عاشق الموسيقى الذي أضاع آلته الوترية
كان من الممكن في الحقيقة أن يكون لكتاب مرجان ساترابي الجديد عنوان آخر ذلك أن هذا العمل لا يرحل بنا داخل عالم الملذات المطبخية الإيرانية بقدر ما تستدرجنا الكاتبة من خلاله إلى عالم وحياة عمها ناصر علي خان الذي لا يستطيع أن يحيا من دون حبه للموسيقى والولع الخاص الذي يشده إلى آلته الوترية المبجلة الطار (وهو غير ما يعرف بهذا الإسم عند العرب).
بداية النهاية
تبدأ وقائع القصة التي ترويها ساترابي في هذ الكتاب في يوم من خريف سنة 1958. في ذلك اليوم تنشأ خصومة بين ناصر علي عازف الطار الإيراني المتألق وزوجته التي تعيب عليه ولعه المفرط بالموسيقى وبآلته الموسيقية أكثر من اهتمامه بعائلته والنهوض بواجباته العائلية.
موسيقى ناصر علي في نظرها فاشلة، فضلا عن أنها لا تدر على العائلة أي كسب. ذلك هو اللوم البارد القاسي الذي ما فتئت تردده على مسامعه بصفة مستمرة. وفي فورة من الغضب تنتهي إلى تحطيم الطار، وهو أعز ما يملكه ناصر علي في الحياة. وكانت تلك بداية النهاية.
سينطلق ناصر علي بعدها في البحث عن آلة جديدة، لكن دون جدوى، إذ ليس هناك من طار بمستوى جودة آلته المفقودة. وهكذا يسلم الرجل أمره لقدره المشؤوم، وقد بلغ به الأسى والحزن حدا جعله يتخذ قرارا بالعزوف عن الأكل، ولم تعد له من رغبة سوى في أن يموت. ولم يكن هناك من شيء يستطيع أن يثنيه عن قراره هذا بما في ذلك طبق "الدجاج بالبرقوق"؛ أكلته الإيرانية التقليدية المبجلة.
فشل في البحث عن السعادة
هذه المسيرة الحياتية المأساوية لرجل حساس لم يعد يرغب الا في الموت، بعد أن افتقد آخر عنصر مسرة في الحياة بافتقاد طاره المحطّم، لها وقع قصة من الخرافات الشرقية التي استطاعت ساترابي أن ترويها عبر تصوير ثري يتراوح بين عودات إلى الوراء(فلاشباك) وقفزات في المستقبل. وفيما هي تصور لنا الأيام الثمانية الأخيرة من حياة ناصر علي خان تأخذنا ساترابي في رحلة عبر الزمن نطّلع من خلالها على وقائع متعددة من حياة عمها:
قصة حبه الكبير الذي مني فيه بالخيبة في النهاية، ثم ارتباطه بزيجة مرتّبة مع مدرّسة سطحية مضجرة لكنها صارمة، وكذلك عن أمه الزاهدة المتصوفة. إلى جانب هذا تقدم ساترابي صورا أخرى ذات طابع هزلي وعبثي أيضا، مثل قصة مظفر الإبن غير المحبوب لعمها ناصر علي، والذي سيهاجر إلى الولايات المتحدة بعد حوالي عشرين سنة من وفاة والده في إطار ما شهدته إيران من أحداث رافقت الثورة الإسلامية لسنة 1979. وفي بلاد المهجر سيعرف هو وعائلته، بالرغم من تحقق حلمه بالعيش في أميركا، محنة المعاناة من مرض السمنة.
مليون نسخة من "بيرسيبوليس"
في قصة رائعة ثرية الخيال، وبوساطة صور يتناظر فيها اللونان الأسود والأبيض على نحو بديع تروي لنا ساترابي معاناة عمها وعشقه لآلته الموسيقية؛ قصة بمثابة الأمثولة التي تجسد الصبوة المولعة والتوق إلى الحرية. تستحضر ساترابي هنا أيضا نماذج إنسانية من تلك التي سبق لها أن وظفتها في كتابها المصور الأول "بيرسيبوليس" الذي يروي قصة عائلتها وطفولتها في إيران.
وقد استطاع "برسيبوليس" أن يغدو في فترة وجيزة من الزمن إحدى كتب القصص المصورة الأكثر نجاحا بأن حقق رقم مبيعات عالمية يقدر بمليون نسخة. وقد كانت تلك دفعة حقيقية لساترابي التي تعمل الآن على إعداد نسخة جديدة من هذا الكتاب في شكل شريط صور متحركة.
نشأت ساترابي داخل عائلة من الطبقات الوسطى في طهران. وفي سنة 1984 أرسلها والداها إلى فيينا بعيدا عن ملابسات الثورة الإسلامية وحرب الخليج الأولى. لكنها عادت بعد أربع سنوات إلى إيران حيث تلقت دراستها الجامعية في مجال التواصل البصري داخل كلية الفنون. وفي سنة 1994 هاجرت مجددا إلى فرنسا. وتحت تأثير الخوف من تعسف النظام السياسي الإيراني لم تعد بعدها ولو مرة واحدة إلى إيران.
الفنانة في أوروبا
في أوروبا تجد الفنانة الشابة نفسها في مواجهة دائمة مع الكليشيهات المتداولة والجهل السائد حول بلادها. آراء مسبقة تمقتها ساترابي، ذلك أن الغرب لا يرى غير التشادور ولا يعرف شيئا عن "الثقافة الإيرانية العتيدة"، كما تردد دائما في كل الحوارات التي تجرى معها. وقد كان الغرض الأهم الذي تسعى إليه الفنانة الشابة من خلال كتابها الأول "بيرسيبوليس" هو إبلاغ صوتها إلى أوسع شريحة من الجمهور والتعبير عن رؤيتها للأحداث السياسية في إيران عن طريق لغة تصويرية بسيطة ومسلية.
إلا أن البعد السياسي يبدو منسحبا في الكتاب الجديد لساترابي "دجاج بالبرقوق"، ولا يحضر إلا على سبيل الإشارة والتلميح، مثلا عندما يظهر ناصر علي وهو يحلم بالنجمة السنيمائية الغربية صوفيا لورين. فإيران الخمسينات كانت ذات توجهات وميول غربية : الحجاب كان ممنوعا، والممثلون والممثلات يستطيعون إظهار أجسادهم في الأفلام، والموسيقيون لا يخضعون لأية ضغوطات في ممارسة عملهم الفني.
لغة كونية
إن أهم عنصر في لغتها التصويرية كما تقول ساترابي، هو أنه بإمكان جميع الناس من مختلف البلدان والأصقاع أن يفهموها: "أعتقد أن لغة القصص المصورة لغة كونية. والمشاعر التي تعبر عنها يفهمها الجميع بقطع النظر عن الموطن والثقافة الأصلية. ذلك أن صورة إنسان ضاحك أو باك تعني الشيء نفسه في كل مكان." كتاب "دجاج بالبرقوق" يقدم قصة وقائع حزينة لكنها في الوقت نفسه قصة رائعة.
بقلم بيترا تابلينغ
ترجمة علي مصباح
حقوق الطبع قنطرة 2006
قنطرة
"برسيبوليس": واقع جيل
تستحضر الإيرانية مرَجان ساترابّي في كتاب القصص المصورة الذي أنجزته تحت عنوان "برسيبوليس" صورة عن طفولتها في إيران مثيرة بذلك موجة عارمة من الإعجاب. وقد تمت ترجمة عملها هذا إلى العديد من لغات العالم – وأخيرا إلى الألمانية أيضا. بترا تابلينغ التقت بصاحبة كتاب القصص المصورة