلفه الثلج على زجاج النافذة، ثم لا تلبث أن تنزلق ببطء مبتعدة، كعوامة من فلين في محيط متجمد.
يعتبر معرض بيكاسو أيضًا إلى حد ما عوّامة اختبار في مياه لم تُكتشف بعد. فهو على الأقل أول عرض فردي لفنان غربي يمثل الحداثة يقام في تركيا على الإطلاق.
مع أن أكاديميات الفنون المشيدة على الذوق الفرنسي في المدينة كانت منفتحة بلا ريب منذ القرن الماضي على تيارات الحداثة، الا انه لم تكن هناك معارض الى ما قبل خمسة عشر عامًا إلا فيما ندر، بصرف النظر عن المشاريع المريبة نوعًا ما مثل عرض رسومات دالي.
بيد أن الوضع تغير بالفعل في الأعوام الماضية. إذ يعود الدور المركزي في هذا السياق لبينالي-اسطنبول، الذي يقام بشكل دوري منذ العام 1987، والذي كان يفضل الأعمال الفنية المحلية في البداية ثم اتجه على الأقل منذ العام 1992 باطراد نحو الفن العالمي.
إلى جانب هذا تأسست أيضًا في أثناء التسعينيات أماكن عرض فنية مستقلة، كما هو الحال مثلاً مع "دولسينيا" الناشط حتى اليوم، فضلا عن عدد كبير من المعارض التي تقدم برامجها حسب المعايير الغربية.
قبل أكثر من عام افتتح أول متحف للفن المعاصر أبوابه عبر "اسطنبول مودرن" بموقعه الشاعري على البوسفور. وفي حزيران/يونيو من هذا العام أضيف الى متحف-بيرا مبنى يلتزم بالفن الإستشراقي، اضافة الى فن الحداثة والفن المعاصر. إلى حد ما يمكن القول بأن تركيا قد فتحت أبوابها تدريجيا أمام الأعمال الكلاسيكية المعاصرة للحداثة الأوروبية الكلاسيكية.
لا زال برج جالاتا ينزلق ببطء شديد أمام الزجاج الأمامي للسيارة. تبدو الأبنية في الثلج الكثيف كما في الصور الفوتوغرافية القديمة. شدّ السائق المكبح اليدوي وراح يحدق في حيرة في الفراغ. في السيارة يخيم سكون تام تقريبًا – تنطلق من المذياع وحده ضحكات خافتة، ربما روى أحدهم نكتة للتو.
معرض بيكاسو بأعماله المعروضة التي تزيد عن مئة وثلاثين عملا من مختلف مراحل إبداعه مشروع له وزنه بلا شك – في حين أنَّ أكثر من مئة عمل من الرسوم، اللوحات، الخزفيات والمنحوتات هي من مجموعات العائلة الخاصة.
معظم الأعمال المختارة استجلبها برنار رويث بيكاسو – أحد أحفاد بابلو الكبير. حيث سئل في المؤتمر الصحفي عن سبب اختياره اسطنبول بالذات لعرض كنوز عائلته – فكانت إجابته أن تركيا بالنسبة له أمةٌ ثقافيةٌ مثل أي بلد أوروبي آخر.
نهضة ثقافية
يقدم المعرض دراسات مثل "العلم والإحسان" (1897) من المرحلة المبكرة للفنان تذكر بقرب بيكاسو من اسبانيا السوداء. ومن المرحلة الزرقاء هناك على سبيل المثال البورتريه الساحر لامرأة مع وشاح "لا موهير ديل ميخون" من عام 1903 ، فيما تمثّل المرحلة الزهرية لوحة "رأس امرأة من الجانب" (1906) على نحو تخطيطي بسيط ولكن أيضًا مرهف جدًا.
تظهر المرحلة التكعيبية المبكرة في لوحة "آنسات أفينيون" (1907) وكذلك في أعمال رائعة للطبيعة الصامتة وأعمال أخرى. اللوحة الصغيرة "امرأة وطفل" من عام 1921 تمثل أحد الأعمال البارزة لنمط تقليد الطراز الكلاسيكي، الذي طوّره بيكاسو بعد الحرب العالمية الأولى.
بيكاسو السريالي يقدمه المعرض قبل كل شيء برسوم مثل "نوس" من عام 1933 أو "امرأة ترسم" من الخامس من شباط/فبراير 1935. ومن الممكن رؤية تكعيبية متأخرة من أوقات ما بعد الحرب العالمية الثانية وكذلك مختلف الخزفيات إلى جانب المنحوتات المعقدة التفاصيل.
ومن مرحلة السنوات الأخيرة التي أنتج فيها بيكاسو عددًا هائلاً من الرسوم، هناك أيضًا عدد من القطع المقنعة مثل "محادثة" من الثامن والعشرين من تشرين الأول/اكتوبر 1970 المُشكَّلة على هيئة تابوت أيتروستيني [منطقة ايطالية].
لا يدعي المعرض أبدًا بأنه يريد أن يظهر بيكاسو جديدًا أو مغايرًا تمامًا – و لا يريد بالتأكيد أن يقدم مساهمة جوهرية للأبحاث. رغم ذلك نجح المعرض هنا وهناك من إظهار علاقات جميلة جدًا بين الأعمال.
بغض النظر عن الاراء المختلفة حول تفاصيل المعرض – فإن معرضا مثل معرض "بيكاسو في اسطنبول" هو على أية حال أكثر من مجرد حركة دوران لأيقونة غربية على البوسفوربالتأكيد. إذ يبين المشروع في كل الاعتبارات، أن تركيا تتجه فيما يخص الثقافة بقوة متزايدة نحو المعايير الأوروبية الغربية– ببطء ولكن بدأب متواصل.
واقي صدمات سيارتنا الرينو يصطدم برفارف سيارة نقل صغيرة مطلقًا صريرًا خافتًا، في تؤدة وبحنو تقريبًا. في غمرة الثلج المنهمر يبدو المشهد أقرب إلى قبلة بين مركبتي نقل منه إلى حادث سير.
يشعل السائق لنفسه سيجارة "اكيبين" ويفتح زجاج النافذة بضعة سنتيمترات – فهو لا يريد الخروج حتى يخف انهمار الثلج بعض الشيء. لقد وصل بيكاسو إلى اسطنبول – في وقت ما ستتبعه أيضًا الإطارات الشتوية للعجلات.
بقلم صاموئيل هرتسوغ
ترجمة يوسف حجازي
حقوق طبع النسخة العربية قنطرة 2006
صدر المقال في صحيفة نيوه تسوشر تسايتونغ
قنطرة
دورة بينالي اسطنبول التاسعة
افتتحت أخيرا دورة بينالي اسطنبول التاسعة. وعلى نحوٍ غير مسبوق، تمحور عمل الفنانين من كافة أنحاء العالم، حول الظواهر المدينية في هذه المدينة العملاقة
www