"في غياب الآخر تكون كل ثقافة جامدة"
بحث أكثر من مليون شخص عن اللجوء عام 2015 في ألمانيا. وينتظر الاتحاد الأوروبي في السنوات الثلاث المقبلة وصول ثلاثة ملايين لاجئ إلى أوروبا. هل بدأت الآن حقبة جديدة في السياسة الدولية، يمكن أن نطلق عليها اسم "حقبة المهاجرين"؟
شيلا بن حبيب: لا أعتقد. فالأرقام تظل قليلة مقارنة بالمشهد العام. يعيش في الاتحاد الأوروبي خمسمائة وثمانية ملايين إنسان، وثلاثة ملايين مجرد نقطة في بحر. لكن الهجرة ليست مجرد قضية ديمغرافية.
ولكن؟
شيلا بن حبيب: إن الأمر يتعلق بأسئلة عميقة حول الهوية. وحتى لو قيم الناس الأرقام بشكل صحيح، فإنه من المحتمل أن ينظروا إلى تزايد أعداد المهاجرين كخطر على طريقة حياتهم. وينضاف إلى ذلك أن الاتحاد الأوروبي يواجه مشاكل أخرى، منها ضعف الاندماج الاقتصادي، الأزمة اليونانية، البطالة التي تضرب صفوف الشباب. وفي مثل هذه السياق، فإن الحركات القومية تشهد انتعاشا، كما هو حال الحزب اليميني المتطرف الذي تقوده مارين لوبين في فرنسا، بل إن دولا مثل هنغاريا وبولندا تحتج بقضية اللاجئين، من أجل مهاجمة المبادئ الليبرالية الديمقراطية للاتحاد.
في ظل هذا النقاش المشحون، صرحت أنغيلا ميركل بأن ألمانيا ستنجح في مواجهة الوضع. ما تأثير هذا التصريح عليكم؟
شيلا بن حبيب: أنا أتفق مع هذا التصريح ومع الموقف العام لميركل بشكل كامل. فتصريحها يعني بالنسبة لي أنه لا سبب يدعو للتخوف. فالوضعية يمكن تجاوزها، حتى وإن كانت تمثل تحديا كبيرا للسياسة والمجتمع. إنه تصريح جميل.
لكن قضية توفير الحماية للاجئين، أمر منصوص عليه في الاتفاقيات الدولية، كما الحال في اتفاقية جنيف. أفلا تمدحين السيدة ميركل على أمر يتوجب في الواقع على كل السياسيين الالتزام به؟
شيلا بن حبيب: طبعا إن ذلك وبالنظر إلى القانون الدولي واجب. لكن الدول كثيرا ما تخلت عن التزاماتها، التي قد يتحول تطبيقها إلى صيرورة معقدة. لقد قامت ألمانيا وفي سرعة وبشكل مفاجئ في الصيف الماضي بفتح حدودها، وهو ما مثل تجاوزا لاتفاقيات دابلين، التي ترى أن على اللاجئين أن يقدموا طلبات لجوئهم بأول بلد أوروبي تطأه أقدامهم. طبعا إن هذا الاتفاق كان منذ بدايته خاطئا، لأن الثقل ستتحمله فقط الدول الحدودية مثل اليونان وإيطاليا. وهكذا قامت الحكومة الألمانية بتعويض قانون اللاجئين بشكل من أشكال سياسة الهجرة. لقد شكل ذلك تقدما كبيرا، رغم أنه أمر لم يخطط له من قبل.
تتحدثين غالبا في كتاباتك عن مأزق الديمقراطيات الحرة، أو عن "التناقض بين السيادة من جهة واحترام حقوق الإنسان الكونية من جهة ثانية.
شيلا بن حبيب: لقد أسمى [الفيلسوف الألماني] هابرماس ذلك بالوجه المزدوج للدول الديمقراطية. فمن جهة تقوم هذه الدول على مبادئ حقوق الإنسان، ذات الصلاحية الكونية. ومن جهة أخرى تبقى حقوق الإنسان محصورة في قوميات أو في سكان دول معينة. وعبر ذلك يحدث صراع بين الوعود الكونية للديمقراطية وواقع الحدود القومية. إنني أعني بذلك بأنه سيتم دائما تحديد حقوق الإنسان بمعايير معينة، وستكون هناك دائما حقوق إنسان أو مواطنة، لا تشمل الجميع.
هل توافقين أينشتاين الرأي، الذي اعتبر الدول القومية مرض البشرية، الذي من المأمول يوماً ما التمكن من تجاوزه؟
شيلا بن حبيب: لا، للدولة القومية إيجابياتها أيضا، فبدونها لما تطورت ثقافة مدنية ولا دولة الرفاه. لكني أعتقد أن شكل الدولة القومية لم يعد يتماشى مع العصر، في أوروبا ولكن أيضا في دول مثل العراق وسوريا حيث فشل مشروع الدولة القومية.
وما هو شكل الدولة البديل في رأيك؟
شيلا بن حبيب: أعتقد أن أشكال الحكم الفيدرالي تمثل مشروعا مستقبليا أفضل من نموذج الدولة القومية القديم. ونحن نرى ذلك في دول مثل كندا وأمريكا والبرازيل والهند، حيث مكونات فيدرالية صغيرة، أو أقاليم أو دول اتحادية، تمتلك سلطات أكبر مثلا من الولايات الألمانية. وحتى بالنظر إلى الصراعات الكثيرة التي يعرفها الشرق الأوسط، فيمكن للمشروع الفيدرالي أن يقدم الجواب الأفضل. لنأخذ مثلا تركيا والأكراد، هنا يتوجب تحقيق نوع من الحكم الذاتي.
لكن كيف سيتحقق ذلك؟ فالأكراد لا يسكنون في مناطق تركية فقط، ولكن أيضا في العراق وايران؟
شيلا بن حبيب: إنه أمر صعب. فحتى لدى الأكراد تسود أفكار مختلفة حول مستقبلهم السياسي. فحزب العمال الكردستاني يطالب بوطن قومي يشمل مختلف المناطق التي يسكنها الأكراد. وآخرون مثل حكومة إقليم كردستان، تطالب بحكم ذاتي، يتمتع بصلاحيات أكبر، بل حتى حزب الشعوب الديمقراطي طالب بذلك، وهو الذي انتُخب من عديد من المثقفين الأتراك.
هل تعتقدين أن على الحكومات في أوروبا التنازل عن صلاحيات أكثر لصالح بروكسيل؟
شيلا بن حبيب: إنه سؤال مهم بالنسبة لمستقبل أوروبا. أعتقد أن على أوروبا تبني عناصر فيدرالية أخرى دون أن تتحول في النهاية إلى دولة فيدرالية. طبعا، لا توجد دولة مستعدة للتخلي عن كامل سيادتها. فمع هذا الأخذ والرد بين المحكمة الدستورية الاتحادية والمحكمة الأوروبية، يظهر لنا منذ الآن، صعوبة الوصول إلى التوازن المناسب.
فيكتور أوربان يعزل هنغاريا ومن بين تبريراته التي يسوقها أنه يريد حماية التاريخ المسيحي لبلده. هل يمكنك تفهم هذا القرار؟
شيلا بن حبيب: لا، ليس ذلك فقط استدلالاً خاطئاً، بل حقيراً أيضا. فكل الثقافات تتضمن بداخلها عناصر الاختلاف والتعدد. إن تصور أوربان عن الثقافة الهنغارية يضحكني. فبودابست تأثرت -وليس فقط- على المستوى الهندسي بالثقافة العثمانية. ثم ماذا عن دور اليهود في هذه الثقافة؟ أوربان يميني شعبوي، ولهذا يقدم الأمة كوحدة أسطورية. لكن مثل هذه الأمم لا توجد. فبدون الآخرين، تعتبر الثقافة، أي ثقافة، مجردة من الحياة وغير مثيرة للاهتمام. فالعظمة الثقافية والتعدد الثقافي، أمر واحد.
يرى رئيس وزراء ولاية بافاريا هورست زيهوفر ضرورة أن يتماهى اللاجئون مع "الثقافة الألمانية الرائدة".
شيلا بن حبيب: إنه أمر عقلاني أن يتعلم المهاجرون واللاجئون شيئا عن ثقافة البلد الذي يعيشون فيه. لما قدمتُ للجنسية الأمريكية قبل ثلاثين عاما، اضطررت لدراسة الدستور واجتياز امتحان، رغم أني كنت أستاذة جامعية في هارفارد. طبعا لا يمكننا أن ننتظر من الناس الذي حضروا الآن إلى ألمانيا أن يستشهدوا بـأقوال غوته. فالأولوية للاندماج اللغوي والمهني والمدني.
في إقليم تيسين السيوسري ثم حظر ارتداء النقاب. وفي هذا الصدد صرحت وزيرة الاقتصاد في ولاية بافاريا إلزِه آيغنَر دعمها لفرض ذلك في ألمانيا. هل للأمر علاقة بقطعة ملابس تتعارض مع القيم الأوروبية؟
شيلا بن حبيب: بالنسبة لي فإنه نقاش رمزي بحت.كم عدد الناس الذين نتحدث عنهم؟ إن الأمر لا يتعلق هنا بالنقاب ولكن بتجريم وتهميش النساء المسلمات.
شخصيا، يتوجب علي أن أقول، إني أجد النقاب كامرأة ومناضلة نسوية أمرا صعبا. لكن علي أن أتعايش مع ذلك، لأن مثل هذه الملابس في مجتمعاتنا محمية بقانون حرية التدين، ما دامت لا تتدخل بحرية الآخرين.
لهذا فإن السؤال حول حرية ارتداء النقاب، هو سؤال اجتماعي. وبالنسبة لي، فإن السؤال يتعلق بما إذا كان ارتداء لباس معين يسهل على المرأة الدخول إلى الفضاء العام. فالحجاب لعب هذا الدور التحريري، لقد سُمِحَ لنساء في مقتبل العمر بالذهاب إلى المدرسة وإلى العمل والمشاركة في الحياة العامة.
اقترح دونالد توسك، رئيس المجلس الأوروبي بوضع اللاجئين لمدة ثمانية عشر شهرا في معسكرات إلى حين التأكد من هويتهم.
شيلا بن حبيب: أحيانا أشعر أننا في أوروبا بصدد مشاهدة فيلم سيء عن الحرب العالمية الثانية. إنه أمر مقزز أن نرى صدور مثل هذه الأفكار والسلوكيات، سواء تعلق الأمر بالمخيمات أو بالأرقام التي طبعت على أيدي طالبي اللجوء في جمهورية التشيك. إن أغلبية اللاجئين موجودة في الشرق الأوسط في مخيمات. أما أن نقوم في أوروبا ببناء مخيمات فسيكون أمراً مُحِطّاً بالكرامة الانسانية، سيُظهِر بوضوح أن هؤلاء الناس غير مرغوب بهم.
رمز من ذلك الزمن، سيظهر في أغنية للمغني الألماني كزافييه نايدو "المسلمون يحملون نجمة داوود الجديدة". ما رأيك بهذه المقارنة؟
شيلا بن حبيب: كاستفزاز ساخر لا أجده البتة سيئاً. إنه نداء إلى الأوروبيين لتذكُّر تلك المرحلة المظلمة من تاريخ أوروبا، رغم أن الأوضاع لن تصل إلى ذلك الحد.
قد يبدو الأمر غريبا بالنسبة لبعض الناس، أن تدافعي أنت اليهودية عن حقوق المسلمين؟
شيلا بن حبيب: وُلِدْتُ في اسطنبول. وأجدادي عاشوا في الأندلس الإسلامية، قبل أن يهربوا منها باتجاه تركيا عقب استيلاء الملوك المسيحيين عليها من جديد في القرن الخامس عشر. واسمي العائلي هو في جزء منه عبري وفي الجزء الآخر عربي. لكن طبعا لا يعني ذلك أن كل من ينحدر من هذا الأصل، يلتزم بمثل هذه القضايا. لقد كنت دائما إلى صف التعايش الثقافي.
لكن يبدو الأمر للأسف مختلفا في الشرق الأوسط اليوم ولن يتحقق هذا التعايش على الأقل في وقت قريب.
بالنسبة لمستقبل الشرق الأوسط وإسرائيل، فإن التفاهم الديني والثقافي يظل أمرا جوهريا، والأمر نفسه يصدق على التعاون مع القوى التقدمية في المجتمعات المسلمة. لكن عموما يبدو أننا نمر من مرحلة تاريخية جديدة، ستتغير فيها خارطة العالم بشكل كبير، سواء على المستوى السياسي أو الجغرافي، حين تغرق أولى الجزر في البحر. حينذاك لربما سنواجه نوعا جديدا من المهاجرين، ضحايا التغيرات البيئية.
لتبدأ حينها إذن "حقبة المهاجرين"؟
شيلا بن حبيب: تعلمون أن الفلاسفة ليسوا بعلماء مستقبليات. لا أستطيع التنبؤ بما سيحدث أو ما يجب أن يحدث، بل بما لا يجب أن يحدث. وفيما يتعلق بقضية اللاجئين، فإني أرى واجبي كعالمة خصوصا في العمل ضد شعور الأزمة، والتحذير من السقوط في القومية المتطرفة.
حاورها: كريشا كوبس
ترجمة: وفاء حامد
حقوق النشر: زود دويتشه تسايتونغ / موقع قنطرة ar.Qantara.de 2016
شيلا بن حبيب، أستاذة العلوم السياسية والفلسفة في جامعة يال، تهتم بقضايا الهجرة والأقليات والنظرية النسوية. من مؤلفاتها الأساسية "حقوق الآخرين".
[embed:render:embedded:node:27705]