مشروع طه حسين الحداثي....دفاعاً عن التنوير والديمقراطية والوسطية
يصف طه حسين في بداية سيرته الذاتية "الأيام" والتي صدرت عام 1926، ضيق العالم كما خبره في طفولته، ويكتب قائلا: "كان مطمئنا إلى أن الدنيا تنتهي عن يمينه بهذه القناة التي لم يكن بينه وبينها إلا خطوات معدودة ... ولم لا؟ وهو لم يكن يرى عرض هذه القناة، ولم يكن يقدر أن هذا العرض ضئيل بحيث يستطيع الشاب النشيط أن يثب من إحدى الحافتين فيبلغ الأخرى، ولم يكن يقدر أن حياة الناس والحيوان والنبات تتصل من وراء هذه القناة على نحو ما هي من دونها، ..." وبسبب مرض ألم بعينيه، فقد بصره في سن الطفولة.
لكن الكاتب لا يصف هنا القيود الجسدية فقط التي فرضها عليه عماه، بل هو يعني بذلك أيضا ضيق الحياة في القرية والتقاليد الثقافية والدينية، علاوة على القيود التي تفرضها الحياة الفقيرة التي أبصر فيها نور العالم، عام 1889 والتي استبد به الحنين فيها إلى حياة أخرى أبعد من مضارب القرية التي ولد فيها. وسيتحقق له ذلك عبر التعليم والمعرفة. وكان لفضوله العلمي الذي لا ينضب الفضل في تجاوز الحدود الضيقة لعالمه، ليتحول طفل القرية الأعمى إلى أحد أبرز مثقفي الحداثة العربية، سيكون له تأثير كبير عبر كتاباته المسرحية والروائية وعبر تأسيسه للعديد من المجلات ووممارسته للنقد الأدبي واشتغاله بالتعليم والسياسة التعليمية على الحياة الثقافية لمصر والعالم العربي.
الطاعة بدلا من النقاش
وبعد تردده على كتّاب القرية سيغادر طه حسين قريته وهو في الثالثة عشرة من عمره ليلتحق بأخيه في الأزهر بمدينة القاهرة. لقد عاش ذلك كمغامرة كبرى، وكانت تلك بمثابة العتبة الأولى في مسار نجاحه. ففي القاهرة سيتعلم بأن المعرفة "بحر لا شاطئ له" وسيغرم بها أيما غرام. "... يريد أن يلقي نفسه في هذا البحر فيشرب منه ما شاء الله له أن يشرب ثم يموت غرقا. وأي موت أحب إلى هذا الرجل النبيل من هذا الموت الذي يأتيه من العلم ويأتيه وهو غرق في العلم ... !" يكتب في الجزء الثاني من سيرته الذاتية. لكن سرعان ما سيخبو حماسه الأولي الذي رافقه في بداية دراسته في الأزهر. لكنه حين يسمع بمحاضرات الشيخ محمد عبده سينفتح أمامه عالم جديد من المعرفة، يتجاوز حدود التقاليد المعرفية التي لا تسمح بالنقاش وتقوم على التراتبية وليس على حرية المعرفة وعلى الطاعة والأدلجة. وسيزداد مع مرور الوقت تشكيكه في التعليم في الأزهر ومع هذا الشك سيزداد حبه للأدب والذي لم يكن أساتذة الأزهر يحسبونه على المواد الجدية. وسيجد في الشعر العربي الكلاسيكي مقابلا للخطاب الثيولوجي.
وسيكتشف طه حسين "... موازنة بين غلظة الذوق الأزهري ورقة الذوق القديم، وبين كلال العقل الأزهري ونفاذ العقل القديم..." وفي الجزء الثالث من سيرته الذاتية سيتحدث حتى عن ملل يقتل الروح، ما فتئ يعاني منه الأمرّين. يقول: "... وإنما كان يضيق أشد الضيق بهذا السأم الذي ملأ عليه حياته كلها، وأخذ عليه نفسه من جميع جوانبها..."، ليتحول أساتذة الأزهر الذين كان معجبا بهم وبمعرفتهم في البداية إلى خصوم له. وهاهو يتحدث عن محاضراتهم ساخرا: "... وهو في كل هذه الدروس كان يسمع كلاما معادا وأحاديث لا تمس قلبه ولاذوقه، ولا تغذي عقله، ولا تضيف إلى علمه علما جديدا ..." وسيدفعه ذلك إلى التمرد على الأزهر ما سيعجل بطرده رفقة طلبة آخرين. وسينتقل طه حسين بعدها للدراسة في الجامعة المصرية التي تأسست عام 1908، وسيكون من أول المتخرجين منها.
وفي الجامعة سيتعلم طرقا أخرى للتعليم تختلف جذريا عن طرق التعليم الأزهرية. وقد وصف أول محاضرة له في الجامعة وكيف بدا له الأستاذ المحاضر جديدا وغريبا في آن، إذ يقول: "كان غريبا كل الغرابة، جديدا كل الجدة، ملك على الفتى عقله كله وقلبه كله". وقد تأثر بهذا الحدث إلى درجة أنه لم يتمكن من الخلود إلى النوم. يتحدث طه حسين عن الحياة الجامعية في مصر قائلا: "... وكانت حياة الجامعة في أول عهد المصريين بها عيدا متصلا يحبونه إذا أقبل المساء من كل يوم، حين يزدحمون على غرفات الدرس على اختلاف منازلهم من الفقر والغنى، وعلى اختلاف حظوظهم من الثقافة، وعلى اختلاف أزيائهم أيضا ... ". لتظهر الجامعة المصرية مثل مدرسة للأمة تتجاوز كل الاختلافات، في الوقت الذي يصف فيه الأزهر كوبال على الروح. لكن الجامعة المصرية لن تكون آخر عتبة في مساره الدراسي.
النموذج الغربي
سينتقل طه حسين في تشرين الثاني/ نوفمبر 1914 للدراسة في فرنسا، ويقضي هناك أربع سنوات في مونبلييه وبعدها في باريس. لقد كان للقاء مع الغرب وقع التحدي على الأدباء العرب منذ بدايات القرن التاسع عشر. فقد درجوا على مقارنة ثقافتهم ودينهم وتقاليدهم مع الحداثة الغربية مؤكدين على ضرورة الإصلاح. ومنذ كتاب رفاعة الطهطاوي عن رحلته الطلابية بين 1826 حتى 1831 التي قادته إلى باريس تحولت هذه المدينة إلى رمز للثقافة الغربية الحديثة. كان الطهطاوي منفتحا على سكان باريس ووصف في كتابه مزايا ونواقص الحضارة الغربية، وجد لديها أمورا تحتذى وأخرى دعا في وضوح إلى تجنبها.
لكن خلال العقود اللاحقة ستسوء العلاقة بين العالم العربي الإسلامي وأوروبا، لينحو النقاش حول الغرب منحى تبريريا على خلفية الامتداد الإمبريالي للدول الأوروبية. فبدا النظر إلى التقدم والحداثة في الغرب كما في الشرق كاحتكار للأوروبيين. وكرد على ذلك انتشرت تيارات تؤكد خصوصية الثقافة المحلية وترى ضرورة العودة إلى الهوية القومية والتقاليد. وفي هذا السياق طالب جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده بتأسيس جديد للهوية الإسلامية عبر العودة إلى الأصول النقية للدين ورفض التقاليد. لكن الفترة نفسها عرفت أيضا محاولات حداثية، حيث كتب قاسم أمين كتابه "تحرير المرأة" في العام 1899 و"المرأة الجديدة" في العام 1901 ضد منع الاختلاط، منافحا عن مشاركة فعالة للمرأة في الحياة الاجتماعية في مصر. وقد اشترط أمين لتحقيق ذلك تحسينا للوضعية التعليمية للمرأة المصرية.
نحو ثقافة متوسطية
دافع طه حسين بقوة عن الموقف الحداثي نفسه. بل وحتى قبل التحاقه بالجامعة الفرنسية كان خلال دراسته بالجامعة المصرية منغرسا في الفكر والأدب الأوروبيين، ولهذا لم تكن رحلته عبر المتوسط برحلة إلى عالم غريب عنه. لم يشعر بتناقض بين الثقافتين. ففي كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" الصادر سنة 1938 ينتقد الخطاب الذي يقول بالاختلاف بين الحداثة الغربية والتقاليد الشرقية وإن الحداثة لا علاقة لها بالمجتمعات الإسلامية. فبين مصر وأوروبا لا وجود بنظره لحدود ثقافية. بل العكس هو الصحيح، فالمنطقتان تشتركان في ثقافة متوسطية، ذات مشارب مختلفة يونانية ورومانية ويهودية وفينيقية وعربية وتركية وصليبية.
وقد طبع هذه الثقافة كل من الفلسفة اليونانية والقانون الروماني والتوحيد الإبراهيمي، وهو ما يجب فهمه كقنطرة نحو الآخر وليس كحدود تحول دون اللقاء بين الضفتين. فالحدود الحقيقية للثقافة المتوسطية تمثلها جبال الألب شمالا والصحراء جنوبا. وعبر دفاعه عن هذا الموقف يدعو طه حسين العرب إلى تجاوز عقدة النقص من التفوق الغربي. إنه يرى أنه من الواجب على المصريين بعد الحصول على الاستقلال التام بناء نظام ديمقراطي وتحديث المجتمع وتجاوز الفكرة الرائجة التي تقول بأنهم مختلفون عن الأوروبيين. ويمثل التعليم في هذا السياق الطريق الذهبي إلى تحقيق هذه الأهداف والتحول إلى شريك يقف على قدم المساواة مع الأوروبيين.
التعليم كطريق إلى الحداثة
يتعلق الأمر في كتاب طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر" بموقف حاسم من السياسة التعليمية والثقافية والتي يمكن فهمها انطلاقا من السياق التاريخي. فقبل سنتين من صدور الكتاب تم التوقيع على اتفاقية الاستقلال بين مصر وبريطانيا التي كانت تحكم مصر منذ 1882. وهو ما فتح الباب على مصراعيه أمام أسئلة تتعلق بمستقبل البلاد وخصوصا بانتمائها الثقافي وهويتها الوطنية. ويمكن فهم الموقف المثالي لطه حسين والذي يرفض الاختلافات الثقافية بين مصر وأوروبا انطلاقا من هذا السياق.
إن الأمر يتعلق بسياق تاريخي يقف على أعتاب تغيرات كبيرة وهو ما كان يعني بالنسبة لطه حسين خصوصا الاهتمام بقضية التعليم. ففي رأيه، فقط إذا تمكن المصريون من إصلاح التعليم سيتمكنون من اللحاق بركب الحداثة الأوروبية. إن هذا التفاؤل الذي كان يعبر عنه طه حسين، هو ما عبر عنه أيضا الكثير من المصريين ومن المراقبين الغربيين أيضا. ويجدر التنويه هنا إلى ما قاله الخديوي اسماعيل بمناسبة افتتاح قناة السويس سنة 1869، من أن مصر أضحت جزءا من أوروبا. وقد عبر الرحالة البريطاني ريتشارد فرانسيس بيرتون عن التفاؤل نفسه الذي ميز خطاب اسماعيل خلال زيارته لمصر في العام 1876 مؤكدا بأن صيرورة التقدم في مصر تمضي على قدم وساق، مؤكدا بأن مصر أضحت فعلا إحدى البلدان الأكثر نجاحا بين ممالك الأرض. وأنه من الصعب العثور على ما يمكنه أن يعوق تقدم هذا البلد.
إصلاح النظام التعليمي
ومع تحقيق الاستقلال في العام 1936 بدا الطريق معبدا أمام بناء مصر حديثة. وقد اشترط طه حسين لتحقيق ذلك إصلاحا جذريا للتعليم. ومنذ دستور 1923 جرى التنصيص على التعليم الإجباري للجنسين كما نص الدستور على مجانية التعليم في ما كان يسمى بالمكاتب العامة. لكن هذه المكاتب العامة التي تطورت عن الكتاتيب القرآنية لم تكن تقدم نظاما تعليميا حقيقيا، في حين ظلت المدارس الحديثة والتي كانت تعتمد المنهج الغربي حكرا على من يستطيع دفع تكاليف الدراسة. وفقط عبر هذه المدارس أمكن الحصول على مستوى تعليمي كبير والوصول إلى مناصب عالية في جهاز الدولة. وهو ما يعني وجود نظام طبقي يخدم مصالح البرجوازية ضد الطبقات الفقيرة. وقد اعتقد طه حسين في "مستقبل الثقافة في مصر" بإمكانية أن تلعب المدارس الابتدائية دورا في تقوية وحدة المجتمع المصري لكنه اكتشف خلال عمله كمستشار لوزارة التعليم من عام 1942 وحتى العام 1944 البناء المزدوج للنظام التعليمي والذي يهدد بانقسام المجتمع. ولم تكلل محاولات وزير التعليم خلال تلك المرحلة، أحمد نجيب الهلالي من أجل دمقرطة التعليم عبر إلغاء الرسوم المدرسية بالنجاح. لكن طه حسين سيتأتى له ذلك بعد أن خلف الهلالي في الوزراة عام 1950، مؤكدا على مجانية التعليم لكل طفل، مجانية الهواء والماء، ليلغي الرسوم الدراسية عام 1950 ويجمع بين المدارس التقليدية والحديثة سنة 1951 ويزيد في مدة التعليم الابتدائي من أربع إلى ست سنوات، محققا بذلك تعليما ابتدائيا موحدا لكل المصريين.
وبهذا يكون طه حسين قد وضع الأسس لسياسة تعليمية جديدة. لكن خروج الأفكار إلى حيز التنفيذ احتاج لوقت أكبر، وخصوصا بسبب غياب الإمكانيات المادية، ظل هذا الإصلاح حبرا على ورق، حتى أنه عشية ثورة يوليو 1952 لم يكن عدد الأطفال المصريين الذين يرتادون المدرسة بين ست سنوات واثنتي عشرة سنة يتجاوز الخمسين في المائة. كما أن مستوى الدراسة في المدارس الابتدائية استمر على سوءه رغم تحويلها إلى مدارس حديثة، حتى أنه يمكن القول إن الأمر لم يكن أكثر من تغيير اسمي. وبعد ثورة 1952 واصل الحكام الجدد سياسة إصلاح التعليم، لكنهم ركزوا على الجانب الكمي، ما أثر سلبا على نوعية التعليم. وهو المشكل الذي مازال قائما إلى يومنا هذا، والذي يرتبط إلى حد كبير بالانفجار الديموغرافي في مصر.
أندرياس فليتش
ترجمة: رشيد بوطيب
حقوق النشر: معهد غوته / مجلة فكر وفن ، حزيران / يونيو 2014
أندرياس فليتش باحث ألماني في العلوم الإسلامية يقيم في برلين.