نهضة أدبية ورواج سوق الكتب في هبة النيل

في معظم الأحيان لا تطبع دور النشر الأدبية العربية سوى طبعات صغيرة عن كتبها، كما أنَّ جمهور القرَّاء يتكوَّن من طبقة رقيقة من المثقَّفين. ولكن الآن يتم في القاهرة تأسيس دور نشر جديدة وكذلك يغزو الكتَّاب أوساط القراء الواسعة، وكذلك يلاحظ رواج في سوق الكتب المصرية. سوزارنه شاندا في زيارة ميدانية إلى الأوساط الأدبية في القاهرة.

تصدَّرت بداية الازدهار الجديد، الذي شهدته أوساط القرَّاء في مصر رواية "عمارة يعقوبيان" للكاتب الروائي علاء الأسواني. وهذه الرواية التي تم نشرها في عام 2002 كانت مدرجة طيلة عامين على رأس قوائم الكتب العربية الأكثر رواجًا. ومن خلال ترجماتها العديدة وتصويرها في فيلم باهظ التكاليف تم إخراجه في عام 2005 وباشتراك العديد من نجوم السينما وبميزانية قياسية، انطلقت هذه الرواية إلى السوق الدولية.

وتمكَّن المؤلف فقط بعد هذا النجاح من نشر عمله هذا الذي كتبه في عام 1990، والذي تم منع نشره في تلك الفترة من قبل هيئة الكتاب المصرية التابعة للدولة. وقبل فترة غير بعيدة صدرت له مجموعته القصصية القصيرة التي تحمل عنوان "نيران صديقة" مع ثلاث عشر قصة قصيرة مترجمة إلى اللغة الألمانية تحت عنوان "لو لم أكن لوددت أن أكون مصريًا".

أزمة الأدب الروائي

واليوم أصبح نشر كتاب ما أسهل بكثير مما كانت عليه الحال قبل عشرة أعوام فقط، مثلما قال المؤلِّف في أثناء حديثنا معه في القاهرة: "في التسعينيات كانت توجد لدينا في مصر أزمة قراءة، ولم تكن تتم تقريبًا قراءة الكتب الروائية. وكانت دور النشر الخاصة تتحفَّظ على نشر الأعمال الروائية، وهكذا حاولت نشر أعمالي عن طريق هيئة الكتاب التابعة للدولة وفشلت في ذلك".

وعلاء الأسواني الذي ما يزال يعمل على الرغم من نجاحه الأدبي كطبيب أسنان ويجري في كلِّ يوم جمعة حوارات في عيادته، يشير إلى المكتبة التي تم افتتاحها مؤخرًا على الجهة الأخرى من الشارع، ويقول: "هذا المحل يسير بصورة جيِّدة. وفي المقابل مَنْ كان يرغب في التسعينيات في تأسيس مكتبة، كان سيفعل مثل مَنْ يرمي ماله في مياه النيل. ولكن هذا العمل صار مربحًا الآن، هذا يعني أنَّه صار يوجد قرَّاء من جديد. وكذلك لقد تغيَّر المناخ الاجتماعي بشكل إيجابي".

قوائم للكتب الأكثر رواجًا وحلقات دراسية حول الكتابة

وفي الأعوام الأخيرة تم افتتاح العديد من المكتبات الجديدة التي تظهر أنَّه توجد في مصر سوق كتاب نامية. وعلى باب مكتبة موجودة في حي المعادي الذي يقع في خارج مركز مدينة القاهرة، حيث يعدّ معظم المقيمين هناك من المثقَّفين ومن أبناء الطبقة الوسطى، تُشاهد لافتة كتب عليها بحروف عربية أنيقة وانسيابية "الكتب خان"، أي سوق الكتاب. وبجانب المدخل هناك لوح عليه قائمتان للكتب الأكثر رواجًا.

ويحتل المركز الأوَّل في القائمة العربية رواية "عزازيل" للكاتب المصري يوسف زيدان والتي فازت بجائزة البوكر العربية. وتتصدَّر قائمة الكتب الإنكليزية الأكثر رواجًا الشابة المصرية، سمر علي بديوانها "تنورة" Tannoura الذي يحتل مكانه في هذه القائمة قبل الروائي البرازيلي باولو كويلو والكاتب الأفغاني خالد حسيني وكتاب باراك أوباما "Change We can Believe In" (التغيير الذي نستطيع أن نؤمن به).

التركيز على كتب الشباب الجديدة

وسمر علي في السابعة والعشرين من عمرها، وهي تكسب قوتها من عملها كطبيبة أسنان مثل علاء الأسواني، كما أنَّها تكتب الشعر باللغة الإنكليزية والقصص القصيرة باللغة العربية. وديوانها "تنورة" صدر عن دار ملامح للنشر - هذه الدار التي تم تأسيسها قبل فترة غير بعيدة والتي تركِّز اهتمامها على كتب الشباب الجديدة والرسوم الكاريكاتيرية من مصر وتنشر إصداراتها باللغة الإنكليزية وكذلك بالعربية.

وتقول الكاتبة سمر علي في مقهى البورصة الذي يقع في وسط مدينة القاهرة: "أنا نشأت في مدريد وأكملت دراستي باللغة الإنكليزية، فأنا إذن أمتلك لغتين". وسوية مع غيرها من الكتَّاب الشباب ومع الكاتبة والأستاذة الجامعية المعروفة، سحر الموجي، تنهي يومها هنا ببطء بعد حلقة دراسية حول الكتابة الإبداعية.

الأدب وورقة التوت

وتؤكد سحر الموجي الانطباع الذي يفيد أنَّ المشهد الأدبي أصبح يزدهر من جديد منذ بضعة أعوام. وتقول إنَّ الدولة تترك للكتَّاب نسبية لا يستهان بها من الحرية. ولكن هذه الكاتبة لا تخدع نفسها بأي أوهام، إذ تقول: "الحكومة تستخدمنا كورقة توت لكي تظهر مدى تحرِّرها. والحرية تنتهي هناك، حيث نبدأ في انتقاد الحكومة".

وتمثِّل الناشطة النسوية والكاتبة، سحر الموجي مثالاً نموذجيًا بالنسبة للعديد من الطالبات والكاتبات الشابات؛ كما أنَّها تكتب عمودًا بموضوعات اجتماعية سياسية لصالح صحيفة "المصرى اليوم" المستقلة، وفي روايتها الأخيرة التي صدرت تحت عنوان "نون" لا تدعو فقط إلى الاستقلال الفكري، بل كذلك إلى استقلال المرأة الجنسي.

قصص من شوارع القاهرة

لقد اتَّسعت رقعة حرية الأدب التي يتم استخدامها بنشاط. وكذلك تجد رواية "تاكسي حواديت المشاوير" للكاتب خالد الخميسي سوقًا رائجة، وبالإضافة إلى ذلك تمت ترجمتها إلى العديد من اللغات. ومن خلال هذه الرواية يلقي المؤلِّف، خالد الخميسي، الضوء على المجتمع المصري الذي يعكسه في قصص يشاهدها سائقو سيارات الأجرة ويسمعونها في الشارع.

"سائقو سيارات الأجرة يشكِّلون مقياسًا للمجتمع. وفي القاهرة وحدها هناك مائتان وخمسون ألف سائق سيارة أجرة يتجوّلون في شوارعها"، حسب قول الكاتب خالد الخميسي الذي يضيف أنَّ قيادة سيارة الأجرة لا تعتبر في الحقيقة مهنة أساسية، بل إنَّها أقرب ما تكون إلى العمل الإضافي أو العمل المؤقَّت، ويقول: "الكثيرون من العاطلين عن العمل يقودون سيارات الأجرة إلى أن يجدوا من جديد عملاً حقيقيًا. ويوجد موظفون في الدولة يعملون في الصباح في مكاتبهم ويقودون بعد الظهر سيارات الأجرة. وهؤلاء السائقون ينتسبون إلى مختلف المجموعات المهنية والطبقات الاجتماعية".

ويؤكد الخميسي أنَّ كتابه هذا لا يعدّ عملاً صحفيًا أو اجتماعيًا، ولكنَّه خيالي، ويضيف قائلاً: "كنت أريد سرد قصص تمثِّل المجتمع المصري، من تلك القصص التي تحدث يوميًا مئات المرات". وإحدى هذه القصص تدور حول امرأة شابة تركب سيارة الأجرة وهي محجَّبة في حي فقير وتبدِّل ملابسها في أثناء سفر السيارة. وبعدما تصل إلى هدفها وهو فندق بأربع نجوم تعمل فيه كنادلة، تغادر سيارة الأجرة بهيئة أخرى - واضعة على وجهها أصباغ المكياج ومرتدية تنورة قصيرة. وقصص سيارات الأجرة هذه تبدو بسيطة ومباشرة ولذلك تظهر مؤثِّرة وحقيقية.

المدوِّنون في الخطاب الأدبي

ولفترة طويلة من الزمن كانت تعتبر القراءة في مصر من اختصاص المثقَّفين وأساتذة الجامعات ونقَّاد الأدب؛ ولم تكن القراءة بدافع الرغبة أو الفضول منتشرة كثيرًا. والآن أصبح الاهتمام بالأدب يصل إلى أوساط المواطنين خارج النخب التقليدية. وبالنسبة للكاتب والناشر، مكاوي سعيد فقد كان لشبكة الإنترنت ولأوساط المدوِّنين تأثير حاسم في نشر الأدب بصورة سريعة. وروايته "تغريد البجعة" التي تتم ترجمتها الآن إلى اللغة الإنكليزية تحت عنوان "Cairo Swan Song"، أثارت عند نشرها في عام 2007 القليل من الصدى لدى نقَّاد الأدب.

"ومن ثم قام العديد من المدوِّنين بمناقشة هذا الكتاب وأوصوا بقراءته. وفي آخر المطاف أدَّى هذا الترويج المكثَّف على شبكة الإنترنت إلى وضع هذا الكتاب العام الماضي على قائمة المرشَّحين لنيل جائزة البوكر العربية. وبعد ذلك فقط بدأ النقَّاد في الصحف يكتبون حول هذه الرواية"، مثلما يقول مكاوي سعيد. وحتى الآن تم بيع خمسين ألف نسخة من روايته هذه؛ وهذا العدد يعتبر كبيرًا بالمقارنة مع أي كتاب عربي آخر تتراوح أعداد النسخ التي تتم طباعتها عنه في العادة بين ثلاثة آلاف نسخة وخمسة آلاف نسخة.

مدخل إلى المعلومات والمعارف

ولكن لا يمكن أن تُعزى ثقافة القراءة الجديدة فقط إلى أوساط المدوِّنين ونشاطاتهم في العالم العربي. ومكاوي سعيد يشير إلى تأثيرات المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي، هذه التأثيرات التي واجهت المجتمع في العقود الأخيرة. "فمن ناحية لقد أحضر العمَّال المصريون العائدون من دول الخليج معهم التفسير الوهابي للإسلام والذي لا يتناسب مع مجتمعنا المتسامح"، مثلما يقول مكاوي سعيد.

ومكاوي سعيد الذي يبلغ عمره أربعة وخمسين عامًا يضيف قائلاً: "لكن من خلال الإزدهار الاقتصادي في دول الخليج تم أيضًا توفير عروض تعليم جيِّد للأطفال والشباب الذين أصبحوا الآن يطبِّقون هذا التعليم هنا، وذلك من خلال قراءة الكتب"؛ ويتابع قائلاً إنَّ الجيل الشاب لديه مدخل أفضل إلى استقاء المعلومات والمعارف، ولذلك فإنَّ هذا الجيل يعدّ أكثر انفتاحًا من أبناء جيله هو الذين عانوا من الفكر الناصري اليساري ومن ضيق الأفق والتعصّب.

الأدب باعتباره مادة مرغوبة

ومكاوي سعيد يراهن بكلِّ شيء على الأدب. فقبل ثلاثة أعوام استقال من عمله الذي كان يكسب منه قوته كمدقِّق حسابات وأسَّس دار نشر "الدار". وعمل داره يسير بشكل جيِّد، حيث تعتبر هذه الدار بفضل المائتين وثلاثين كتابًا التي نشرها حتى الآن خامس أكبر دار نشر في مصر. وكذلك لقد نشرت كرم يوسف صاحبة مكتبة "الكتب خان" في حي المعادي أوَّل كتاب يحتوي على نصوص من ورشات عمل أدبية، تمت كتابتها تحت إشراف الكاتب ياسر عبد اللطيف في مقهى المكتبة.

وهذه المكتبة التي تم افتتاحها قبل ثلاثة أعوام تعدّ في الوقت نفسه مكتبة لبيع الكتب وكذلك دار نشر ومركزًا ثقافيًا. وتقول كرم يوسف إنَّ هذا الموقع خارج مركز المدينة لا يشكِّل أي مشكلة، وتضيف قائلة: "المغرمون بالقراءة يصطادون الكتب في كلِّ مكان". ولكن مكتبة "ديوان" المعروفة لا ترغب في الاعتماد على هذه الفكرة؛ فبالإضافة إلى فرعها الرئيسي الذي يرتاده الكثير من الزبائن والذي يقع في حي الزمالك، افتتحت هذه المكتبة فروعًا لها في أربعة أحياء أخرى في القاهرة، وهكذا فهي تلبِّي رغبة قرَّائها.

سوزارنه شاندا
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: قنطرة 2009

قنطرة
علاء الأسواني يقرأ من "شيكاغو" في ألمانيا:
محفوظ الثاني أم محطم التابوهات؟

بعد صدور الترجمة الألمانية من رواية "شيكاغو" قام علاء الأسواني صاحب رواية "عمارة يعقوبيان" بجولة في ألمانيا للتعريف بروايته هذه، وقد استهل جولته بقراءة في مهرجان كولوينا للأدب، أكبر مهرجان أدبي في أوروبا. سمير جريس التقاه هناك.

قراءة في رواية "شيكاغو" لعلاء الأسواني:
تصوير عوالم عربية على الأرض الأمريكية؟

في عام 2005 أصبح الكاتب المصري علاء الأسواني بروايته "عمارة يعقوبيان" نجمًا أدبيًا عالميًا. وفي كتابه الأخير "شيكاغو" نجح في تأليف رواية مثيرة تصوِّر حياة مهاجرين مصريين في الولايات المتحدة الأميركية. أنجيلا شادر تقدم قراءة ألمانية لهذه الرواية.

حوار مع مدير المهرجان الأدبي العالمي في برلين أولريش شرايبر:
مهرجان برلين يشكل رسالة انفتاح على الأدب العربي"

تحل الثقافة العربية هذا العام ضيفا على المهرجان الأدبي العالمي في دورته التاسعة، حيث يشارك فيه عدد من الكتاب والكاتبات من العالم العربي، ومنهم من سبق له أن شارك في مهرجانات عالمية ومنهم من يشارك لأول مرة. مع بداية انطلاق فعاليات هذا المهرجان الذي يشكل نقلة نوعية في مجال تواصل الثقافات يتحدث مدير المهرجان، أولريش شرايبر، إلى محمد مسعاد عن هذا الحدث ودلالاته وبعض القضايا التي تشغل بال المنظمين.