مفكروا الإصلاح الديني أمام مفترق الطرق
رافقت الآمال وصول المفكر الإصلاحي محمد خاتمي عام 1997 إلى منصب الرئاسة. أما الآن فيخيّم يأس فادح على نفوس السكان الإيرانيين وعلى أقطاب النهج النقدي في صفوف رجال الدين. الباحث والصحفي نفيد كرماني يكتب عن ذلك.
محمد مجتهد شبستري رجل يميل إلى الوقار في مظهره وكتاباته، ومع أنه يدرك المفعول السياسي لأعماله فإنه لا ينتمي إلى نمط العديد من مفكري الإصلاح الديني في إيران الظاهرين للملأ رمزا واضحا، بل ظل تمشيا كاملا مع طبيعته وفكره كعالم من علماء الدين، ينصب كل همه على مجال البحث والتفسير. وحتى من ناقض نهج شبستري فإنه لا يستطيع أن يتهمه بالضحالة فيما يختص بعلوم الدين. فلا أحد غيره من علماء الدين يتعمق مثله في مصادر الإسلام والشيعة بغرض الكشف عن جوانبها المظلمة ومحرماتها.
ردا على سؤال حول الاتجاه الذي يتجه نحوه الفكر الإصلاحي الديني بعد أن أصبح في جوانب عديدة منه بحكم المتعارف عليه يقول شبستري إن هذا الأمر غريب الأطوار حقا. ويضيف بأن طرح النظريات الإصلاحية كان حتى قبل بضعة أعوام يخلق في إيران ولا سيما في صفوف رجال الدين لغطا وهيجانا كبيرين. أما الآن فقد أصبح الكتاب الشباب العلمانيين ينظرون إلى "دعاة التنوير الديني" وكأنهم متخلفين مما جعلهم موضعا للنقد و فقدوا أهميتهم وإعتبارهم.
ويرى شبستري بأن ذلك يعكس انتصارا غريبا للمدرسة الإصلاحية، أي انتصارا يتسم بطابع الهزيمة. فهو يرى بأنهم نجحوا فكريا أما سياسيا فلم تترك أفكارهم نتائج مرئية. صحيح أن هناك توافقا بين الديموقراطية وحقوق الإنسان والتشريع العلماني وبين الإسلام والتقاليد الشيعية، لكن هذا التوافق ليس واردا على ما يبدو مع الجمهورية الإسلامية.
وهنا سأله الكثيرون من طلابه عن الفائدة التي يجنيها المرء من وراء إصلاح الدين طالما لا يمكن إصلاح الدولة نفسها.رد شبستري بأنه يقف ربما في مفترق الطريق ، بمعنى أنه إما يصبح ناشطا سياسيا يسعى إلى تحويل أبحاثه إلى أرض الواقع وإما أن يكف عن التفكير فيما يتركه عمله من تأثير اجتماعي ويقصر نشاطه على الجدل الديني المحض.
المتمرد الوحيد
تحتل ولاية الفقيه وهي مرجعية السلطة في الجمهورية الإسلامية التي تضع الحكم في الدولة بيد علماء الدين، منذ القدم مركز الأقلية في صفوف علماء الدين الشيعة. صحيح أن بعض العلماء دعوا في القرون الماضية إلى تكليف رجال الدين بقيادة الأمة ، لكن أغلبهم ساروا في مسار الشيخ الطوسي الذي أعطى في القرن الحادي عشر من أرضية علوم الدين تبريرا لضرورة امتناع رجال الدين عن ممارسة السياسة.
وقد ظهرت فكرة التيوقراطية الشيعية للمرة الأولى في القرن التاسع عشر. وفي ستينيات وسبعينيات القرن العشرين أعد خميني الذي أصبح فيما بعد قائدا للثورة أسس ولاية الفقيه أو ما سمي "حكم رجال الدين" الذي أصبح منذ انطلاق الثورة الإسلامية عام 1979 قاعدة للدولة.
وحتى هذا اليوم لم يلتزم بين كبار آيات الله البالغ عددهم قرابة العشرين بالقراءة السياسية الواضحة للإسلام سوى عالم واحد هو حسين علي منتظري الذي اتسم بنقده الحاد للفكر الديني السائد. وكان منتظري مرشحا لخلافة خميني إلا أنه عزل من منصبه في عام 1989 قبل وفاة خميني بوقت قصير بعد أن وجه نقدا علنيا للحكم بسبب خرق حقوق الإنسان في إيران. وقد فرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله في قم كما اعتقل وأعدم الكثيرون من أنصاره.
يبلغ منتظري اليوم 81 عاما من العمر وقد رفعت عنه الإقامة الجبرية بسبب تردي حالته الصحية. وهو مازال يقيم في بيته المتواضع في قم حيث يصدر الفتاوى ويستقبل الزوار ويدير أموال الزكاة التي منحها له أنصاره الذين يصل عددهم إلى عدة ملايين. يتحدث منتظري بكامل الصراحة عن تلاميذه السابقين من أقطاب الحكم التيوقراطي في طهران اليوم الذين وضعوه رهن الاعتقال عقدا كاملا.
لكنه يشكو كذلك على نحو واضح أيضا من زملائه في قم سواء آيات الله أو كبار آيات الله منهم متهمهم بالخنوع للنظام رغم علمهم بالويلات التي خلفها للإنسان وللإسلام نفسه. وهو يقول إنه وحيد وطاعن في السن مما يجعله غير قادر على أن يفعل أكثر مما يفعله اليوم من خلال الإفصاح عن رأيه بين الحين والآخر. ويتساءل منتظري كيف يمكنه أن يقود الكفاح على نحو أفضل، خاصة وأن الحرية التي يتمتع بها رسميا تقتصر على القيام بالمكالمات الهاتفية واستقبال الزوار والتوجه إلى الطبيب . أما ممارسة النشاط السياسي فهو محظور عليه وعلى كافة المعارضين في إيران.
رجال دين فاسدون
يميل منتظري للدعابة وحضور البديهة على نحو كبير، كما أنه يفتقد تماما للكبرياء والاعتزاز بالنفس على الرغم من أنه يتصدر كافة رجال الدين في إيران في المركز ومن كونه في السابق رهن الاعتقال السياسي لسنوات عديدة. في نفس الوقت فإن تشاؤمه حول أوضاع بلاده يثير الصدمة في نفوس المواطنين رغم أنه قد أفرج عنه.
يقول منتظري إنه لا يسع أي حكم مبني على الطغيان أن يظل باقيا إلى الأبد، لاسيما في عالمنا اليوم.لكنه يتساءل عن حالة البلاد عندما تملك أخيرا حق تقرير مصيرها بنفسها وعما إذا كان بوسع الإيرانيين عندئذ أن يصيغوا المرحلة الانتقالية سلميا وبقدرة أنفسهم.
يسكن منتظري على بعد منازل قليلة من منزل آية الله الكبير يوسف صانعي. وكان هذا من قلة كبار علماء الدين في قم الذين احتجوا علنا على فرض الإقامة الجبرية على منتظري. سألت صانعي عن أسباب كون قلة ضئيلة فقط من كبار آيات الله في قم قد اعترضت على استخدام العنف باسم الدين وعلى الاضطهاد القائم في إيران وأعمال الإرهاب التي يقوم بها متطرفون مسلمون في العالم. فرد علي قائلا إن رجال الدين لا في إيران فحسب قد التحمت نفوسهم بالسلطة وأضاف "لم يعد باستطاعتهم أن يتحدثوا إلا بلسان السلطة الحاكمة".
وأضاف بأن معظم علماء الدين يحدوهم القلق إزاء الأوضاع الراهنة، لكن قلة قليلة فقط منهم تملك الجرأة في رفع أصواتها عاليا، وهذا الأمر يعود إلى خشية رجال الدين من الاضطهاد وإما إلى ميل بعضهم إلى الراحة والهدوء وإما لكونهم كرجال دين ينتفعون من نظام رجال الدين.
وقال صانعي "لقد فقد رجال الدين قدسيتهم لكونهم قد أصبحوا جزءا من النخبة الحاكمة. وقد تبين لي بأن المشاركة في الحكم تفرز مقدارا كبيرا من الفساد. لهذا فإن التلاحم بين الدين والسلطة يخلق أضرارا جسيمة. فالحكم يرتبط دوما بالكذب والسرقة والاضطهاد والخيانة. أما القيادة الدينية البحتة فهي على عكس ذلك مقدسة. لهذا السبب خاصة ليس بوسعها أن تقول إنها تريد أن تتصدر الناس في الصلاة وأن تدفعهم لعمل الخير ، وأن تحكمهم أيضا. ذلك لأن الحكم يتطلب مخادعة الخصوم وإخفاء الحقائق عن الناس. فعالم الحكم هو عالم قوامه الاضطهاد".
من مدعاة الدهشة أن صانعي الذي كان في الثمانينيات من أتباع خميني المخلصين وعرف عنه تبنيه لخط إسلامي متشدد قد صاغ بنفسه الموقع الكلاسيكي للأرثوذكسية الشيعية التي تطالب رجال الدين بالابتعاد عن ممارسة الحكم تفاديا لتعريض أنفسهم للفساد. لن يصل جاره منتظري إلى هذه الدرجة، فعلى الرغم من أن منتظري ينتقد النظام على وجه أكثر وضوحا من صانعي إلا أنه يتمسك بقراءته السياسية للإسلام. يضيف صانعي بأن بوسعه أن يتفهم ابتعاد الشباب عن الإسلام طالما تحتم عليهم أن يعيشوا يوميا حالة الاضطهاد والنفاق والفساد الإداري من قبل أعمدة النظام الإسلامي، كما أن بإمكانه أن يتفهم فقدان الغرب لاحترام الإسلام نظرا لكون أئمة النظام في إيران وغيرها يتعاملون بأسلوب العنف.
لا مبرر للإرهاب
يستنكر صانعي عدم لجوء محطات التلفزيون التابعة للدولة في إيران إلى اعتبار الأعمال الانتحارية الواقعة في إسرائيل إرهابا بل أعمال مقاومة.ألا يحيي الشيعة كل عام ذكرى الاغتيال السافر الذي وقع زعيمهم بل زعيم المسلمين قاطبة الإمام على ضحية له؟ فالمؤمن الشيعي الذي يشكّل الحزن الناجم عن وقوع عمل إرهابي أحد أبرز الطقوس الدينية لديه، لا يسعه على الإطلاق أن يوافق على الإرهاب.
ويتابع صانعي بقوله إن علماء الدين الحاكين ليسوا قادرين حتى على التبرؤ الصريح من العنف الموجه ضد السكان المدنيين، والأسوأ من ذلك أنهم حتى يؤيدون الإرهاب ولو ضمنا، كما لو لم يكن الإسرائيليون أناسا مدنيين. ثم يقول صانعي " إن الله لا يتقبل كل ذلك. فالبعض يقتل والبعض الآخر يقتل أيضا، والعنف يولّد العنف: كما أن الفلسطينيين يمرون بهزيمة تلو الأخرى. فمن صالح من كان ذلك؟ ذلك لا يخدم مصالح الإسرائيليين كما أنه بمقدار أكبر لا يخدم مصالح الفلسطينيين كذلك".
وماذا بالنسبة له نفسه؟ لماذا لا تكاد تصل إلى أسماع العالم أصوات رجال الدين المدينين للإرهاب؟ يقول صانعي " ما الذي أملكه من منابر في إيران لكي أتبرأ من ذلك؟ ما هي محطات التلفزيون التي كانت ستنقل حديثي؟ وعندما أتحدث خارج البلاد فإن الحال لن يكون أفضل من ذلك. فبوسعي أن أعبر عن رأيي هناك، لكنني سأواجه عواقب وخيمة عندما أعود إلى إيران، أعني بذلك دخولي السجن. لكن هذا لا يدل على افتقادي لموقف حاسم. إن الإرهاب والقتل محظوران في الإسلام على وجه صريح".
نفيد كرماني
© جريدة نويي تسورخر تسايتونغ
ترجمة عارف حجاج
نفيد كرماني باحث وصحفي مقيم في ألمانيا