ما العمل مع المجاهدين القدامى؟
أيمن عواد يدعونا إلى غرفة جلوسه. أريكة ومقعدان وبعض أفرشة مكومة فوق بعضها في زاوية مع صورة للكعبة مثبتة إلى الجدار، بينما جهاز التلفاز يبث نشرة أخبار قناة الجزيرة الفضائية. في زاوية من الغرفة حقائب سفر مرصفة تنتظر الرحيل، كان على المضيف أن يعتذر على وجودها هناك.
عواد لا يستطيع حسب كلامه أن يخطط لحياته على مدى بعيد، ففي كل لحظة يتربص به وبعائلته خطر التسفير. ولئن كان هذا الأمر غير صحيح مائة بالمائة فإنه من الثابت أن وضعية أيمن عواد ليست مما يحسد عليه مع ذلك. فنظرا لما عليه الأمور حاليا يجد هذا المواطن ذو الجنسية المزدوجة السورية البوسنية مهددا بالترحيل الفوري بسبب تجريده من الجنسية البوسنية.
بينما سيحق لزوجته وأبنائهما الأربعة البقاء في البوسنة. هؤلاء الأخيرين لا يمكن أن تنسحب عليهم التهمة الموجهة إليه والتي تجعله مهددا بإمكانية رحيل إجباري عن موطنه الجديد، وهي تهمة الحصول بطريقة مشكوك في شرعيتها على الجنسية البوسنية.
واجب ديني كدافع للمساعدة
لقد بدأ الأمر على نحو جيد في مامضى. في العشرين من شهر يناير 1995 عقد عواد البالغ 30 سنة من العمر آنذاك قرانه في مدينة زينكا البوسنية، وكانت رحى الحرب ما تزال دائرة في البوسنة عندها. وبعد شهرين من ذلك التاريخ حصل على الجنسية البوسنية بعد أن قدم كل ما يتطلبه التجنيس من وثائق شخصية ضرورية.
وقد تمت الإجراءات الإدارية بصفة مطابقة لمقتضيات القانون القائم في ذلك الزمن. عواد يصرح بأنه لم يحصل على جواز سفره بسبب ما قدمه من خدمات أثناء الحرب، محاولا بذلك أن يبعد التحفظات المثارة ضده كمقاتل أجنبي سابق، أو مجاهد من أصل عربي.
عند اندلاع الحرب في سنة 1992 شعر عواد، حسب كلامه، بواعز الواجب الديني الذي يدعوه إلى مناصرة إخوته في الدين. وقد كان يقيم آنذاك في كرواتيا حيث كان يدرس الطب. في البداية عمل كمساعد متطوع في مساندة اللاجئين البوسنيين، وبعدها قام بدور المترجم في صفوف وحدة المجاهدين التي تأسست بصفة استعجالية في ذلك الحين.
لم يشترك عواد أبدا في عمليات حربية لكنه كان يرتدي بزة عسكرية. خلال السنوات الأولى للحرب كان هناك ما يقارب الستين متطوعا من بين المقاتلين في صفوف هذه الوحدة الخاصة التي تعمل تحت إمرة رئيس أركان الحرب للجيش البوسني راسم دليتج. وقد كان على هذا الأخير أن يمثل من بعدها أمام محكمة دان هاغ الأممية لمجرمي الحرب. خلال فترة الحرب بلغت قوات المقاتلين في صفوف المجموعة المعرّفة رسميا باسم الوحدة رقم 5689 عددا أقصى يحدد بـ1800 مقاتلا من بينهم ما يعادل الثلث من المتطوعين الأجانب، بعضهم قد سبق له أن قاتل في أفغانستان ضد الجيش السوفييتي.
لكن العدد الحقيقي للمجاهدين الأجانب الذين اشتركوا في المعارك في البوسنة خلال فترة الحرب يظل مع ذلك غير محدد بدقة. وتتراوح التقديرات ما بين 600 وما يقارب الـ6000 مقاتلا.
إجراءات وفق التقليد الأوروبي
لقد حددت معاهدة السلام الممضاة في دايتون خريف سنة 1995 مهلة 30 يوما لإجلاء كل المقاتلين الأجانب. وقد غادر ما يقارب التسعين بالمائة من المقاتلين البلاد في حدود المهلة الزمنية المحددة حسب قول عواد.
حوالي 80 شخصا من بين هؤلاء تخلفوا عن الرحيل آنذاك، والآن لم يتبق منهم في البلاد سوى ما يفوق العشرين بقليل وجميعهم من الحاصلين على الجنسية البوسنية. والمجاهد السابق يعرف عددهم بدقة بسبب خطته كرئيس لجمعية أنصاريا التي كانت تمثلهم وتدافع عن مصالحهم.
غير أن تصريحات أخرى تؤكد بأن مئات من المجاهدين السابقين قد منحوا الجنسية البوسنية قبيل نهاية الحرب. بل إن بعض المصادر تتحدث عما يقارب ألفا من المجاهدين الذين لم يغادروا البلاد. بينما يعتبر الخبيرون هذه الإحصائيات مفرطة في المبالغة.
إن الانتقادات التي ما فتئت تزداد انتشارا في البلاد وتعبر عن نفسها بأكثر وضوح تجاه المجاهدين السابقين لها ما يبررها من الأسباب، وهي تدور بالنهاية حول سؤال: من الذي يمثل العقيدة القويمة من بين المسلمين؟ عواد وأمثاله يعربون من خلال سلوكهم وكذلك نمط حياتهم عن أنهم هم، وهم وحدهم، الذين يتصرفون بمقتضى ما يوافق الشرع الإلهي. هؤلاء يدعوهم الناس إجمالا بالوهابيين في البوسنة.
وخلال خريف السنة الماضية ارتفع جدال عمومي حاد على إثر تصريح لمجاهد سابق يدعى أبو حمزة ويعتبر ممثلا للمواطنين الذين يحملون الجنسية المزدوجة البوسنية السورية قد نعت فيه خلال نقاش تلفزي طريقة البوسنيين المسلمين في آداء فرائضهم الدينية بالإسلام الشيوعي.
وقد عبرت ردة فعل الطائفة المسلمة البوسنية عن نفسها بحدة. وفي شهر نوفمبر/تشرين الثاني أصدرت رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى بالبوسنة قرارا تدين فيه كل محاولة للتفرقة بين مسلمي البوسنة. وقد ذكّر رئيس العلماء مجمل المؤمنين بأنه لا مكان في البلاد لكل من لا يريد أن يبدي استعدادا لفهم وتقبل الطريقة التي تمارس بها العقيدة الإسلامية هنا.
غير أن هذه العبارات الصارمة لا يسعها أن تخفي حقيقة التأثيرات الاجتماعية للسلفيين الجدد. وتتجسد هذه التأثيرات مثلا في اتباع ما يدعى بالقواعد اللباسية الإسلامية. الرجال ملتحون ويرتدون بنطلونات لا تتجاوز الكعبين، والنساء محجبات ويرتدين ملابس تحجب تضاريس الجسد.
وبقطع النظر عن هذه العلامات الاستعراضية الظاهرية للتقوى يلاحظ المرء نموا مطردا عاما للإيمان الديني لدى البوسنيين يعبر عن نفسه مثلا في أن عدد المواظبين على صيام رمضان ما فتئ يتزايد، وقد غدا اليوم يفوق بكثير ما كان عليه قبل عشرين سنة.
في هذا المضمار يتحدث نيدزاد غابوس المختص في العلوم الإسلامية بساراييفو ومفتي سلوفينيا عن أسلمة جديدة للمجتمع. ويرى في هذا المسار ظاهرة تطور اجتماعي ما بعد شيوعية شبيهة بتلك التي يلاحظها المرء أيضا لدى الكاثوليكيين والأوثوذوكس. وفي مسار تحديده للخصوصية البوسنية في ممارسة المعتقد الإسلامي يدع جانبا المقولة المتداولة التي تفيد بأن البوسنيين يظلون رغم كل شيء لا ينكرون تناول كأس من شراب السليلوفيتس.
وعوضا عن ذلك يشير إلى الظاهرة التي لا يعرفها الكثيرون وهي أن نصف البوسنيات الراشدات يتمتعن بملكية بيت خصوصي. والمعروف أن المساواة القانونية بين الجنسين أمر غير متداول داخل البلدان ذات الأغلبية السكانية من المسلمين، وبذلك تمثل البوسنة استثناء في هذا المضمار.
لجنة تعمل طي الكتمان الشديد
قد يبدو الإسلاميون المتطرفون البوسنيون كثيري الصخب، إلا أنهم لا يمارسون تأثيرا كبيرا داخل المجتمع، حسب تقديرات نيدزاد غرابوس. صحيح أن نوعا من ظاهرة تعريب قد لوحظت مباشرة بعد فترة الحرب تحت تأثيرات المجاهدين، لكن الطائفة الإسلامية قد قابلتها بتبني طريقة مراوغة.
فلكي يتولى المرء خطة إمامة في البوسنة يتوجب عليه أن يكون حائزا على شهادتين مدرسيتين متوازيتين. فالتحصيل الذي تمنحه كلية شريعة إسلامية وحده لا يكفي لهذا الغرض، ولا تكتمل شروط الانتداب للخطة إلا بالحصول على شهادة من "مدرسة" بوسنية؛ أي ثانوية دينية. وبهذه الطريقة ينتظر أن يتم التحكم في تأثيرات الدعاة الأجانب.
ويعكس هذا الترتيب الدراسي وعيا ذاتيا متنام لدى المؤمنين من مسلمي البوسنة الذين لا يرغبون في أن يُدخل إخوانهم في المعتقد من الشرق الأوسط اضطرابا على نمط حياتهم الخاص."نحن أوروبيون ككل الأوروبيين ونتبع قيما أوروبية، وهو أمر يجب علينا أن نكافح من أجله"، يقول غرابوس وهو يدرك تمام الإدراك بأن الكثيرين من العرب يعربون عن ازدرائهم بالطريقة التي يمارس بها الإسلام في البوسنة.
النتائج المنجرة عن هذه الحدود التي يضعها المسلمون البوسنيون أمام الثقافة الذهنية المستوردة من الشرق الأدنى والأوسط تبدو واضحة. ومؤخرا عبر السفير المصري بساراييفو بصفة علنية عن عدم ارتياحه لما تبديه الدولة البوسنية من ضئيل الاهتمام بالعالم العربي. كما لا يخفى عن أحد إلى أي درجة يبدو الرأي العام البوسني قليل الحساسية تجاه مصائر أيمن عواد وأبو حمزة وأمثالهم من المجاهدين القدامى.
والمحامي قادريجا كوليتج الذي يتولى الدفاع عن عشرة من المجاهدين السابقين الذين سحبت منهم الجنسية البوسنية يلاحظ بأن عدم اللامبالاة التي يبديها الرأي العام البوسني تجاه هذه الحالات ظاهرة تجلب الانتباه. ويوجه المحامي انتقادات شديدة اللهجة إلى اللجنة الجكومية التي تعيد النظر في مجمل الحالات التي منحت فيها الجنسية البوسنية ما بين سنتي 1992 و2006.
هذه اللجنة التي تم تأسيسها بقرار مصادق عليه من البرلمان خلال الربيع المنصرم تتكون من ستة أعضاء من مختلف القوميات البوسنية الثلاثة (عضوان لكل من المسلمين والصرب والكرواتيين) إلى جانب ثلاثة ممثلين دوليين (إسبانيا وبلغاريا والولايات المتحدة الأميركية). وتصنف مصادر مستقلة متنوعة هذه اللجنة كنتاج للضغوطات الأميركية داخل إطار الحملة العالمية لمكافحة الإرهاب.
رئيس اللجنة وكذلك بقية الأعضاء يظلون ممتنعين تمام الامتناع عن كل استجواب من طرف وسائل الإعلام. والمعلومات التي يمكن أن يحصل عليها المرء بخصوص ما تم إنجازه من عمل تظل بدورها هزيلة بمستوى شح هؤلاء الأعضاء. وإلى حد الآن ليس هناك من المعلومات سوى ما يفيد بأن أقل من 500 حالة من مجمل الـ 1500 التي تم التدقيق فيها قد تم الاعتراف لها بصلوحية الجنسية البوسنية.
أما عن الطريقة التي يعيش بها العديد من هؤلاء الأشخاص، فلا أحد يعلم شيئا عن ذلك. فليس هناك من إمكانية لاستئناف الحكم الذي تصدره اللجنة. وبالمقابل يمكن تقديم شكوى ضد الإجراء الإداري. وإلى حد الآن لم يجر تطبيق التسفير على أية حالة من الحالات التي سحبت منها الجنسية.
وهناك العديد من القضاة الذين تصدوا لذلك معبرين خلال محادثات شخصية عن عدم رضاهم عن الطريقة المتوخاة من طرف اللجنة، كما يروي كوليتج. لكن يبدو أن عدم تطبيق إجراء التسفير يعود على أية حالة إلى أن هذا الإجراء يتنافى بصفة واضحة ومبادئ القانون الدولي.
شيء من تأنيب الضمير
قد يكون هذا التعارض أمرا صحيحا، لكنه يظل غير ثابت الحجة نظرا لما يتسم به عمل اللجنة من قلة شفافية، كيما نستعمل عبارة معتدلة. لكن هناك سببا آخر لعدم رضا القضاة وله علاقة بنوع من الحرج الذي يشعر به الكثيرون تجاه هذه المسألة. فالبرغم من ظاهرة السلوكات ذات الطابع الاستفزازي في بعض الأحيان يظل لدى الكثير من المسلمين البوسنيين شعور ما بالاعتراف بالجميل تجاه المجاهدين السابقين.
فهؤلاء المحاربون الأجانب هم بالنهاية من سارع منذ الأيام الأولى للحرب بمد يد المساعدة إلى البوسنيين الذين تخلى عنهم العالم بأسره آنذاك. وبالتالي فإن طرد هؤلاء الأشخاص القليلين المتبقين منهم في البلاد كما تطرد كلاب مريضة، يبدو أمرا كبيرا جدا حتى على أكثر اللائكيين البوسنيين تجذرا في اللائكية. إلا أنهم يتفادون الحديث في هذه المسألة. وهم لا يرغبون كثيرا في أن يذكرهم شيء بمدى الإذعان الذي تنصاع به دولتهم إلى الضغوط الخارجية. هل هو تعبير عن شعور بمساس بالكرامة الوطنية؟
أما أيمن عواد فيستدعي نوعا آخر من القيم في الدفاع عن نفسه وهي قيم حقوق الإنسان الكونية، التي سيقع خرقها خرقا فادحا إذا ما تم تسفيره حسب عبارته. فعواد قد بلغه عن طريق عائلته في دمشق بأنه محل اهتمام من قبل المخابرات السورية. وإذا ما تم تسفيره فسيختفي لسنوات عديدة داخل إحدى السجون السورية كما يؤكد هو، فقط بسبب خدماته العسكرية لصالح قوة أجنبية.
وعلاوة على ذلك سيكلفه ذلك خسران كل ما يعد غاليا وعزيزا عليه: بيته وعائلته ومجمل حياته. بوسع المرء أن يفهم جيدا مدى اليأس المرير الذي يشعر به هذا المجاهد السابق. أن يجد هذا الرجل نفسه في وضعه المأزوم مجبرا على استدعاء قيم من تلك التي ينبذها كل إسلامي متطرف ويشجبها كنتاج غربي متهافت فذلك ما لا يمكن أن يكون إلا أمرا مزدوج المرارة على نفسه بكل تأكيد.
بقلم مارتن فوكر
ترجمة علي مصباح
حقوق الطبع قنطرة/نيوهتسورشرتسايتونغ 2007
قنطرة
الكاتب البوسني جواد كاراحسن
في كتابه الأخير "كيف كانت البوسنة وسراييفو وما الذي تبقى منهما؟" يبعث جواد كاراحسن بـ "تقارير من العالم المظلم" وهي تقارير بين الخيال والواقع عن معاناة البوسنيين في غربتهم وعن تداعيات الحرب على حياتهم. تقريظ كتبته ايفون غيباور