الانفتاح المنتظر نحو الغرب
استأثرت آسيا الوسطى بعد انهيار الآتحاد السوفييتي باهتمام خاص من قبل الإتحاد الأوروبي بسبب احتياطيها الهائل من النفط في بحر قزوين. هذا هو ما دفع ألمانيا الى إطلاق مبادرة إستراتيجية لتقوية العلاقات مع دول المنطقة. بقلم ماركوس بينسمان.
آسيا الوسطى الواقعة بين هضاب بامير وبحر قزوين كانت دائما مثيرة للخيال والأحلام. فقد كافح في الماضي من أجل بسط النفوذ على هذه المناطق التي تعتبر جسرا بريا يربط أوروبا بالصين فرسان رحل كانوا يقطنون المناطق شبه الصحراوية هناك، فضلا عن الإسكندر المقدوني وكل من الإمبراطورية الروسية والبريطانية.
نفط قزوين
تسعى ألمانيا في إطار سياستها الخارجية إلى انتهاز رئاستها الدورية للاتحاد الأوروبي في النصف الأول من العام الجاري لإطلاق استراتيجيا هدفها تقوية عرى العلاقات بين آسيا الوسطى وأوروبا.
لهذا الغرض كان وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير قد قام في نهاية عام 2006 الماضي بجولة في دول آسيا الوسطى الخمس التي كانت تابعة في الماضي للاتحاد السوفييتي السابق. هذه الدول هي كازاخستان وقيرغيستان وطجيكستان وتركمينستان وأوزبيكستان.
لهذه الاستراتيجية حجج مقنعة حيث توجد أسفل المناطق شبه الصحراوية و في أعماق بحر قزوين احتياطات ضخمة مطمورة من النفط والغاز سيكون لها على المدى البعيد أهمية كبيرة في الإسهام في توفير الطاقة لأوروبا.
تهميش الهيمنة الروسية
كانت مؤسسة شبكة الأنابيب الروسية التي جرى إنشاؤها في العهد السوفييتي تملك حتى الآن شبه احتكار فيما يتعلق بنقل النفط والغاز الخام. لكن إتمام إنشاء شبكة لأنابيب نقل النفط الممتدة من باكو حتى ساحل البحر المتوسط التركي وكذلك شبكة أنابيب الغاز التي تصل إلى الحدود المشتركة بين تركيا وجيورجيا بدأ يؤدي إلى تهميش الهيمنة الروسية على الثروات الطبيعية لآسيا الوسطى في قطاع النقل بالأنابيب.
من ناحية أخرى ما زالت مؤسسة غازبروم الروسية تهيمن على قطاع نقل الغاز في آسيا الوسطى دون حدود.
بالإضافة إلى كل من روسيا والولايات المتحدة تطمع الصين أيضا في حيازة الثروات الطبيعية الضخمة الكائنة في آسيا الوسطى.
فقد وعدت بكين في استثمار مليارات الدولارات في مجال استخراج الثروات الطبيعية وإنشاء الأنابيب هناك. كما كرست الصين وروسيا نفوذهما في تلك المنطقة من خلال ما يسمى بمنظمة "شانغاي للتعاون" التي تنتمي إليها كافة دول آسيا الوسطى ما عدا تركمينستان.
أنظمة إستبدادية
يأتي بالإضافة إلى ذلك أن آسيا الوسطى باتت بحكم قربها الجغرافي من أفغانستان منطقة لا يمكن الاستغناء عن خدماتها في ما يتعلق بالمهمة الدقيقة الحافلة بالمخاطر لكل من أوروبا وأمريكا في أفغانستان.
المعلوم أن المدينة الصغيرة تيرميس الواقعة في أوزبيكستان هي مقر القاعدة الجوية الألمانية التي تشكل مركزا لتموين العمليات التي يقوم بها الجيش الاتحادي الألماني في أفغانستان.
ومع ذلك تخيم على هذه المنطقة المهمة بالنسبة لبرلين وأوروبا إشكالية تعود إلى الأنظمة الاستبدادية القائمة فيها. فقد جعلت النخب الحاكمة لا سيما في كل من أوزبيكستان وتركمينستان من ثروات البلاد غنيمة تحت طوع إرادتها.
كما أن مواطني دول آسيا الوسطى يخضعون لأهواء الجهات الحاكمة وإجراءاتها البالغة في القسوة .
تركمانستان واوزبكستان
كان الرئيس التركمينستاني صابرمراد نيوسف قد غالى حتى وفاته في فرض سيطرته ونمط عبادة الحاكم المتسمة بأغرب السمات على مواطني بلاده. ونجم عن أسلوب حكمه الاستبدادي أنه جمع ثروات طائلة لنفسه ووضعها في بنوك أجنبية فيما كانت عامة السكان ترزح تحت طائل العجز القائم إزاء التموين بالطحين.
أما نظيره الرئيس الأوزبيكستاني إسلام كريموف فقد أمر في 13 مايو (أيار) 2005 دون إنذار مسبق بإطلاق النيران على تجمع ضم آلافا من الناس في مدينة صغيرة تسمى انديشان.
ولم يعرف حتى الآن عدد الذين لقوا مصرعهم في ذلك الهجوم. وكان كريموف وأعوانه قد برروا عمليتهم الدموية هذه بضرورة القضاء على انقلاب إسلاموي مزعوم كما أنهم رفضوا الانصياع لمطلب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بتشكيل لجنة دولية تتولى التحقيق في هذا الشأن.
لهذا السبب قام الاتحاد الأوروبي ابتداء من أكتوبر (تشرين الأول) 2005 بفرض عقوبات على أوزبيكستان تم في نوفمبر (تشرين الثاني) 2006 تمديدها لمدة ثلاثة شهور. وتضمنت العقوبات حظر تصدير الأسلحة وعدم منح أقطاب نظام الحكم في أوزبيكستان تأشيرات لدخول دول الاتحاد الأوروبي.
ما زال الغموض يكتنف ظروف الأحداث التي وقعت في انديشان، لكن الأسباب المباشرة للانتفاضة تعود بما لاشك فيه إلى عاملي البطش والتعسف المهيمنين على الإجراءات المتخذة من أجهزة الدولة مما أدى إلى احتجاج سكان المدن على ذلك.
الجدير بالذكر أن كريموف يسخر شبح الخطر الإسلاموي من أجل تدعيم حكمه، لكن واقع الأمر هو أن الفئات المتطرفة الواعدة بالإنقاذ تزداد قوة ونفوذا نتيجة لإجراءات الطغيان التي يستخدمها نظامه نفسه.
سياسة الحوار مع الطغاة
تهدف السياسة التي تمارسها ألمانيا تجاه آسيا الوسطى إلى العمل عبر الحوار مع حكامها الطغاة بهدف توفير العوامل الكفيلة بخلق تغيير هناك.
كما أنها تسعى في هذا السياق إلى تخفيف حدة العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على أوزبيكستان.
كان من الأفضل اللجوء إلى استخدام نهج سياسي حيال آسيا الوسطى يقوم على التفرقة بين دولها المختلفة وفقا للأوضاع السائدة فيها. صحيح أن الرئيس الكازخستاني نور سلطان ناصربييف يكرس سلطته في الحكم من خلال التلاعب بنتائج الانتخابات واستخدام أساليب التنكيل. إلا أنه يجعل من الناحية الأخرى السكان على عكس الحال في أوزبيكستان يشاركون في الانتفاع بثروات البلاد الناجمة عن الانتعاش السريع لقطاع الاقتصاد .
كذلك توجد في كازخستان ولو مجرد بوادر أولية لظهور معارضة سياسية ولتعددية الصحافة.
يلاحظ المرء الفروق القائمة بين كازخستان وأوزبيكستان من خلال تجواله في مدينة الماتي المشبعة بالانتعاش الاقتصادي الذي تشهده كازخستان وفي عاصمة أوزبيكستان طشقند.
فالانقباض والإحباط يخيمان على مدينة طشقند أما الماتي فالحياة فيها حافلة بالنشاط والحيوية.
بوادر مشجعة
في قيرغيستان التي تسود اقتصادها حالة النقص والفقر يلاحظ المرء وجود رأي عام يتصدى للنظام الحاكم هناك بروح كبيرة من الثقة بالنفس.
ومع أن الحياة السياسية في هذا البلد تتأرجح منذ وقوع الانقلاب في الحكم في مارس (آذار) 2005 بين أزمة وأخرى إلا أنه من الملاحظ أن هذا هو البلد الوحيد الذي يتعامل فيه المواطن مع ممثلي السلطة في المنطقة بعيدا إلى حد كبير عن مشاعر الخوف.
حتى في طجيكستان التي تأتمر بأمر حاكمها ايمومالي رحمانوف على نحو مطلق فإنها تتمتع مقارنة بجمهورية أوزبيكستان بوجود حياة عامة ولو بمعدلات أولية.
دور الإتحاد الأوروبي
ينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يركز استراتيجيته على هذه الدول وأن يسعى إلى النهوض بتطورها ومساندة أوضاعها الاقتصادية المتردية لا سيما في حالة قيرغيستان.
وفي هذا السياق يشكل موت نيوسف متنفسا ولو صغيرا قد يشجع النخب الحاكمة في تركمينستان المتسمة بضياع الآفاق وقصر النظر على السير في طريق الإصلاحات.
لكن مجرد تبادل المصافحات الودية مع كريموف لن يكون كافيا لدفعه في اتجاه الإصلاحات. بل على العكس سوف يعتبر الرئيس الأوزبيكستاني مؤشرات المودة والانسجام تجاه سياسته لونا من ألوان الضعف.
هذا هو ما اتضح تماما للأمريكيين عندما قاموا بإنشاء قاعدة عسكرية في أوزبيكستان في عام 2001.
بعد ذلك بأربعة أعوام أفرزت المذبحة التي قام بها النظام توترا في العلاقات بين الولايات المتحدة وأوزبيكستان وتعين على الأمريكيين إغلاق قاعدتهم العسكرية.
هنا يبدو أن السياسة الألمانية قد بدأت ترتكب نفس الأخطاء الأمريكية حيث أنها تتمادى في غزلها مع طاغية طشقند.
الورقة الرابحة
أما لو تعاملت ألمانيا وغيرها من الدول بروح الشجاعة متخذة موقف التباعد حيال كريموف ونهج الدعم في نفس الوقت حيال الدول المزدهرة الواقعة على حدود بلاده فإن ذلك سيكون كفيلا بجعل نخب أوزبيكستان قادرة على الضغط على كريموف وجعله يعمل على تغيير الخط الذي يتبناه.
إن لدى كل من طشقند وأشغابات حاجة كبيرة للانفتاح نحو الغرب تفوق حاجة الغرب للانفتاح نحوهما.
فبدون التقارب مع أوروبا سيتحتم عليهما الخضوع للتبعية من قبل الصين وروسيا ، وهو أمر لا ينشده كلا البلدين على الإطلاق.
هذه هي الورقة الرابحة في يد السياسة الأوروبية.
ماركوس بينسمان
ترجمة عارف حجاج
حقوق الطبع قنطرة 2007