جدلية المهربين وضحاياهم
مأتم في منطقة بئر علي بن خليفة، من محافظة صفاقس جنوب العاصمة تونس. مأتم لواحد من أقلية شباب الجهة ممن لم يغادروا ربوع ريفهم. مأتم فيه عشرات النساء من القرية وقلة قليلة من رجال القرية من كبار السن وندر نادر من أطفال القرية وشبابها.
لا عزاء هنا في غياب الشباب من أنداد الشاب الفقيد، كلهم هناك في أرض أوروبا في موجات هجرة سرية ظلت تستنزف هذه المنطقة حتى جف معين أحيائها من الشباب وبقيت النساء والشابات يتلقين بعضا من يوروهات فرنسا وجارتها ألمانيا مرورا بمراكز الإيواء في إيطاليا…هكذا بدت الصورة في منطقة أم شوشة من ريف بئر علي بن خليفة من محافظة صفاقس جنوبي العاصمة تونس. أرياف هذه المدينة وأراضيها المغبرة ومسالكها الوعرة أصبحت طاردة لكل شبابها سيما صغار السن فيها.
بالأمس القريب ودعت جميلة ابنها الذي يبلغ 13 عاما ليستقل مركب الهجرة السرية نحو إيطاليا بعد أن سبقه إلى هناك أخوه الأكبر سنا ووالده…سلمت جميلة ابنها لعبارة و من ثم سفينة قطعت أميالا في ليلة مقمرة، وجدت جميلة التي جاءت تواسي أم الفقيد قريبتها، سلمت ابنها ذا الثلاثة عشر ربيعا لأمواج البحر و عادت لتواصل العيش مع ابنتيها من الإناث، ثلاثة نساء يتلقين مساعدة من ثلاثة رجال هناك في فرنسا هم زوجها وطفلاها.
هكذا بدت لي الصورة شاحبة وكأنها مشهد من فيلم جيد الإخراج لمدينة تفننت شبكات تهريب البشر في إفراغها من شبابها في سياسة تهجير أصبح البقاء فيها لكل شاب صغير أو طفل خروجا عن المألوف فأما القاعدة فهجرة سرية للعشرات بشكل أسبوعي …
وأما أم الفقيد فقد أرغمته على المكوث هنا دون أنداده لأنها هددته بعدم الرضا عليه إن هو "حرق" لأنه وحيدها. لكنها وجدت نفسها تودعه اليوم بعد أن غدرت به ذبحة صدرية، مشى الكل خلف جنازته، رجال لكنهم من المتقدمين في السن فأما أبناء جيله فهناك في أرض أوروبا. جفت ربوع بئر علي بن خليفة وبدت الأرض عطشى والوجوه شاحبة من كثرة الأتربة، والمناخ حار وجاف، والبيوت المترامية البعيدة عن بعضها يفصل بينها ثنايا يصعب التنقل فيها حتى للعربات ذات الدفع الرباعي، ثنايا وعرة أمام نساء وأطفال ورجال هذه القرى.
تملكني سؤال إذاً: وهل ثمة بعد هذا الجفاف سبب وحيد للبقاء؟!
تأشيرة العبور نحو قرقنة: هل أنت قرقني؟!"
تركت خلفي تلك الربوع الطاردة، استقلٍلْتُ الباخرة رجوعا إلى جزيرة قرقنة من محافظة صفاقس، توزع في مدخل الباخرة أعوان الأمن يتفحصون كل الركاب.
جال عون الأمن بالسيارة، أدخل رأسه قليلا يريد أن يدرس وجوه ركاب سيارتنا المتوجهة من محطة العبور في صفاقس نحو سواحل جزيرة قرقنة… منذ فترة أصبح ركوب الباخرة لحظة صعبة ودقيقة في تفاصيل القاصدين جزيرة قرقنة التي لا يمكن العبور إليها سوى عبر العبارة. تشديدات أمنية، ورقابة على زوار جزيرة قرقنة.
لقد أصبحت الجزيرة مثل تلك البلدان الأوروبية نفسها، العبور إليها بتأشيرة عنوانها: هل أنت قرقني؟!"
وسط غابات قرقنة، في طقس صيفي حارق، بين كرومها وعنبها، تحت إحدى النخلات الفارعات، افترش سامح (اسم مستعار) إحدى الحاشيات القديمة، هنا يمضي يومه الثالث مختبئا عن أعين رجال الأمن الذي شددوا الخناق على بيوت "القراقنة ". وذلك بعد أن توسعت شبكة الهجرة السرية وأصبح كثيرون من أهل الجزيرة يعملون في مجال تنظيم الرحلات.
سامح ذلك الشاب الذي مازال طفلا عمره 17عاما، سليل عائلة ميسورة الحال تعمل في قطاع فلاحي تراجع مردوده في السنوات الأخيرة.
ليس البحث على المال ولا الحاجة إلى تحسين الوضع هو ما يشغل سامح، بل هو بحاجة أكثر لأن يكون مطمئنا على مصيره مستقبلا.
رافقنا سامح وسط الغابات، لقد جاء من معتمدية بئر علي بن خليفة التابعة لولاية صفاقس إلى جزيرة قرقنة بغرض الهجرة.
جرب سامح حظه منذ عام في الهجرة السرية من منطقة الصخيرة التابعة هي الأخرى لمحافظة صفاقس. اعترض سبيلهم الحرس البحري فعاد مع من هم معه إلى ديارهم محملين بالخيبة وخسارة حوالي ستة الاف دينار أي ما يعادل ألفَيْ يورو.
لكن سامح متألم جدا لما يتذكره من ضرب وسب وشتم تعرضوا له أثناء عملية إرجاعهم إلى السواحل التونسية بل إنهم كانوا يخافون يومها من إغراق مركبهم.
بدا سامح واثقا من إمكانيات الوصول إلى الضفة الأخرى هذه المرة. لقد أخبره "الحراق" أي الشخص الذي يؤمِّن له هجرته السرية أن قرقنة نقطة انطلاق آمنة ومضمونة الوصول.
يقول سامح متحدثا عن دوافع رغبته الملحة في الرحيل:" لم أكن أفكر في الهجرة السرية منذ عام. كنت أشتغل وأدرس هنا وظروفي جيدة جدا. لكني عندما أقارن الوضع بين تونس وأوروبا ألاحظ أن الموظف يمضي حياته عملا متواصلا من أجل شراء سيارة وبناء بيت لا غير. في حين أنه في أوروبا وفي ظرف ثلاث سنوات يمكن أن تحصِّل بيتاً وسيارة وتؤسس مشروعك الخاص. لدي مثلا ابن عمي الذي عاد هذا الصيف بسيارة ووضعيته المادية على أحسن وجه. لقد درست الأمر ووجدت أنه لا يمكن أن أنجح هنا، لذلك قررت الهجرة السرية مثلما قام بذلك أولاد عمي أريد أن أضمن لنفسي مستقبلا آمنا مثلهم".
اضطر سامح أن يدفع رشوة بخمسمائة دينار (حوالي 150 يورو) ليستقل الباخرة التي تربط صفاقس بقرقنة. لقد أمن له منسق الهجرة الصعود إلى الباخرة دون الكشف عن هويته. ما إن وصل سامح إلى محطة الوصول في سيدي يوسف من جزيرة قرقنة حتى تلقفه شخص آخر وأوصله إلى مكانه هنا وسط الغابة حتى يتم إيواؤه في بيت إلى أن يصبح المكان آمنا.
يمضي سامح وسط أشجار الزيتون الوقت في التواصل مع كل أصدقائه وأفراد عائلته في فرنسا. يحدثونه عن الوضع هناك في فرنسا فهو أفضل من تونس من ناحية الحقوق والقوانين والنظافة، بحسب اعتقادهم. يخبره بعضهم ممن مازالوا في مراكز إيواء المهاجرين غير النظاميين في إيطاليا أنهم اليوم يتعلمون اللغات ويستفيدون من تطوير مهاراتهم في اختصاصات عديدة في انتظار مغادرتهم المركز.
واجه سامح رفض والديه هجرته السرية لكنهم لم يجدوا مجالا لإثنائه بعد أن أصبح الحي فارغا من كل أترابه الذي هاجروا أيضا. لم يعد أمام أم سامح وأبيه إلا أن يرضخا لقرار وحيدهما الذي أصبح مسكونا بهاجس الرحيل.
فحتى محاولاته الحصول على تأشيرة باءت بالفشل بعد أن طلب الهجرة النظامية فباءت محاولاته بالفشل. إنهم يغلقون باب التأشيرة فحتى قريبة سامح التي يعيش زوجها منذ سنوات في فرنسا لم توافق لها السفارة على تأشيرة الالتحاق به مع ولديها.
اختار سامح قرقنة نقطة انطلاق هجرته السرية فسواحل إيطاليا على مسافة 12 كيلومترا فحسب. هو الآن ينتظر أن يهدأ الطقس حتى تبدأ رحلته إلى جزيرة لامبيدوسا الإيطالية. يضيف سامح وهو يفسر تفاصيل الرحلة ويقول: "هل هناك من حل آخر؟ أبدأ.. هنا في تونس نحن ميتون أيضا هنا أنا جسد دون روح ليس من فرق، أنا هنا ميت بالحياة لن تعود لي الحياة إلا عندما أصل إلى هناك. لدي ابن عمي وجدي وعائلتي هناك ولدي أصدقاء ممن درسوا معي ولكن الأكثرية أبناء عمومتي وانا ذاهب إليهم لأنهم سيؤمنون معيشتي. ابن عمي هاجر هجرة سرية منذ عشر سنوات وقد تزوج ولديه طفل وهذه الأيام خلال الصائفة عاد بسيارة فاخرة ووضعه المادي تحسن بينما الكثيرون ممن بقوا في حينا لم يتقدموا خطوة بسبب غلاء المعيشة ".
بعد ثلاثة أيام من لقائنا معه وصل سامح وجهته ونجحت محاولته هذه المرة، أرسل لنا صورته وسط المركب. رافق سامح ليلتها مئات من المهاجرين غير النظاميين الذين كانوا مثله سعداء في بلوغ غايتهم القصوى: العيش في أوروبا.
"نحن دولة داخل الدولة.. لنا عتاد ونخترق المؤسسات"
من أوصلنا إلى الشاب سامح ليس إلا من أتى به إلى قرقنة. عبد اللطيف، اسم مستعار لأحد بحارة جزيرة قرقنة. بدا عبد اللطيف فخورا بما يقوم به من عمل في تحقيق أُمنيات الشباب التونسيين وإيصالهم إلى السواحل الأوروبية.
لم يتوقف عبد اللطيف وهو يحدثنا عن التفاصيل عن القول إنه ملاك الرحمة لهؤلاء وإنه يقوم بعمل جيد يساعد به شباب تونس في بلوغ هدفهم أمام انسداد أفق الحصول على التأشيرة.
بدأ عبد اللطيف العمل في مجال تأمين الهجرة السرية منذ عام 2011 نجح في كل ما نظمه من سفرات خلال السنوات الماضية. عمل في كل مفاصل الهجرة السرية فهو من يبحث عن زبائنه وهو من ينسق، وهو من يأتي بهم من مناطق أخرى وهو من يخفيهم عن الأعين وهو أيضا من يقودهم عبر المراكب نحو إيطاليا.
بلغ عبد اللطيف درجة عالية من الخبرة، فهو واحد من أقدم منظمي الهجرة السرية في إحدى مناطق جزيرة قرقنة. كون ثروته الصغيرة، أمن لنفسه ولعائلته من عائدات "الحرقة" بيتا وسيارة ورصيدا في البنك.. نجح كذلك في تأمين رحلة هجرة سرية لابنه الأصغر الذي يقطن الآن في إيطاليا. بدا عبد اللطيف متمرسا وعارفا بكل خيوط اللعبة، إذ لديه في الكثير من البيوت أذرع تساعده على تأمين رحلات زبائنه.
تم القبض على عبد اللطيف في مناسبتين وأودع السجن بسبب تهم لا علاقة لها بالهجرة السرية. يقول إنه في كل مرة يتم مداهمة منزله ولكنهم لا يجدون أي شيء يمكن أن يمثل حجة أو دليلا على كونه جزءاً من شبكة تعمل في إطار تأمين رحلات الهجرة السرية.
تحدثنا مع عبد اللطيف طويلا وأخبرنا عن طريقة عمل شبكة الهجرة غير النظامية. يتمثل الأمر في وجود وسيط أي ما يسمى (السمسار) يجمع الراغبين في الهجرة من جزيرة قرقنة و خاصة من بقية المناطق الأخرى.
يتم تجميع الشباب الذي يصلون إلى الجزيرة بطرق عديدة. البعض يدفع مبلغاً مالياً "رشوة" لكل من يحاول منعهم من دخول الباخرة المتجهة من صفاقس في اتجاه الجزيرة. ومنهم من يحالفه الحظ للمرور دون التثبت من هويته.
لكن بالنظر إلى التشديدات الأمنية برزت أحيانا رحلات عبر مراكب الصيد من شاطئ سيدي منصور من محافظة صفاقس إلى حدود شواطئ جزيرة قرقنة.
عند وصول "الحارقين" أي الشباب الراغبين في الهجرة غير النظامية إلى محطة الوصول في منطقة سيدي يوسف يتم نقلهم بطرق مختلفة وإخفاؤهم وسط بيوت أهالي الجهة ممن أصبحوا يؤمنون رزقهم وعائداتهم أيضا من هذه المهنة.
كما أن البعض من سكان الجهة أصبحوا يؤجرون منازلهم بأسعار خيالية لضمان السكن للمهاجرين السريين وصولا إلى لحظة الرحيل.
يحدد الممسكون بدواليب الهجرة غير النظامية أسعارها ويحصلون على مبالغ تغطي ما يدفعونه من رشاوى أو لتغطية مصاريف السكن والأكل والتنقل.. كل خطوة بأجرها مثلما يعلمنا بذلك عبد اللطيف.
مبالغ مالية هائلة تفوق إمكانيات الدولة أحيانا بحسب ما يعترف عبد اللطيف.. فالإمكانيات اللوجستية والمادية والمعدات المتوفرة عند منظمي الهجرة غير النظامية أكثر وأجود من إمكانيات الدولة نفسها.
هجرة غير نظامية ورجوع نظامي
منذ عامين قرر نضال بعد أزمة نفسية أن يهاجر سرا. لم يكن الأمر مطروحا لديه لكنه في لحظات من اليأس والتعب النفسي قرر أن يركب البحر. لم يكن الأمر صعبا فأصدقاؤه وأبناء جيله بعضهم يعمل في مجال تأمين رحلات الهجرة غير النظامية.
يصرح الشاب نضال البالغ من العمر 27 عاما: «حرقنا (هاجرنا سرّا) حوالي السابعة مساء وصلنا التاسعة صباحا إلى لامبيدوزا. بقينا 11 ساعة في البحر.. كانت ساعات صعبة تحدينا خلالها الموت. يكون هدفك الأكبر في تلك اللحظة أن تظل حياً وتتساءل: هل ستصل أم لا؟ وصلت إيطاليا وبدأت رحلة جديدة. هاجرت ولم أكن أدري ماذا سيحصل أو ماذا ينتظرني هناك. أمضيت أياما طويلة في إيطاليا ثم مررت نحو فرنسا وبدأت معاناة البحث عن عمل.."
أمضى نضال عامين من العمل في فرنسا جمع بعض المال وتعرف على حبيبته. بقي هناك في ظروف معيشية صعبة إلى أن تسلم أوراق الإقامة في فرنسا. خطوة هرع بعدها مباشرة إلى العودة لجزيرته قرقنة بين أحضان عائلته.
بعد عامين من الغربة ها نحن نلتقي نضال في مقهى وسط منطقة الرملة. هو سعيد اليوم أنه بإمكانه السفر بطريقة نظامية متى يشاء سيما بعد أن بدأ مشروعه الخاص الذي يحدثنا عنه في هذا الفيديو:
جزيرة قرقنة هي واحدة من أكبر الجزر الواقعة في البحر الأبيض المتوسط وتتبع للجمهورية التونسية. تعد هذه الجزيرة محطة هامة للهجرة غير الشرعية نحو السواحل الأوروبية، حيث يبحث العديد من الأشخاص عن فرصة للهجرة إلى أوروبا عبر البحر المتوسط.
يعتبر هذا التحدي عبئا كبيرًا على السلطات التونسية والمجتمع المحلي في جزيرة قرقنة.
"نحن ملائكة رحمة لسنا مهربي بشر"
في فترة الصيف تشهد جزيرة قرقنة تواجدًا متزايدًا للمهاجرين غير النظاميين الذين يحاولون الوصول إلى السواحل الأوروبية عبر قوارب صغيرة غير آمنة أحيانا.
يعرض هذا التحدي حياة العديد من هؤلاء المهاجرين للخطر، حيث يواجهون العواقب الوخيمة للسفر عبر البحر الهائج، ويكونون عرضة للاحتيال واستغلال المهربين. لكن سامي الشاب من إحدى مناطق جزيرة قرقنة يرى في بلدته الصغيرة أنها أكثر أمانا بالنظر إلى دراية شبابها بفنون الإبحار. سامي اسم مستعار لشاب من بين كثيرين ممن عملوا في مجال تأمين رحلات الهجرة غير النظامية. منذ 2017 يؤمن سامي وصول مئات من شباب تونس نحو إيطاليا.
بحسب سامي يساعد الموقع الجغرافي لجزيرة قرقنة على أن يجعل منها نقطة عبور مثالية للهجرة نحو لامبيدوزا. كما أن انخفاض مستوى المياه داخل الجزيرة الذي لا يتجاوز الخمسة الأمتار داخل المياه الإقليمية يقلل من الخطر على حياة المهاجرين. انطلقت الهجرة غير النظامية من جزيرة قرقنة بحسب الشاب سامي منذ بداية التسعينات لكنها بلغت ذروتها اليوم. فقد أصبح "الحراقة" يواجهون ضغطا كبيرا بسبب الطلب المتزايد عليهم.
يقول سامي متحدثا في هذا السياق: «أحيانا أنت تمشي في الشارع ويعترضك راغبون في الهجرة السرية. منذ نعومة أظافرنا ومنذ سن 12 نحن بحارة ونعرف البحر جيدا. بالنسبة لقرقنة الجميع هنا يفهم البحر ونعرف الطرق بالنسبة لقرقنة فيها آلاف البحارة ولكن ليسوا جميعهم مهربين فيهم سبع أو ثماني أنفار مهربين. الباقي هناك منسقون و يساعدون على الترتيبات".
يدرك سامي وغيره من شباب جزيرة قرقنة أن مهنتهم ليست بالهينة. يعلم الفتى أنه مصنف كتاجر بشر وأنه مهدد في أي لحظة بالسجن وانكشاف أمره لدى السلطات الأمنية. لكنه يعتبر نفسه مجبرا على مهنة تنسيق الهجرة السرية المحفوفة بالمخاطر. لقد تراجعت الموارد السمكية في بحر جزيرة قرقنة وشح الإنتاج مما أدى، بحسب سامي، بالبعض إلى ممارسة التهريب إلى أوروبا لتحسين مستوى عيشهم.
يفسر سامي وجهة نظره موضحا: "حتى أعوان الأمن يصنفوننا مهربي بشر. نحن في قرقنة في الآونة الأخيرة نواجه صعوبات كبيرة ومعظم الشباب بحارة فإذا لم يجدوا رزقهم في البحر فسيبحثون عنه في مجالات أخرى ولكن المستفيدين أكثرهم من كبار المهربين بقية السكان هم منسقون يسترزقون لتأمين عيشهم فقط بقليل من المال".
التقينا سامي وسط قاربه الصغير في إحدى قرى جزيرة قرقنة. كان يتخذ كل الاحتياطات ليكون بعيدا عن عيون أعوان الأمن التونسيين الذين كثفوا في الأشهر الأخيرة من الرقابة على السواحل التونسية سيما في جزيرة قرقنة التي تعد وجهة الباحثين عن رحلات هجرة غير نظامية آمنة.
يعتبر سامي نفسه مع أبناء حيه أهلا للثقة في تأمين حياة المهاجرين غير النظاميين ذلك أن غيرهم من المهربين لا يعيرون اهتماما كبيرا لحمولات مراكب الهجرة غير النظامية التي يتم حشر المهاجرين فيها و هو ما يكثف حوادث الغرق في السنوات الأخيرة فتكون حصيلة الغارقين ثقيلة في مناسبات عديدة.
يصرح سامي متحدثا عن حرصه الكبير على سلامة زبائنه: "هناك مهربون ومنظمو هجرة غير نظامية من قتلة الأرواح لكن نحن هنا في جزيرة قرقنة نحرص على سلامة زبائننا فإذا كان الزورق يرفع مائة فنحن نضع فيه ثمانين شخصا فقط.. نحن هنا في خدمتهم ليصلوا آمنين نحو الضفة الأخرى. هناك مهربون مجرمون قتلة للأرواح لا يحرصون على سلامة ركابهم و لكن من خارج منظمي الهجرة في جزيرة قرقنة نحن نعمل بشكل منظم وأنا شخصيا اعتبر نفسي ملاكا للرحمة لأني أنقذ أبناء مناطقنا المهمشة من جحيم البقاء في هذا البلد الذي ليس فيه إمكانيات العمل بكرامة".
في حديثنا المطول معه أخبرنا سامي الاسم المستعار لمنسق رحلات الهجرة غير النظامية أن معظم رحلات الهجرة السرية قد تغيرت، فملامح المقبلين عليها من مختلف شرائح المواطنين في تونس. لقد كثر خلال السنوات الأخيرة عدد المهاجرات من المطلقات مع أطفالهن، بل إن عائلات من أحياء كاملة يختبؤون داخل البيوت في انتظار فرصة الرحيل. يعتقد سامي وبسبب فرط الإقبال اليومي على تهريب المهاجرين السريين أن مناطق تونسية بأكملها أفرغت من شبابها. ولعل ما يلفت الانتباه بالنسبة له أن عدد الفتيات المهاجرات أصبح يضاهي أو يفوق أحيانا عدد الشباب من الفتيان.
ويرجع سامي ذلك إلى وضع اقتصادي واجتماعي صعب وبيئة طاردة أصبح يواجهها الشباب في ظل انعدام الأمن وغلاء المعيشة. يضيف سامي: «ليس هناك مراكز ثقافية، ليس هناك تأطير للشباب لم يعد هناك مرجعيات و لا نوادٍ ولا أي مجالات تستقطب الشباب اليائس، لقد قضي على كل سبل الترفيه والثقافة ومن نتائج ذلك الطبيعية أن تنتعش الهجرة غير النظامية. عندما يرتادون المقاهي لن يكون أمامهم سوى موضوع الهجرة السرية. بلد قضى على طموحات شبابه حتى حين يكون مترفها ماديا يقول لك أريد أن أرحل من هنا أسوةً بأقرانه".
و ينهي سامي حديثه معنا متحدثا في هذا الفيديو عن وجهة نظره بشأن الحلول التي يجب اتخاذها:
حتى وإن كانت الحكومة التونسية تبذل جهدًا كبيرًا للتصدي لظاهرة الهجرة غير النظامية، من خلال تعزيز التعاون الدولي مع الدول الأوروبية وتعزيز الرصد والمراقبة على السواحل في جزيرة قرقنة لكن نزيف الهجرة السرية متواصل سيما خلال فترة الصيف. إذ تشير أرقام منظمات المجتمع المدني إلى وصول الآلاف يوميا إلى السواحل الأوروبية.
ومع تزايد التحديات المتعلقة بالهجرة غير الشرعية في جزيرة قرقنة وغيرها من مناطق الانطلاق في الجمهورية التونسية يتعين على المجتمع الدولي والجهات المعنية العمل بشكل مشترك للبحث عن حل شامل ومستدام لهذه القضية الإنسانية، بحيث يتم حماية حقوق المهاجرين ويتم تقديم الدعم اللازم للجهات المتضررة من هذه الظاهرة.
"ملف الهجرة السرية مشروع توطين تقوده شبكات دولية في الاتجار بالبشر"
ويُذكر أن تونس وقعت في شهر يوليو/تموز الماضي 2023 مذكرة تفاهم مع المفوضية الأوروبية وتتضمن هذه الاتفاقيّة حزمة مساعدات اقتصادية ومالية تفوق المليار يورو على المدى الطويل لإنعاش الاقتصاد، ولكن أيضا مساعدات عاجلة موجهة لموازنة الدولة والحرس البحري، بهدف تعزيز الجهود لمكافحة مهربي البشر والتّصدي لموجات الهجرة غير النظاميّة المنطلقة من السواحل التونسية.
وكان الرئيس قيس سعيّد قد اعتبر أن ملفّ الهجرة غير النظاميّة في تونس قد تحوّل إلى مشروع توطين تورّطت فيه شبكة دوليّة للاتجار بالبشر و أطراف أخرى داخل التراب التونسي و أثناء اجتماع له بمجلس الأمن القومي قال سعيّد أن ما يعرف بالهجرة غير النظامية هي هجرة غير إنسانية وعملية تهجير غير مألوفة تتولاها شبكات إجرامية تتاجر بالبشر وبأعضائهم وتسعى إلى الرّبح السهل.
أضاف قيس سعيّد -وفق مقطع فيديو نشرته صفحة رئاسة الجمهورية- أن الاتجار بالبشر وأعضائهم أصبح من أكبر الأسواق العالمية للشبكات الإجرامية لافتا الانتباه إلى تسجيل تحويلات مالية طائلة نحو تونس لفائدة الأفارقة الموجودين في تونس وهو ما اعتبره دليلا على أن من يتاجرون بالبشر وبأعضائهم يستهدفون أيضا الوطن.
أَجْرَتْ التحقيق لـ "مهاجر نيوز": مبروكة خذير