شغف تحوّل إلى أرشيف لذاكرة السوريين

رجل يرتدي نظارات يقف خلف كاميرته ويلتقط صورة في المرآة.
جامع الأرشيف أحمد حسن. (Photo: private)

باع المصوّر السوري، أحمد حسن منزله ليواصل شغفه بالصور التاريخية. نعرض لكم/ن مقتطفات من مجموعته: مشاهد يومية بالأبيض والأسود تعود إلى أكثر من مئة عام — كنز حي من ذاكرة السوريين!

تقرير: شام السبسبي

منذ لحظته الأولى في استوديو تصوير يملكه أحد أقاربه بجبال القلمون غربي العاصمة دمشق، تعلّق أحمد حسن، 59 عامًا، منذ طفولته برائحة مواد تحميض الصور ووميض الفلاش، وولِد شغف لا يشبه سواه. كانت الكاميرا، كما يسميها أحمد لاحقًا "الآلة العظيمة"، أكثر من مجرد أداة؛ كانت وعدًا بعالم ساحر لم يكن قد اكتشفه بعد.

كبر أحمد، وكبرت معه الكاميرا، ومع بداية دراسته الجامعية في دمشق، لم تفارقه، صارت رفيقته في التنقلات، ووسيلته لالتقاط ما لا يُقال: لحظات عابرة من قريته، وجوه الناس، وتفاصيل الحياة اليومية. 

يروي أحمد: "كان إذا انسكبَ الضوء على شيء ما أو مكان ما حوّله من مشهد اعتيادي بارد إلى آخر حيوي وساحر يستحقّ أن يُلتقَط ويُحتفَظُ به. وكانت هذه وسيلتي لاكتشاف كيف للصورة أن تحفظ الزمن أو تحوّله إلى حكاية صامتة."

وفي شبابه، ورث أحمد كاميرا ألمانية قديمة من طراز Kodak Retina، تعود صناعتها إلى أربعينيات القرن الماضي، وكانت تلك الهدية من جدّه بمثابة شرارة البداية لعلاقة طويلة وعميقة مع فن التصوير. لم تكن مجرد كاميرا، بل جسرًا بينه وبين الماضي، ونافذة فتحت له أبواب الذاكرة والضوء.

مع مرور الوقت، لم يبقِ التصوير مجرد شغف، بل تحوّل إلى رحلة بحث دؤوبة، ومشروع توثيقي يأخذ من أرشفة الصورة مادته الأساسية. إذ كان والده يمتلك أرشيفًا كبيرًا من الصور العائلية يعود إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضي، واعتاد أحمد تأمّل الصور، ولفتته الطريقة التي كان يعتني والده بها ويحفظها من التلف، الأمر الذي دفعه إلى تقدير واحترام "فكرة الأرشيف" مبكّرًا، وإدراك أهمية الصورة كمصدر للذاكرة والتوثيق. 

كانت أولى مقتنياته مجموعة صور فوتوغرافية تعود إلى أوائل القرن العشرين، توثّق حياة عائلة برجوازية من مدينة حلب. في تلك الصور، وجد أحمد أكثر من وجوه؛ وجد الحكايات، والملامح، والملابس، وتفاصيل الأمكنة، كأنها بقيت تنتظره ليُعيد إحياءها بعد قرن من الزمن. يقول: "كان ذلك عشقي". 

صورة بالأبيض والأسود: مجموعة من الرجال يقفون أمام سيارة.
مشهد من أحد شوارع دمشق في ثلاثينيات القرن الماضي. توثّق هذه الصورة التغيرات الاجتماعية في أنماط الحياة. يعكس تنوّع الملابس الاختلاط الاجتماعي داخل المجتمع. (Photo: privat)

يضم أرشيف أحمد صورًا شخصية من مختلف مناطق سوريا وعلى فترات تاريخية مختلفة، وحاول ربط كل صورة بالسياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي أنتجتها، فكان يبحث عن القصص القصيرة التي: "لا نجدها عادة في الكتب؛ لأنها ببساطة تسكن في حياة ووجوه الناس العاديين، وفي الشوارع وتفاصيلها"، كما يؤكد.

وهكذا، جمع أرشيفًا ضخمًا يضم صورًا توثّق الحياة السورية السياسية والاجتماعية والثقافية في فترات مختلفة ابتداء من مرحلة الاستعمار الفرنسي لسوريا (1920-1946)، ومرورًا بالوحدة السورية المصرية (1958-1961)، ووصولاً إلى مرحلة الانفصال وحكم حزب البعث للبلاد (1970-2024). 

صورة بالأبيض والأسود: امرأتان شابتان تلعبان البلياردو.
فتاتان تلعبان البلياردو في أحد المراكز الثقافية بدمشق عام 1956، في مشهد يُجسّد حضور النساء في الفضاء العام، ويعكس ملامح طبقة متوسطة مثقفة تعيش تحوّلاً بين التقاليد ومظاهر الحداثة. (Photo: privat)

ووصل الشغف فيه حدًّا دفع به إلى بيع مجموعة من مقتنياته الثمينة لشراء أرشيفات الصور من الاستديوهات السورية العريقة، ولم يتوقف عند ذلك، بل باع منزله في نهاية المطاف ليشتري بثمنه تلك الصور.

ويضم أرشيفه اليوم مجموعات متنوّعة تصوّر الحياة الريفية والمدنية بسوريا عقدًا بعد عقد، وتوثّق الأفراح والأتراح، وتسلّط الضوء على حياة النساء من فلاحات ومدنيات وطالبات.

الأرشيف بالنسبة لأحمد ليس سجلّ خاصّ فقط، بل جزء من ذاكرة جمعية وأرشيف وطني ثمين ونافذة نادرة لفهم التاريخ عبر التفاصيل البسيطة، والحياة اليومية، والعدسات التي شهدت الحدث حقًا، لا من خلال الكُتب أو الخطابات الرسمية التي تخفي الكثير.
 

نُشر هذا النص في النسخة المطبوعة المشتركة بين قنطرة ومجلة Kulturaustausch. ولمزيد من التحليلات والمقابلات والتقارير حول سوريا عبر موقعنا هنا..

قنطرة ©