حرب لم تنتهِ أبدًا

ثمّة أمر غريب في الطريقة التي يُحيي بها اللبنانيون ذكرى 13 أبريل/نيسان. ففي هذا اليوم من عام 1975، أطلق عناصر من حزب الكتائب، وهو حزب مسيحي يميني، النار على حافلة كانت تقلّ مدنيين فلسطينيين، في هجوم فجّر ما بات يُعرف لاحقًا بالحرب الأهلية اللبنانية التي استمرّت حتى عام 1990.
ما يُثير الاستغراب حقًا أننا لا نحيي ذكرى نهاية هذه الحرب، بل بدايتها. لم أفهم السبب لسنوات طويلة، إلى أن أدركت في نهاية المطاف أن الحرب لم تنتهِ فعليًا، ونحن لا نزال، عمليًا، نعيش في ظلّ نظام زمن الحرب.
في كل أبريل/نيسان من كل عام، لا يكتفي اللبنانيون بإحياء حدثٍ مؤلم وترديد "لن يتكرّر"، بل يذكّرون أنفسهم بأن الحرب لم تغادرهم فعليًا. ففي الفترات التي نشهد فيها عودة لزمن "الحرب"، بحسب تعبير صانعة الأفلام جوان رندا نوشو، التي وصفت هذا الزمن السياسي بأنه تفعيل ذاكرة الماضي العنيف في الحاضر، فإنها ليست سوى تذكير جديد بأن فترات "السلام" ما هي إلا هدنات هشة.
بعبارة أخرى، لا يمكن تسمية المرحلة التي تلت عام 1990 بـ"ما بعد الحرب"، بل هي أقرب إلى استقرار نسبي، لا يلبث أن يتهاوى عند أول صدمة تُعيد العنف والاضطراب مجددًا.
"ما بعد الحرب" في لبنان
كأحد أبناء ما يُعرف بجيل "ما بعد الحرب"، نادرًا ما عرفت لبنانًا دون حرب، أو لا يلوح فيها شبح الحرب. هذا يختلف من منطقة إلى أخرى، لكن يصعب أن نجد عامًا واحدًا منذ 1990 لم يشهد نوعًا من أنواع الصراع.
خلال تسعينيات القرن الماضي، وبعد انتهاء الحرب الأهلية، واصلت إسرائيل احتلال أجزاء واسعة من جنوب لبنان، أما نظام الأسد، الذي بدأ احتلاله خلال الحرب، فاستمرّ في السيطرة على مناطق في الشمال والغرب حتى انسحب عام 2005.
وحتى بعد انسحابه، خلّف النظام السوري إرثًا من الاغتيالات السياسية، من اغتيال الصحافي سمير قصير في يونيو/حزيران 2005، إلى الباحث والناشط في توثيق الذاكرة لقمان سليم في فبراير/شباط 2021- وكلها اغتيالات يُرجّح أن النظام أو حليفه حزب الله ارتكبها.

من ظل نصر الله إلى دفة القيادة
يعد نعيم قاسم أحد القادة المخضرمين في حزب الله اللبناني. لقد كان هناك عندما تأسست الحركة، لكنه لم يتمكن قط من تحرير نفسه من ظل حسن نصر الله. والآن أصبح هو الزعيم الجديد، والرجل الذي توعدته إسرائيل بمصير نصر الله.
في عام 2006، اندلعت حرب استمرّت 34 يومًا بين حزب الله وإسرائيل، وفي 2008، شهد لبنان ما سُمّي بـ"حرب أهلية مصغّرة" بين حزب الله وفصائل طائفية أخرى. ومنذ 2011، تسربت الحرب السورية إلى لبنان، مع انخراط حزب الله في دعم نظام الأسد.
ومنذ العام الماضي، شهدنا تصعيدًا جديدًا بين إسرائيل وحزب الله، دمّرت خلاله إسرائيل أكثر ممّا فعلت عام 2006، فمحَت قرى بأكملها في الجنوب، وسوّت أجزاءً واسعة من ضاحية بيروت الجنوبية بالأرض.
الشلل السياسي في لبنان
لا يمكن النظر إلى الاحتلالات الإسرائيلية والسورية، والصراعات السياسية الداخلية، كأحداث منفصلة، بل كامتداد لعنف ممنهج شكّل النظام السياسي اللبناني فيما يُسمّى بـ"ما بعد الحرب".
لا تزال السياسة في لبنان قائمة على نظام معقّد لتقاسم السلطة بين الطوائف. فقد أعاد اتفاق الطائف، الذي وُقّع عام 1989 في أواخر الحرب الأهلية، ترسيخ وتقنين هذا النظام الطائفي، فوزّع المناصب الأساسية بين الطوائف- مسيحيون، وسنّة، وشيعة، ودروز وغيرهم. علاوة على ذلك، تأسست أغلب الأحزاب السياسية الحالية خلال الحرب، وما زالت تتحكّم بالمشهد السياسي إلى يومنا هذا.
صحيح أن السنوات الأخيرة شهدت صعود بعض المرشحين المستقلين، إلا أن اللاعبين الأساسيين الذين سيطروا على السياسة في السبعينيات والثمانينيات لا يزالون هم أنفسهم في الواجهة- وإن تغيّرت الأسماء، فهم أبناؤهم أو أصهارهم أو أبناء إخوتهم. لا تزال الأحزاب الطائفية، التي غذّت الهويات الدينية لتُحكِم قبضتها على المجتمع، هي القوى المهيمنة.
وقد أدرك قادة هذه الأحزاب مثل الراحل حسن نصرالله (الأمين العام السابق لحزب الله) وسمير جعجع (رئيس حزب القوات اللبنانية، الميليشيا المسيحية سابقًا)، منذ زمن أن التلويح بالحرب الأهلية سلاح فعّال لإسكات الأصوات المستقلة. فالأحزاب القادرة على إشعال الحرب، هي ذاتها القابضة على السلطة.

"مأساة لبنان هي الطائفية السياسية"
أزمة الدولة اللبنانية بلا نهاية تلوح في الأفق. المفكر واللاهوتي اللبناني البارز مارتان عقاد يستكشف الصعوبات وجهود الخروج من المأزق. حاوره إريك سيغل لموقع قنطرة.
لكن حين تقتضي مصلحتهم، لا تتردد هذه الأحزاب في التعاون مع بعضها البعض، كما قال لي الصحافي اللبناني جاستن صلحاني، فإن الأحزاب الطائفية "تتفق جميعها على أن أي تحدٍ للنظام الطائفي هو تهديد مباشر لسلطتها".
في الانتخابات البلدية الأخيرة في بيروت، تحالفت معظم الأحزاب الطائفية، بما فيها حزب الله وخصمه القوات اللبنانية، ضد المرشحين المستقلين. ولأن البلديات لا تخضع للحصص الطائفية كما هو الحال في البرلمان، فقد دعم حزب الله وحليفه حزب الأمل قائمة موحدة ضمّت أيضًا حزب القوات اللبنانية والكتائب، ما مكّنهم من السيطرة على 23 من أصل 24 مقعدًا بالبلديات.
هذا الأمر ليس بجديد؛ بعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005، وما تلاه من انتفاضة شعبية أفضت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان، تشكّل تحالفان سياسيان كبيران —8 آذار و14 آذار— يتنافسان ظاهريًا، لكنهما ظلت متكافلة مع بعضهما ضمن نظام المحاصصة نفسه.
تعتمد هذه الأحزاب على وجود "الآخر الطائفي" كخصم، فحزب الله والقوات اللبنانية يستمدّان جزءًا كبيرًا من شرعيتهما من معاداة بعضهما البعض، لكنهما لا يترددان في التعاون عند مواجهة تهديد مشترك من خارج الطوائف، وقد يكون "الآخر" أيضًا خارجيًا، كالفلسطينيين أو السوريين.
من دون هذا "الآخر"، ستُضطرّ هذه الأحزاب والقوى السياسية إلى معالجة قضايا معيشية غير هوياتية، وهي القضايا التي تهمّ الناس فعلًا: اقتصاد منهار، وخدمات عامة معدومة، وفوارق طبقية فاحشة، وأزمات أمنية لا تنتهي.

"بيروت كانت عصية على آلة القمع والترهيب"
الياس خوري حول حرية الفكر والتعبير في لبنان: "لقد أسست الحرب الأهلية بميليشياتها الطائفية لعمليتين أعلنتا نهاية حرية التعبير: الخطف على الهوية والاغتيالات. الخطف كان بداية الوحشية، فكانت تتم تصفية ألوف المخطوفين بلا إعلان، حتى أننا بعد أكثر من ثلاثين سنة على نهاية الحرب، لا نعرف شيئاً عن مصائر سبعة عشر ألف مخطوف، ولا ندري أين دُفنوا".
لا يمكن لهذا النظام أن يستمرّ إلا بإبقاء البلاد في حالة عنف دائم أو تهديد بالعنف، مما يُبقي الشعب مرهقًا وخائفًا من المستقبل. ومن هذه الزاوية، لا يوجد فارق جوهري بين الجرائم الإسرائيلية وبين ممارسات الأحزاب اللبنانية الطائفية- ففي الحالتين، لا يجد المدنيون خيارًا سوى محاولة البقاء.
المستقبل لم يُكتب بعد
نتوقّع استمرار هذه المآسي، فوحشية إسرائيل تتصاعد، ولا تزال سوريا تلتقط أنفاسها بعد أربعة عشر عامًا من الاستبداد والحرب.
لكن اللايقين ليس أمرًا سلبيًا بالضرورة، فنحن غالبًا ما نوثّق هزائمنا أكثر ممّا نوثّق انتصاراتنا، لكن التاريخ مليء، قديمًا وحديثًا، بأمثلة عن شعوب نظّمت نفسها وغيّرت مصيرها. لم يكن سقوط الأسد نتاج أسبوع واحد من الانتصارات العسكرية لفصائل اتّحدت في إدلب، بل نتيجة سنوات طويلة من السوريين الذين خلقوا مساحات، صغيرة وكبيرة، لدعم بعضهم البعض.
حتى النظام الطائفي اللبناني نفسه نشأ في ظروف معينة كان يمكن أن تتطوّر بطرق مختلفة، أي أن لا شيء محتوم وأبدي.
ولا أحد يدرك هذه الحقيقة أكثر من الطبقة الحاكمة نفسها، ولهذا السبب، لا تتردّد هذه القوى في التوحد عندما يطرق "العدو الأكبر" -أي الشعب- أبواب النظام.
قنطرة ©