حقائق مُرَّة لشعب "أعمى"
يكاد المرء لا يواجه الحقائق المُرَّة حول الجمهورية الجزائرية التي كانت في السابق أبِيَّة وكان يُحتفى بها حتى فترة السبعينيات باعتبارها مثالاً رائعًا لبلد خلَّص نفسه من نير الاستعمار من خلال حرب بطولية. ولكن ثمة رجل جزائري يضع هذه الحقائق المُرَّة أمام أبناء بلده؛ وهو بالإضافة إلى ذلك كان يرى أنَّه من الضروري وعلى الرغم من كلِّ أنواع التهديدات أن يبقى في بلده بدلاً عن الاستقرار في البلد الذي استعمر بلده في السابق. هذا الرجل هو الكاتب بوعلام صنصال مؤلِّف رواية "البريد الباقي" التي نشرها في عام 2006 وصدرت الآن مترجمة إلى اللغة الألمانية.
وهذه الرواية التي تحمل العنوان الفرعي "رسالة غاضبة ومفعمة بالأمل إلى أبناء بلدي" مكتوبة بلغة خالية من التنميق والزخرفة ومقتضبة ومباشرة؛ لغة تعبق علاوة على ذلك من كلِّ سطر بصحوة عميقة. ويبدأ المؤلِّف في الحديث حول هذا الموضوع من دون مواربة والتفاف.
وهو يصف السكوت على ما حدث وما يزال يحدث حتى يومنا هذا على أرض الواقع في هذا "البلد الكبير والجميل" باعتباره واحدًا من أكبر مشكلات الجزائر. "وهذا هو سبب ما وصلنا إليه في يومنا هذا"، مثلما يرد في الرواية: "كوننا مفزوعين ومعوزين وجامدين ومرتبكين ولم يعد بإمكاننا إنكار أو محبة أي شيء".
العلاج بصدمة ونداء يقظة
والهدف المعلن الذي ترنو إليه هذه الرواية الصغيرة هو أيضًا كسر هذا السكوت ذي العواقب الوخيمة وجميع أنواع الحواجز الفكرية المرتبطة به. وفي ذلك يراهن صنصال على العلاج بصدمة من أجل فتح عيون أبناء بلده وإيقاظهم من سباتهم العميق.
وصنصال يفنِّد "الثوابت الوطنية" و"الحقائق الطبيعية" - مثل "عروبة" الشعب الجزائري - ويحلِّل بقسوة جرائم القيادة السياسية وفشلها منذ نيل الاستقلال؛ "تلك التماسيح القديمة التي تلتف حول ثقب الماء؛ بفم مفتوح وعينين غير إنسانية وهي على استعداد لاستخدام ذيلها سوطًا تضرب به".
وكذلك لا يسلم بأي شكل من الأشكال "السيد عبد العزيز بوتفليقة" من انتقادات صنصال. فهذا الرئيس الجزائري يعتبر بالنسبة لصنصال "طاغية من أسوء نوع" وهو يتحمَّل "مسؤولية كبيرة جدًا" عن التطوّرات التي حلَّت بالجزائر، مثلما صرَّح المؤلِّف بذلك في حوار أجرته معه صحيفة "لا ليبرتي" La Liberté السويسرية.
ظلال كثيرة وضوء قليل
وصنصال الذي تولَّى لأعوام عديدة منصبًا رفيعًا في وزارة الصناعة الجزائرية - حيث كان المدير العام لقطاع الصناعة - لا يستطيع رؤية إلاَّ القليل من بوارق الضوء والأمل أثناء استحضاره لتاريخ الدولة الجزائرية المستقلة الذي يبلغ الآن تقريبًا خمسين عامًا.
ويقول صنصال لقد تمت مباشرة في اليوم الذي أوقف فيه إطلاق النار "خصخصة" كفاح الشعب الجزائري من أجل استقلاله من قبل عناصر كانوا معنيين في الدرجة الأولى بنجاحهم المهني وبوظائفهم المربحة. وصنصال لا يتورَّع عن الحديث حول "سرقة المصرف في هذا القرن" والتي اقترفها أشخاص تصرَّفوا "مثل لصوص الدجاج العاديين".
ويصف المؤلِّف بالإضافة إلى ذلك بعض بوارق الضوء والأمل في عهد "الرئيس العابس هواري بومدين". لقد تولَّى الرئيس هواري بومدين رئاسة الدولة الجزائرية من عام 1965 حتى عام 1978. ووصل إلى دفة الحكم بدعم من الجيش ومن خلال انقلاب دموي، كما أنَّه كان يتبنى نظامًا اشتراكيًا يستند إلى الإسلام.
وكذلك تظهر في ضوء إيجابي ثورة الشباب الجزائريين في شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر عام 1988؛ "الانتفاضة الحاسمة والمناهضة للفاشية" والتي أتاحت خلال وقت قصير مجالاً لتنفّس الصعداء وحتى لحلم جماعي، ولكن لقد تم قمعها والدوس عليها بالدبَّابات بعد خمسة أيَّام من قبل "أجهزة الدولة الشمولة".
وفي آخر الأمر يعتبر صنصال أيضًا الفترة القصيرة لحكم الرئيس محمد بوضياف الذي تم اغتياله بعد ستة أشهر فقط من توليه الرئاسة من قبل حارس شخصي بمثابة بارقة ضوء؛ وهذه جريمة سياسة لم يتم الكشف عنها حتى يومنا هذا.
ضياع الأعوام الحسنة
وبصرف النظر عن هذه الأشهر القليلة فإنَّ صنصال لا يكاد يستطيع ملاحظة شيء إيجابي في تاريخ الجزائر المستقلة وعلى الرغم من الإيرادات الكبيرة التي تتدفَّق على هذا البلاد من خلال صادرات النفط والغاز. ويتساءل المؤلِّف: "فيم استخدمنا هذه الأيَّام المباركة؟" وترد إجابته في منتهى الغضب والسخط: لم نستخدمها في أي شيء.
"في الأمتعة القديمة وتجميع الهوائيَّات والسعي من شفيع إلى شفيع والحصول على تأشيرات المرور وجمع أغراض وقطع الغيار وكذلك جمع الخردة والتزوّد بالمؤن من أجل الشتاء ومن ثم لنسخر من بعضنا بعضًا ونقلِّد الفوضى العالمية (...) من أجل القضاء على الوقت وإضاعته".
ويصل صنصال إلى نتيجة مفادها أنَّ لا أحد من القادة الجزائريين قاد البلاد في الحقيقة ببعد نظر وأوصل السفينة إلى الاتِّجاه الصحيح. ولكن بدلاً عن ذلك تم على مدى عقود من الزمن تنميق العبارات السياسية الجوفاء وتم تمجيد الثورة وممارسة ثقافة قيادية عنيفة وتم في آخر المطاف إنشاء نظام استطاع بمساعدته الوجهاء وأصحاب المناصب استغلال الثروة الوطنية كيفما يشاؤون. وكذلك يرى صنصال أنَّ "سلب البلاد المنظَّم" من قبل أصحاب السلطة المختصين يعتبر واحدًا من الثوابت المحزنة في تاريخ الجزائر الحديث.
حرب ثقافية متعدِّدة الجبهات
وصنصال يعي تمامًا أنَّه يرهق أبناء بلده بالكثير ويجرح كلَّ الأحاسيس الممكنة وأنَّه بالإضافة إلى ذلك يقود حربًا حقيقية متعدِّد الجبهات. فهذا المؤلِّف لا يدع أحدًا - لا حزب الوحدة السابق ولا قوَّات الأمن ولا حتى الإسلامويين الذي يرفض نظامهم الاجتماعي رفضًا قاطعًا. ولا بدّ من الخوف من أنَّ صنصال يعرِّض نفسه بهذا إلى خطر كبير.
وبما أنَّ جميع كتبه أصبحت ممنوعة في الجزائر منذ أن نشر رواية "البريد الباقي"، فمن الممكن أن يتعرَّف أبناء بلده على محتويات هذه الرواية اللاذعة إلى حين فقط عبر طرق غير مباشرة. ويتبادر بالنسبة للمراقبين الأوروبيين السؤال عن مدى وحجم تشاؤم صنصال في وصفه الأوضاع السائدة في الجزائر من خلال خيبة أمله العميقة في مجرى الأحداث والتي تبدو بهذا المعنى مبالغًا فيها. غير أنَّ كلَّ الدلائل تشير إلى أنَّ الأوضاع الحقيقية في الجزائر أقرب بكثير إلى رأي صنصال منها إلى البلاغات الرسمية.
بيآت شتاوفَر
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: قنطرة 2008
بوعلام صنصال، "البريد الباقي" Postlagernd Algier، ترجمة Ulrich Zieger، صدرت عن دار نشر Merlin Verlag, Vastorf 2008، في 55 صفحة.
قنطرة
العنف الإسلامي في الجزائر:
مكافحة الإرهاب بين المصالح الأوربية وتبادل الاتهامات
طلبت الحكومة الجزائرية مرارا من الاتحاد الأوروبي إدراج مجموعتين إسلاميتين أصوليتين جزائريتين في "لائحة المنظمات الإرهابية". لكن رغم موافقة الاتحاد الأوروبي على ذلك، إلا أنه لم يقم حتى الآن بأية خطوة ملموسة. بيرنهارد شميد عن الخلفيات.
السياسة والاقتصاد في الجزائر:
عسكرة الاقتصاد عسكرة الاقتصاد تعيق النهضة الشاملة
تشهد الجزائر في الوقت الحاضر ازدهارا اقتصاديًا لم تعشه من قبل، وذلك لأنَّ سعر النفط المرتفع يعود على ميزانية الدولة بالمليارات. ولكن على الرغم من ذلك فإنَّ هذا الانفراج المالي لا يشكِّل انتعاشًا في اقتصاد البلد بقدر ما يزيد من ثروات النخب
أو الكشف عن الطبقات المغمورة للهوية الجزائرية:
البحث عن الجذور
مشروع طموح في مدينة وهران الجزائرية يربط بين العمل المحلي والبحث عن صياغة جديدة للهوية الوطنية، تعبر عن الرغبة في انطلاقة جديدة لدى الشباب والمثقفين الجزائريين. بقلم بيآت شتاوفر.