سحر الأرقام
تؤدي مليارات الدولارات المستحصلة من بيع النفط في أذربيجان إلى تقوية دعائم السلطة الاستبدادية التي يملكها رئيس الدولة إلهام علييف، حيث تدخل العوائد في جيوب الأقارب والمنتفعين، كما أنها تشكّل في الوقت ذاته خطرا على اتفاقية وقف إطلاق النار المبرمة مع أرمينيا. مقال كتبه توبياس اسموت.
أذربيجان في الصيف: تفتخر أذربيجان الجديدة بصرح طوله قرابة 1770 كيلومترا، تم افتتاحه في مايو/أيار 2005 بعد 12 عاما من البدء في إنشائه. المقصود من ذلك هو أنابيب النفط الممتدة من باكو مرورا بجيورجيا وانتهاء بميناء شيهان التركي الواقع على البحر الأبيض المتوسط.
في الرابع من شهر يونيو/حزيران تعالى هدير الحمولة النفطية الأولى البالغة 100000 برميل والتي أرسلت على متن ناقلة البترول البريطانية "هاوثورن" لتصب كمحروقات تستفيد منها اقتصاديات أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. فقد استثمرت مجموعة من الشركات الكبرى، تترأسها مؤسسة "بريتيش بيتروليوم" حوالي أربعة مليارات دولار لكي يصبح بوسعها نقل 50 مليون طن من النفط سنويا على متن ناقلات البترول.
100 مليار برميل نفط
الهدف المحدد للإمدادات النفطية من باكو هو تفادي بقاء الغرب معتمدا على الدول المنتجة للنفط، التابعة لمنظمة أوبيك. فالمعروف أن لا أذربيجان ولا كازخستان تنتميان إلى المنظمة المذكورة. هذه العائدات النفطية التي يدفعها الغرب تكرس سلطة الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف. يقدر حجم النفط المخزون تحت قاع بحر قزوين بحوالي 100 مليار برميل.
ولو قدرنا معدل سعر البرميل حتى بمجرد 45 دولارا فقط (يبلغ حاليا سعر البرميل ما يعادل 70 دولارا على وجه التقريب) فإن ذلك يعني بأن عائدات أذربيجان من النفط ستصل حتى عام 2030 إلى حوالي 160 مليار دولار. هذا يعد مبلغا في غاية الضخامة لا سيما عندما نعرف بأن معدل دخل الفرد الشهري بالنسبة لـ 40 بالمائة من السكان البالغ مجموعهم ثمانية ملايين نسمة يقل عن 40 دولارا.
دعونا نعيد هذه الأرقام : 100 مليار برميل و 160 مليار دولار. هذه الأرقام هي أهم الآليات السياسية بيد الرئيس إلهام علييف، فمن خلالها يسحر أذهان أصدقائه وبها يهدد خصومه.
النفط والمخابرات
يمكن وصف تاريخ أذربيجان المعاصرة من خلال تسخير البلاد ووضعها تحت سيطرة أسرة علييف. كان حيدر علييف الضابط سابقا لدى شبكة المخابرات السوفيتية " كي. جي. بي." قد تولى في العام 1969 منصب السكرتير الأول للحزب الشيوعي في أذربيجان كما أنه أصبح في عام 1982 كأول مواطن أذربيجاني عضوا في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي.
بعد نيل أذربيجان لاستقلالها السياسي اندلع صراع حاد حول السلطة كان من نتائجه فقدان علييف لنفوذه ولو لفترة زمنية محدودة. لكنه عاد في الانتخابات التي جرت عام 1993 إلى السلطة مجددا ومما جعل فوزه ممكنا هو خيبة أمل الشعب بسبب الهزيمة التي منيت بها أذربيجان في الحرب مع أرمينيا بسبب إقليم ناغورني كارباخ.
قام علييف بعد ذلك على نحو دؤوب بتوزيع أهم مناصب الإدارة الحكومية على المقربين إليه كما أنشأ فرقة قوية من أفراد الشرطة. وفي الوقت ذاته أبرم رجل أذربيجان القوي الذي استعاد سلطته ونفوذه اتفاقية في مايو (أيار) 1994 بشأن وقف إطلاق النار مع أرمينيا التي كانت قد انتصرت على أذربيجان من قبل، ثم أبرم في شهر سبتمبر (أيلول) من نفس العام اتفاقا مع مجموعة شركات بريطانية بهدف استخراج النفط ومد أنابيب لنقله. هذا وما زال جهاز المخابرات الموالي لنظام علييف وعائدات النفط تشكل حتى اليوم الأعمدة الرئيسية لنظامه.
كل شيء من أجل أسرة علييف
بعد وفاة حيدر علييف في العام 2003 تولى ابنه إلهام منصب رئيس الدولة. ومنذ ذلك الحين وهو يعمل على تثبيت أسطورة تقول بحق أسرته في تأسيس سلالة حاكمة. ففي كل أنحاء البلاد يرى المرء بجانب إعلانات الكاميرات وأجهزة التليفزيون ملصقات على الجدران يظهر فيها الأب علييف وابنه وهما منغمران في حديث جدي مهم حول مستقبل أذربيجان.
ماهي قراءتنا لذلك؟ المقصود هنا هو أن مؤسس دولة أذربيجان الجديدة قام بنقل مسؤولية السلطة منه إلى ابنه الوفي الأمين. تمجيد الفرد في حالة عائلة علييف الحاكمة هو صورة طبق الأصل من أنماط الدعاية المعهودة في عهد الاتحاد السوفيتي ولكن مع فارق بسيط هو عدم وجود النجمة الحمراء.
يعمد النظام إلى اقتباس المدرسة السوفيتية القديمة في مجالات أخرى أيضا، حيث تتم مراقبة المكالمات الهاتفية للمعارضين بالإضافة إلى تعريضهم للتهديد والتخويف ووضعهم رهن الاعتقال. فقد شكت منظمة العفو الدولية من تعرض القضاء في أذربيجان للتسخير من قبل أجهزة الدولة حيث تصدر المحاكم في دعاوى القضايا السياسية أحكام سجن لأمد طويل على خصوم النظام مستخدمة حججا واتهامات واهية مكشوفة كالخيانة بحق الوطن أو التجسس.
كما يطيب للرئيس علييف أن يردد في خطبه أمام الملأ بأن "الديموقراطية ليست تفاحة يمكن للمرء شراؤها"، بدعوى أن الديموقراطية تحتاج إلى وقت ريثما تنمو وتنضج وأنها مسألة تتعلق بجيل بكامله وبطرق تربيته. وعلى أي حال فان بإمكان رئيس أذربيجان الوثوق تماما بأن أوروبا لن تطرح عليه المزيد من الأسئلة غير المحببة على نفسه حول مناهج التربية التي يعمد إلى اتخاذها نظرا لأن رقم الـ 100 مليار برميل نفط له وقع السحر عليها.
هذا وسوف يتم ابتداء من سبتمبر/أيلول المقبل تصدير الغاز أيضا من بحر قزوين. لهذا بدأ الاتحاد الأوروبي يخطط من الآن لإنشاء أنابيب جديدة ترتبط بالأنابيب القائمة وتحمل اسم "نابوكو". هذه الأنابيب الجديدة ستمتد من بلغاريا مرورا برومانيا والمجر وصولا إلى فيينا بهدف الحد من درجة اعتماد أوروبا على استيراد الغاز الروسي. بالتالي سوف يكون بوسع إلهام علييف أن يعقد اتفاقات توريد جديدة تجلب له دولارات أكثر فأكثر.
غياب الشفافية
هل يعني ذلك بأن أذربيجان ستصبح عن قرب بلدا غنيا؟ ينبغي الإجابة على ذلك سلبا بالنظر إلى أن نظام إلهام علييف هو الذي يشرف منفردا على توزيع عائدات الدولة وثروات البلاد على المقربين منه. وهنا يشكل الفساد الإداري الراهن دليلا مرئيا على كيفية إدارة عائدات النفط وعما إذا كان ذلك سيعود بالنفع على الدولة نفسها.
بناء على منظمة "ترانسبيريسي انترناشنل" (المنظمة الدولية المعنية بشفافية المراقبة) احتلت أذربيجان عام 2004 في القائمة الخاصة بمدى توفر معيار الشفافية لدى دول العالم المرتبة رقم 140 من مجموع 145 دولة. أي أنها تأتي مباشرة في وضع أفضل فقط من هاييتي وبنغلادش وتشاد وماينمار ونيجيريا. ففي أذربيجان تتدفق الأموال في جيوب المنتفعين لكنها نادرا ما تستخدم لبناء المصانع أو المدارس والجامعات.
أما الجيش فهو من مجموعة الرابحين، فقد ارتفعت ميزانية القطاع العسكري في العام الماضي بنسبة 30 بالمائة. كما أن الثروة النفطية أخذت تشعل من جديد نيران النزاع القائم حول إقليم ناغورني كارباخ.
فقد هدد وزير الخارجية إلمار مامدياروف في خطبه مرارا وصراحة قائلا "نظرا للتطور الاقتصادي الذي نمر به آنيا يتوجب على إقليم ناغورني كارباخ أن يتوخى صداقتنا". واستطرد الوزير قائلا إن بلاده تحتفظ لنفسها بكافة الخيارات بما في ذلك الحل العسكري. لقد سعت ما تسمى بمجموعة مينسك المنبثقة عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا والتي تترأسها فرنسا وروسيا وتشارك بها الولايات المتحدة منذ سنوات عديدة إلى إيجاد حلول لهذا النزاع.
لكن كل هذه المساعي ذهبت عبثا، فأرمينيا تطالب باستقلال هذا الإقليم الجبلي فيما تتمسك أذربيجان بمطلب حماية السلامة الإقليمية لكامل أراضيها. ما زال ما يقرب من 700000 لاجئ من ناغورني كارباخ يعيشون حتى اليوم في مخيمات أو عربات نقل قديمة تابعة لقطارات السكة الحديد. هذا يعني أن أذربيجان تتمسك بما لا يقبل أدنى شك بمطلب عودة اللاجئين يوما ما إلى هذا الإقليم الجبلي.
الحرب كمخرج من الورطة
وعلى أي حال فان أذربيجان تتوخى استعراض قوتها خاصة وأن حكامها يراقبون بقلق مجرى المفاوضات الدائرة حول وضع إقليم كوسوفو. فلو أصبح هذا الإقليم بأغلبية سكانه الألبان دولة مستقلة فإن أصحاب الحكم في أذربيجان يخشون في هذه الحالة أن يكون ذلك سابقة يستفيد منها إقليم ناغورني كارباخ أيضا.
في هذه الحالة قد تلجأ أذربيجان إلى تصعيد النزاع كمخرج من الوضع الراهن. هناك مخاطر أخرى تكمن في خصوصية طابع اتفاقية وقف إطلاق النار المبرمة حيث لا توجد في المنطقة المعنية قوة دولية تتولى مراقبة مدى التقيد بأحكام تلك الاتفاقية. وقد أدى هذا مرارا إلى تبادل النيران ومقتل الأفراد على كلا الجانبين دون أن يعبأ الغرب بذلك تقريبا.
في كل مكان في باكو تتواجد ملصقات على جدران المنازل ولافتات تذكر بالأبطال الذين لاقوا حتفهم في النزاع. يقرأ المرء بجانب صور الموتى جملة تتكرر دوما هي "لا تستحق دولة ما هذه التسمية ما لم يكن سكانها على استعداد للتضحية بأرواحهم في سبيلها".
بقلم توبياس أسموت
ترجمة عارف حجاج
حقوق الطبع قنطرة 2006