صراع بين المحلي والعالمي
دعيت إلى مدرسة ألانوس للفنون في بون. ما هي الاختلافات التي لمستيها في مجال دراسة الفنون بين ألمانيا والسودان؟
نجاة الماحي: هناك بالطبع اختلاف واضح في نظرة المجتمع لدراسة الفنون، طرق التدريس، الإمكانيات المادية المتاحة، ظروف الطالب والاستاذ المعيشية والجو العام الذي يؤثر على العملية التعليمية.
لا زال المجتمع ينظر لدراسة الفنون كمجال دراسة هامشي، لا تشجع الكثير من الأسر أبناءها لطرقه إذا ما توفرت لديهم القدرات لدراسة مجالات آخرى، كالطب مثلا. وذلك لاسباب تتعلق بتقييم المجتمع للفنان مقارنة بالمهن الأخرى، كالطب، وجوانب عملية بحتة تتعلق بالعائد المادي غير المضمون للتشكليين.
وهذا أيضا يرتبط بعدم تدريس مادة الفنون كمادة أساسية في المنهاج المدرسي قبل الجامعي. العديد من المدارس لا يوجد لديها المدرس المؤهل لتدريس المادة ولا الإمكانيات لممارسة هذا "الترف" في ظل شح الإمكانيات الذي تواجهه المدارس التي تعاني حتى من أجل دفع مرتبات مدرسيها.
كلية الفنون الجميلة والتطبيقية، تأسست كمدرسة للتصميم بدءا من عام 1946 تطورت بعدها لتصبح كلية جامعية. الأزمة التي يعيشها التعليم العالي في السودان والذي يتأثر بالتحولات السياسية والمجتمعية. رغم المنهج الدراسي الذي لا غبار عليه في ما أرى، إلا إن انعدام الحس النقدي العملي المتخصص يجعل عملية التدريس هي عملية تلقينية يسعى فيها الطالب إلى النسخ والتكرار في بعض الأحيان.
في مجتمع غير ديمقراطي و"أبوي patriarchal " يسود في بعض الأحيان مناخ لا يمنح الطلاب فرصة المغامرة والاستكشاف والتجريب وفق رؤاهم الخاصة وهي عملية متوفرة لحد كبير في ألانوس ومعظم مؤسسات التعليم العالي على مختلف أنواعها في الدول التي ترسخت فيها قيم التربية والتنشئة التي تعطي الفرد أفقا أوسع من الحرية الفردية.
خلال فترة الاستعمار البريطاني للسودان كان مجال تدريس الفنون واقعا تحت تأثير الأساتذة الأوربيين. كيف تمكن الفنانون السودانيون من تطوير أسلوبهم الخاص؟
الماحي: لكي نجيب على هذا السؤال ينبغي أن نضع في الاعتبار دور التشكيليين غير الدارسين ولا نؤرخ للفن في السودان منذ افتتاح كلية الفنون الجميلة والتطبيقية فقط. السودان بلد غني بتاريخه وإرثه الفني منذ عهد الدولة الفرعونية قبل الميلاد والعهد المسيحي ثم الدولة الإسلامية الأولى.
كل ذلك خلّف لنا إرثا عظيما من تماثيل وزخارف وفن معماري والخط العربي وألوان وصناعات شعبية متنوعة في شمال وجنوب البلاد. افتتاح مدرسة التصميم في منتصف الأربعينات والتطور اللاحق في كلية الفنون يمثل نقطة معترف بها في تأريخ الفن الحديث لكن لا ينبغي أن نفصل جزافا بين الممارسة والتدريب الحرفي قبل ذلك.
صحيح كانت بداية المؤسسة التعليمية الرسمية على يد مستر غرينلو الذي اسس مدرسة الخرطوم للتصميم في إطار نظام تعليمي كولونيالي يهدف لتخريج موظفين يسهمون في إدارة الدولة الناشئة.
الرعيل الأول من خريجي كلية الفنون أوفدوا للغرب لزيادة حصليتهم التعليمية. منهم على سبيل المثال لا الحصر أستاذنا ا إبراهيم الصلحي الذي درس التلوين في السودان ثم أوفد في بعثة دراسية لإنكلترا وعاد في الخمسينيات ليشاهد الفنون الشعبية التقليدية بعين جديدة أكثر.
ربط الصلحي وغيره بين التراث الشعبي السوداني والخبرات والثقافة الغربية في أعمال إبداعية عرفت فيما بعد اسم "مدرسة الخرطوم". هناك آخرون طوعوا الحرف العربي، مثل عثمان وقيع الله و شبرين وغيرهم. الطريف في الأمر أن لتسمية (مدرسة الخرطوم) جاءت من الخارج، تحديدا من المستر ويليامز دينيس والألماني أولى بايير الذين "اكتشفوا" خصوصيات هذه المدرسة الجديدة.
هناك صراع بين المحلي والعالمي يمكن أن يّولد الجديد. ينبغي ألا نقع في أسر التراث أو أن ننسلخ من تراثنا ونصير مقلدين تقليدا أعمى للغرب: علينا أن نضيف للعالم ونتفاعل معه.
كيف تصفين نفسك؟ هل أنت فنانة سودانية أم عالمية؟
الماحي: في هذا العصر ربما يكون التقسيم بين الغرب والشرق والشمال والجنوب تقسيما جزافيا. تخصصي كرسامة وعملي بالتدريس في الكلية منحنى فرصة، وإن كانت ضيقة، لمواكبة ما يدور من حولي وفي بعض أنحاء العالم.
أنا اعتبر نفسي إنسانة تشكيلية في المقام الأول: نهلت من ثقافات شعبي المتنوعة حيث عشت وتأثرت ببيئات مختلفة في وطني الذي تبلغ مساحته مليون ميل مربع، حيث ولدت في دارفور لأسرة من أقصى الشمال ودرست وعشت في الخرطوم وسافرت لرحلات داخل وخارج البلاد وأعيش الآن في أوروبا. لا أود تصنيف نفسي في خانة محددة. وصفت أعمالي من قبل البعض في السودان بأنها مختلفة عن السائد في اختيار الألوان والموضوعات.
في السنة الماضية تم اختياري من قبل منظمة يوروبا لإقامة معرض لفترة شهر واحد بدعم من المركز الثقافي الفرنسي في الخرطوم. هذا المعرض كان جزءا من تظاهرة ثقافية استمرت لعام كامل تم اختيار فنانة تشكيلية من أحد البلاد العربية لتعرض كل واحدة على حدة لمدة شهر واحد في مسعى لإظهار الوجه المختلف للنساء العربيات والمسلمات.
هذا الفكرة تولدت بعد الضجة التي أحدثتها قضية الحجاب وكانت فرصة طيبة لي ولزميلاتي الفنانات الآخريات لتعريف المجتمع الفرنسي بالمرأة المسلمة كمبدعة.
معرضي الثاني في أوروبا كان في لندن في شهر أكتوبر الماضي في متحف التصميم Design Museum حيث عرضت أعمالي لفترة محدودة للغاية في إطار افتتاح منظمة لوريكا وهدف لتعريف المجتمع البريطاني بالمساهمات الثقافية التي يمكن أن تقدمها الجاليات الأخرى للمجتمع البريطاني متعدد الثقافات.
وفيما يخص استقبال عملي في أوروبا، وكانت دهشتي كبيرة عندما أثارت أعمالي نفس رد الفعل الذي طالما أثارته في السودان وهو: أن اختياري للألوان والموضوعات مختلف عن السائد. هذا أمر أدهشني وأسعدني في الوقت ذاته. قد يكون الخلل في سعي بعض النقاد لتصنيف العمل الفني ووضعه في أطر محددة سلفا. هذا أمر لا يشغلني كثيرا.
أحد الموضوعات أو التيمات التي أعالجها في أعمالي الأخيرة ينطلق من دراسة الأزقة. أنا أهوي المشي وكنت ألاحظ باستمرار خلال تجوالي في السودان العلاقة بين البشر بفئاتهم المختلفة: جندر، طبقة، عمر، اللغة بالحيز المكاني المتمثل في المباني والشوارع. الأزقة والطرق هي أكثر من مجرد مساحات للعبور في بلد يعيش مخاضا كالسودان وغيره من البلدان النامية. أتامل في أعمالي الأخيرة هذه العلاقات بين البشر والمكان بكافة تبايناتها وتضاداتها وأجد فيها مادة حيوية و ذاخرة ، وذات أفق غير محدود.
ما هو تأثير السياسة علة عمل الفنانين في السودان؟ هل يواجهون صعوبات ما؟
الماحي: شهد السودان تغييرات سياسية متباينة في مرحلة ما بعد الاستقلال، وكل هذه التغييرات أثرت على العمل الإبداعي في السودان. الفنان ليس جزيرة معزولة عن مجتمعه فهو في المقام الأول مواطن معني بقضايا شعبه مثله مثل غيره من المواطنين. في حد التأثير على العمل الإبداعي استجاب التشكيليون بصور مختلفة للضغوط السياسية والاجتماعية:
فمنهم من فقد مورد رزقه تحت بعض الأنظمة ومنهم من اختار الهجرة بعيدا عن السودان، ومنهم من طوع عمله الفني كخدمة تيار سياسي أو آخر. هناك فنانون أيضا اختاروا مسارات فنية مغايرة للخروج من هذه المآزق.
رغم التغييرات السياسية المختلفة ظلت كلية الفنون الجميلة بجميع أقسامها (النحت والتلوين والخزف والتصميم الصناعي والتصميم الإيضاحي والتصميم الداخلي وطباعة المنسوجات والطباعة والتجليد والخط) تمارس أعمالها بدرجة أو أخرى.
وهذه يعود لعائلة كلية الفنون من أساتذة وموظفين وعمال وطلاب وخريجين. واجهنا صعوبات من حين لآخر وتمكنا من تجاوزها وكلي تفاؤل بأن الكلية التي يزيد عمرها عن نصف قرن يمكن أن تصمد في وجه رياح التغيير السياسي الذي يظل آنيا في عمر الحركة التشكيلية السودانية الممتد منذ فترة ما قبل الميلاد.
هل من الممكن أن تطلعينا على مشهد الفنانين السودانيين في المهجر أو في المنفى؟
الماحي: هناك رواد من التشكليين السودانيين الذين استطاعوا إثبات وجودهم في الخارج. في لندن مثلا هناك الخزاف محمد أحمد عبد الله والملوّّّّن الرسام إبراهيم الصلحي وعثمان وقيع الله. خلال العقود الأخيرة هاجر من السودان عدد كبير من التشكيليين ولأسباب مختلفة منهم من هاجر لدول الخليج العربي طلبا للرزق وآخرون تقاذفتهم المنافي في الدول الغربية وقد لا يكون من المبالغة أن نقول أن هناك تشكيليا سودانيا في كل بلد.
ما أطمح به أن هو أن يتمكن من ينجح من هؤلاء التشكليين خارج السودان في أن يشكل جسرا بين السودان وبقية العالم وأن نستطيع أن نقدم أيضا قدرا من المساعدة لزملائنا داخل السودان.
أنا شخصيا أحلم أن في عرض أعمالي بصورة أوسع والاستفادة من وجودي في أوروبا لكي أتعلم أكثر، كما أحلم بالمساعدة في التعريف بإبداع زميلاتي التشيكليات الذين تجمعهن جمعية التشكيليات السودانيات.
أجرت المقابلة دوروتيه رايشولد
حقوق الطبع قنطرة 2006
ولدت نجاة الماحي عام 1972 في دارفور، أنهت دراستها في كلية الفنون الجميلة في الخرطوم عام 1998 وعملت بعدها في الكلية كأستاذة، وهي مقيمة منذ 2005 في لندن.
www