في البحث عن حقوق إنسان مغايرة
طرح السوسيولوجي البرتغالي بوافنتورا دي سوسا سانتوس، في كتابه "لو كان الإله ناشطا حقوقيا: نحو لاهوت حقوقي ومناهض للهيمنة"؛ المترجم إلى اللغة العربية (2022)، بقلم المترجم البشير عبد السلام عن دار الإحياء للنشر والتوزيع بالمغرب، مقاربة نوعية بشأن السجال الدائر حول المسألة الحقوقية في العالم، كُتبت بنفس نضالي؛ باعتبار صاحبها أحد رموز التيار الديكولونيالي للعالم، ظل وفيا خلال المؤَلف لمقولته الشهيرة: «إن فهم العالم أكبر من فهم الغرب للعالم».
خلّف عنوان الكتاب ردود فعل في الأوساط الثقافية؛ مغربيا وعربيا، وبادرت أصوات هنا وهناك، على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى الهجوم على المترجم، منتقدة الصياغة "الاستفزازية" في وضعه. بيد أن هذه العبارة، وللأمانة، تبقى أقوى تعبير عن أطروحة الكتاب، فلا كلمة (الدين، الرب...) بمقدورها أن تؤدي وظيفة كلمة "الإله"، للدلالة عن عمق الفكرة موضوع الكتاب.
حقوق الإنسان ووهم الهيمنة
يفكك بوافنتورا السردية المهيمنة حول كونية خطاب حقوق الإنسان، بقراءة عكسية للتاريخ، تعيد وضع مفهوم حقوق الإنسان -الرائج حاليا- موضع نقد وتشكيك، بالبحث والتنقيب في سياقات النشأة والتشكل، لتظهر حقائق أخرى غير الرواية السائدة عن الانتصار التاريخي لفكرة حقوق الإنسان، «فكل الممارسات التي قد تعتبر أفعالا قمعية وتسلطية متى نُظر إليها من خلال تصورات مغايرة للكرامة الإنسانية، سيتم إعادة صياغتها لتعتبر أفعالا تحررية، إذا تمت ممارستها باسم "حقوق الإنسان"».
يُمعن الكاتب في حصار أطروحة الكونية الحقوقية بأسئلة إشكالية، أفرزتها تطورات وتعقيدات الواقع العالمي المعاصر، ما جعل عورات الخطاب الحقوقي العالمي مكشوفة أمام الأشهاد. تُظهر العودة إلى الأصول، بأن منظومة حقوق الإنسان جزء من ذات الهيمنة التي تقوم بترسيخ وشرعنة الاضطهاد، ما يوَلد سؤالا مؤرقا حول فرص توظيف حقوق الإنسان لمناهضة الهيمنة؟ أو بتعبير بوافنتورا «هل فكرة حقوق الإنسان فعالة في مؤازرة نضالات المهمشين وأولئك الذين يعانون من الاستغلال والتمييز، أم أنها على عكس ذلك، تجعل تلك النضالات أكثر صعوبة؟».
على مدار فصول الكتاب الخمسة (عولمة اللاهوت السياسي، نموذج الأصولية الإسلامية، نموذج الأصولية المسيحية، في منطق تماس بين اللاهوتات السياسية، نحو مفهوم ما بعد علماني لحقوق الإنسان) يُجادل المؤلف، مثبِتا بالأدلة والشواهد التاريخية، بأن حقوق الإنسان لم تكن قطعا كونية، كما تدَّعي الأسطورة الغربية. فحتى وقت قريب، كان العالم حافلا بالخطابات المنافِحة عن الكرامة الإنسانية، وهذا ما يفسر تجاهل حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار، خلال القرن العشرين، وكذا الحركات الاشتراكية والشيوعية... للمعجم المفاهيمي لحقوق الإنسان، قصد تأكيد مشروعيتها النضالية.
مصادرات وانحرافات تاريخية
يؤكد بوافنتورا بأن كل تعاطٍ غير سياقي مع كونية حقوق الإنسان يبقى بلا معنى، فأصول هذا الخطاب -"المتوافق عليه أوروبيا"-، لا يمكن فصلها، بأي حال من الأحوال، عن التاريخ الاستعماري الأوروبي، وأسطورة تفوق العرق الأبيض، ومركزية العقل الغربي. فحسب الكاتب، وحتى تصبح هذه المنظومة كونية، كان لزاما أن تخضع للتأويل والتوظيف، كي تحظى بهذا الإجماع، الذي تأسس، وفق المؤلف، على أربعة أوهام، وهي: الغائية والانتصارية ونزع السياق والأحادية.
يكشف المسار التاريخي لحقوق الإنسان، أنها تعرضت لانحراف كبير منتصف القرن التاسع عشر، بالإقدام على فصل خطاب حقوق الإنسان عن التقليد الثوري. وذلك بعد ثورات عام 1848، حيث صارت هذه الحقوق تعادي كل فكرة تدعو إلى التغيير الثوري في المجتمع.
منعطف خلق لدى بوافنتورا ريبة حيال السردية السائدة؛ "نحن اليوم غير قادرين على التأكد من ما إذا كانت حقوق الإنسان الحالية هي من إرث الثورات الحديثة أو من مخلفات انهيارها، ومن ما إذا كانت تضمر خلفها طاقة ثورية تحررية أو طاقة مناهضة للثورة".
سرعان ما انقلب هذا الشك إلى يقين، نتيجة الممارسات التي عمِلت على تحويل حقوق الإنسان إلى إطار مفاهيمي محايد للتغيير الاجتماعي. ثم ما لبثت الدولة أن دمجته، في وقت لاحق، ضمن نظمها القانونية، ما يعني استبعاد وإقصاء أي مطلب أساسه حقوق الإنسان، بعد أن منحت لنفسها شرعية احتكار إنتاج القانون وإدارة العدالة.
استئثار عجز عن استيعاب المعاناة الشديدة للإنسان في العالم، فما أكثر انتهاكات حقوق الإنسان التي يتم تجاهلها في أكثر من رقعة بالعالم، لدواعي قد تكون مرتبطة بالذات (كون الغرب/المهمين هو الفاعل)، أو الموضوع (كون الضحايا من شعوب العالم الثالث). بذلك تكون الكونية الحقوقية مقتصرة على عرق معين (الأبيض الأوروبي)، دون أن تمتد لتشمل مطلق الإنسانية.
اللاهوت السياسي يفضح خطاب حقوق الإنسان
أدت هذه المفارقة إلى بروز خطاب لاهوتي سياسي جديد، يضم في طياته كوكبة من أطياف اللاهوت (إسلامي/ مسيحي، تعددي/ متطرف، محافظ/ تقدمي...)، مناهض للنظام الاجتماعي القائم، ومن خلاله لمبادئ حقوق الإنسان التي تعيد إنتاج الظلم والاضطهاد.
اشتراك هذه اللاهوتات في المعارضة المبدئية للهيمنة الغربية، لا يعني مطلقا الوحدة في الحلول التي يتبناها كل فصيل على حدة.
وحتى مسألة الرفض، تبقى حدتها متباينة بين هذا التيار وذاك، ففي الوقت الذي ترفض فيه تيارات من هذا اللاهوت؛ بجذرية مطلقة، كل الأبعاد المؤسسة للعولمة النيوليبرالية المهيمنة (الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، الثقافية...). تتولى تيارات أخرى المفاضلة بين هذه الأبعاد، فترفض ما هو ثقافي وسياسي، وتقبل ما هو اقتصادي، لتشارك بحيوية ونشاط في الرأسمالية المعولمة.
على ذات النهج، جاءت الحلول والبدائل، فاللاهوت الأصولي (المسيحي أو الإسلامي) يدعو إلى تفكيك الدولة الحديثة أو السيطرة عليها لتنفيذ نظرية الحكم الإلهي، وإسقاط مبدأ السيادة الشعبية لصالح الإدارة المطلقة لله. ويرى أنصار هذا اللاهوت حقوق الإنسان مجرد نهب علماني للحقوق الإلهية، ما يجعل الكرامة الإنسانية رهينة تنفيذ إرادة الإله، التي لا يمكن حصرها فقط في المجال الخاص، وإنما في المجال العام أيضا.
صحيح أن خطاب حركات اللاهوت السياسي بشأن الكرامة الإنسانية، لا يقل تطرفا، في بعض الأحيان، عن الخطاب الحقوقي الغربي المهمين حاليا. إلا أنه نجح، ورغم كل المؤاخذات، في تعرية النواقص، وكشف تناقضات سردية تزعم أنها إنسانية، وهي أبعد ما تكون عن ذلك، وبين حدود هشاشة السياسات المحافظة لحقوق الإنسان.
وشرع الباب أمام تيارات في مختلف أصقاع العالم، للمساهمة في تجديد فكرة حقوق الإنسان، وتحويلها لأداة تحرر اجتماعي على صعيد سياقات ثقافية مختلفة.
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022