الحريم الاستعماري
تمثل النظرة الرجولية الغربية إلى المرأة الشرقية انعكاسا لبنية رمزية مركّبة لعلاقات اللامساواة بين الغرب والعالم الإسلامي. داخل هذه البنية الرمزية تواصل البنى السلطوية القديمة اشتغالها بحسب التقابل التقليدي: بين السيّد والمسود، والإمبراطورية الاستعمارية والمستعمَرة. وغالبا ما كان الغازي الغربي يُظهر نفسه بأسلوب منافق في دور "الداعية الأخلاقي" تجاه الإغراء الشرقي.
يولي مالك علولة اهتمامه في مؤلّفه "The Colonial Harem" –الحريم الاستعماري- إلى الصورة النمطية الشهوانية عن الشرق: تلك الفضاءات المغلقة لعالم المرأة التي تهدف للتستر عن أعين الأجنبي، وفي الآن ذاته تستفزّه بفعل هذا التستر.
صورة بسيطة جدا
تتناول مقاربتُه "البطاقات البريدية الحريمية" صور لنساء مغاربيات نصف عاريات أو عاريات تماما من تلك التي أغرق بها السوق الأوروبية في فترة ما بين 1900 و 1930 مصورون فوتوغرافيون من أمثال السويسري جون غايزر. النساء اللاتي تعرضهن تلك الصور نكرات، وتأتي العناوين التي تشير إليهنّ كالآتي: "إمرأة من المغرب أو من الجنوب أو من الجزائر"، وفي أحسن الأحوال هناك ما لا يتجاوز دزّينة من الأسماء من نوع: "الجميلة فاطمة ".
وهكذا تظل المرأة الشرقية نموذجا ذا طابع تعميمي، وحقلا لانعكاس النمطية. فالشخصية ومحيطها –خلفية منظر طبيعي في أغلب الحالات – ترشح في هذه الصور الملتقطة داخل الاستوديوهات بطابع نموذجي ومبسط. وبالفعل لا يتعلق الأمر في هذه المستعرَضات الفوتوغرافية بأية حال بنساء من المتسترات داخل الحريم كما يثبت ذلك علولة، بل هن في أغلبهنّ من ضحايا الحرب واليتيمات والمومسات اللاتي يجرهن المصورون للمثول أمام عدسات كاميراتهم.
لا يولي الكاتب هنا اهتماما كبيرا بالسؤال عن السيرة الحياتية لهؤلاء الموديلات ودوافعهن الشخصية، بل يركز نقده بصفة أساسية على الغرب ويحلل نظرة الشُوافيين(voyeurs) التي لا تتحدد بهواجس إثنوغرافية بل بدوافع تجارية مالية ومصالح سلطوية:
فالبطاقات البريدية المرسلة تستعمل هنا كوثائق إقزوطيقية ورموز انتصار وغنائم حربية. ويظل هذا السلوك محددا بمقاييس أخلاقية ذات طابع مزدوج؛ فحيث يكون على نساء "المقاطعات"، أي البلدان المستعمَرة، أن يكشفن عن أجسادهنّ للمصورين تظل الصور العارية لفرنسيات الوطن الأم ممنوعة.
كما أنّ المصور الفوتوغرافي الوحيد الذي يبدو أنه قد دخل حريما حقيقيا بالفعل هو أوجين دي لاكروا الذي استطاع أن يعرض بعضا من أشهر اللوحات وأثراها زخرفا وأشدها وقعا على المشاهد في مجال الفنطازيا الشرقية.
ومن خلال تحليله لهذا النوع من العرض التجسيدي لصورة الشرق، في الأدب والرسم أيضا، يتضح لعلولة موقف مزدوج للغرب تجاه الشرق: إقبال متلهف على الصورة من جهة، واشمئزاز من الواقع في الوقت ذاته. ولعل الأمر ما يزال كذلك في وقتنا الحاضر أيضا.
اللاشعور والماضي
تفادى علولة في مقاربته لموضوعة الحريم استعمال مصطلحات الأنتروبولوجيا الثقافية وينتقي لنفسه لغة تداعيات شعرية خاصة به: يعود بذكرياته للغوص في زمن طفولته ويستخرج له من هناك الانطباعات التي تخدم تحليلاته. ولمناسبة العمل الذي يقوم به في هذا الكتاب يستحضر صورا من أيام طفولته حيث صورة مالك علولة الطفل تجسد وتنقل هي أيضا كليشيهات بداية القرن الماضي.
وكأديب فرنسي من أصل مغاربي يتموقع علولة ضمن رؤية متميزة، و تنتظم أعماله دائما بحسب تموقع مزدوج: عندما يتناول الكليشيهات والأفكار المسبقة لفترة الاستعمار المندسة في أصقاع اللاشعور أو في مناطق الماضي فإنه ينظر بعين العربي، فيما يعبّر عن ذلك باللسان الفرنسي. كما أنه يظل مرتبطا ارتباطا أليما بالجزائر حتى في الوقت الحاضر: ففي سنة 1994 تم في خضم المدّ الإرهابي الإسلاموي اغتيال أخيه عبد القادر وهو أحد المثقفين الرياديين في الجزائر.
أمين فرزانفر، حقوق الطبع قنطرة 2004
ترجمة علي مصباح
مالك علولة شاعر وكاتب جزائري مقيم في باريس