كشف الكولونيالية
نُشِرت رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" أولاً في عام 1966 وقد اعتبرتها أكاديمية الأدب العربي أهم رواية عربية في القرن العشرين. وفي محاضرة هذا العام لجائزة سيف غباش بانيبال لترجمة الأدب العربي، يتأمل البروفيسور روبرت إروين الأسلوب الفريد للطيب صالح في التعامل مع الثقافة الغربية والسرد المضاد الذي يقدمه للخطاب ما بعد الكولونيالي.
غالباً ما فُسِّرت رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" بوصفها سرداً مضاداً لرواية "قلب الظلام"، ولا يرجع ذلك إلى الإشارات المتكررة لكتاب كونراد فحسب، بل أيضاً لاستكشافها شرور الكولونيالية والتجربة عبر الكولونيالية، وهو ما تشترك به الروايتان.
علاقات غرامية متعددة مع نساء إنكليزيات
ورغم ذلك، وبتجاوز الحبكة، سيجد القارئ قاعة كاملة من المرايا، تُحيل إلى الأعمال الأوروبية ومؤلفيها: فكتاب صالح هو في حوار مباشر مع شكسبير بسبب حالات الموت التراجيدية، والحب غير المتبادل، وقضية اللون، ومع أوسكار وايلد للسلوك المتماثل لدوريان غراي ومصطفى، وهو الشخصية الرئيسية التي تتسلّى بعلاقات غرامية متعددة مع نساء إنكليزيات وتُسبّب موتهن.
وقد بيّن البروفيسور روبرت إروين، الخبير في أدب "الليالي العربية" ومؤلف "الكابوس العربي" (1983)، كيف أنه من السهل رؤية كتاب "موسم الهجرة إلى الشمال" بوصفه كتابا سياسيا. ومع ذلك فإن ما يجده مثيراً للاهتمام بشكل خاص هو كيف أن الرواية هي أيضاً انعكاس لنفسها، بقصته ضمن القصة.
يقول إروين: "من خلال رواية قصة سردية أخرى، تحقق السردية الأولى موضوعها الأساسي وفي ذات الوقت، تتأمّل صورة نفسها". بهذه الطريقة، تتصل موسم الهجرة بـ "الليالي العربية". ومن خلال سرد قصة مصطفى، ينجو محمد، تماماً مثلما تنجو شهرزاد من تقاسم ذات مصير نساء شهريار السابقات.
وربما التلميحات الأدبية في "موسم الهجرة" لا نهاية لها. كما أنه لا يمكن إلا ملاحظة تأثير فانون وفرويد. غير أن هناك شيئا واحدا مؤكدا، فالطيب صالح، الذي كان على دراية جيدة بالفكر والأدب الإنكليزي، لا بد أن يكون قد استمتع بلعب هذه اللعبة مع الأعمال الأوروبية، من دون أن يُظهر أبداً أي احساس بالإخضاع أو الدونية. وبدلاً من ذلك، نحصل على انطباع بأنه، من خلال لعبة الأدب هذه، يدعونا المؤلف إلى إعادة النظر في تلك الروايات وقراءتها في ضوء جديد.
"موسم الهجرة إلى الشمال" سرد مضاد لرواية "قلب الظلام"
تتغلغل الثنائيةُ في السرد ومن المحتمل أنها انعكاس لحياة صالح، التي انقسمت بين إنكلترا والسودان. الشمال والجنوب، المدينة والريف، الجنس ورغبة الموت، الحداثة والتقاليد، ومحمد إزاء مصطفى –فالثنائية هي هاجس يتشاركه صالح مع جوزيف كونراد وآخرين كثر.
علاوة على ذلك، يبقى الكثير في هذه الرواية محفوف بالشكوك وعرضة للتكهن: فمن هم السادة الذين تناولتهم الرواية في بدايتها؟ كما أن الوفيات المأساوية للنساء في القصة وحتى نداء استغاثة محمد في النهاية هي أمور غير موضّحة بشكل كامل. هل يموت في النهر أم أنه يُنقَذ؟.
ورغم أن الصوت السردي تُرِك غير مُسمّى، إلا أنه بعيد كل البعد عن كونه غير مرئي وغير متحيّز: فهو مسؤول بشكل غير مباشر عن قتل "ود الريس" وانتحار "حسنة"، وهي مأساة يثير مسارها ذكريات روميو وجولييت. ويُقاد القارئ إلى الاعتقاد بأن الراوي ومحمد هما واحد والشيء ذاته. أما مصطفى، والذي هو كل شيء محمد ليس عليه، فيصر على أنه "ليس عطيلاً"، وأن "عطيل كان أكذوبة". وقد اعترف إروين بأننا "لا نحصل أبداً على القصة النهائية". ومرة أخرى، صالح حريص على الحفاظ على الوهم.
تلك القرية عند منحنى النيل: اختار الطيب صالح موقع أحداثه في قرية سودانية مجهولة "عند منحنى النيل". والنهر له دلالة كبيرة في الرواية: إذ يتدفق النيل نحو الشمال، وتهاجر الطيور والحيوانات شمالاً، كما يسافر مصطفى في الاتجاه ذاته لمواصلة تعليمه، إلى القاهرة أولاً، ومن ثم إلى لندن. ليعود بعدها إلى هذا النهر ويموت فيه.
تتناغم الصورة المفروضة للنهر مع نهر الكونغو في رواية "قلب الظلام" لكونراد. فهو أيضاً رمز للتغيير: إذ تستبدل بالنواعير التقليدية المضخات التي تُسهِّل الري؛ وهذا يسمح للناس بالعودة إلى القرية وزراعة الحقول.
والنهر هو حيث يحدث تغيير نهائي كبير آخر: إذ يدخل محمد، وهو على حافة الجنون، إلى النهر بنيّة إغراق نفسه، ولكن دافع فجائي بـ "أن أتحرك إلى أمام لا إلى أسفل" أخذه. فيتّخذ القرار الأول في حياته، النجاة والتخلّص من الحضور المؤرق لمصطفى في حياته. وسواء نجا أم لا، فهي قصة مختلفة.
كما لفت إروين الانتباه خلال المحاضرة إلى أن صالح فضّل استخدام كلمة هجرة على كلمة رحلة في عنوان روايته. فالهجرة لها دلالة دينية لكن أيضاً تعطي إحساساً بترك شيء في الخلف، وهو ما كان المؤلف يحاول تأكيده: يتخلى مصطفى عن القرية السودانية الصغيرة وعند عودته، لن يكون هو نفسه، رغم كل محاولاته.
تُصوَّر القرية، في روايات صالح الأخرى مثل "عرس الزين" (1964) أو "بندر شاه" (1971)، بوصفها مكاناً شاعرياً ومكاناً للسعادة المفقودة، ولكن في "موسم الهجرة إلى الشمال"، فالقرية بعيدة كل البعد عن هذه الدلالة الرومانسية. وتماماً مثل لندن، فهي فضاء حيث تُرتكب الجرائم وتقع المآسي.
وفي نهاية المطاف، فإن إنكلترا، وسودان صالح وكونغو كونراد هي جميعها "أماكن ظلام".
فالنتينا فينه
ترجمة: يسرى مرعي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2017