ما تبقّى من سقوط الديكتاتور
يعيش فارس سلامة، موسيقي ثوري سابق، في المنفى بالعاصمة الألمانية برلين، وفي ليلة الثامن ديسمبر/كانون الأول 2024، ظل مستيقظًا لفترة طويلة، لكن غلبه النوم وفاتته لحظة سقوط بشار الأسد.
كان الجميع في حالة نشوة، عندما استفاق من نومه، بينما انتابه كابوس في تلك الليلة؛ فقد عاد إلى دمشق، واعتُقِل في المطار، وأصبح جلياً أن النظام لم يسقط على الإطلاق، وإنما كان الأمر فخًا.
تأخذنا المسرحية الإذاعية "Damaskus danach" أي "دمشق، بعد ذلك"، التي أنتجتها قناة NDR الألمانية، للمخرج الألماني السوري مضر الحاجي، كجمهور إلى المشاعر التي تتجاوز العناوين الرئيسية، والتي تُظهِر ما يعنيه سقوط الديكتاتور بالنسبة لكثير من السوريين – مواجهة أشباحهم الشخصية، وجميع المشاعر والمخاوف وتجارب القمع التي عايشوها.
أو كما وصفها أحد معارفي: "لم يكن هناك ضوء في نهاية النفق بالنسبة لنا لمدة 14 عامًا. وبعد سقوط الأسد، كان هناك ضوء، لكنه أضاء كل الصدمات التي كنا نخفيها عن أنفسنا في النفق المظلم".
الديكتاتورية تطمس الحدود بين الواقع والوهم
تترك المسرحية المجال مفتوحًا بشأن ما إذا كان بطلها فارس - الذي يؤدي دوره معتز الشلتوح - سيطير في النهاية إلى دمشق أم لا. ومع ذلك، نسمع وصوله إلى مطار دمشق ومراقبته من إدارة الجوازات مرات عدة – وفي كل مرة ينتهي المشهد بتعذيب مروع أو مواجهة مع الكلاب التي يخافها فارس بشدة.
"سوريا بحاجة إلى ثقافة العدالة"
أمضت المخرجة مونيكا بورجمان سنوات طويلة في توثيق أنظمة السجون في لبنان وسوريا. تتحدث بورجمان، في هذه المقابلة، عن مستقبل سوريا، ونضالها من أجل العدالة بعد اغتيال زوجها ورفيق دربها، الناشط اللبناني لقمان سليم.
الكوابيس هي مواجهة مع الأشباح التي خلفتها الديكتاتورية في قلوب الناس، ويبدو التداخل بين الواقع والوهم غير مفهوم في لحظة التحرر، لكنه في الواقع جوهر التجارب في ظل الديكتاتورية.
في أحد مشاهد المسرحية الإذاعية، يسمع فارس أولاً كيف يتعرض صديقه المقرب لتعذيب وحشي، وبعد ذلك بفترة وجيزة، يُدعى إلى مكتب، ويُعرض عليه شيء يشربه، ثم يُطلب منه توقيع ورقة – وبعد ذلك، تحدث المعجزة، ويُطلق سراحه.
لكن صديقه، وهذه هي الصدمة الحقيقية، لم يُطلق سراحه في ذلك الوقت، ويكافح فارس مع مشاعر الذنب: لماذا نجوت أنا ولم ينج هو؟
إلى اليوم، ما تزال والدة الصديق غير متأكدة مما إذا كان ابنها قد مات بالفعل – وإذا كان الأمر كذلك، فأين ومتى وتحت أي ظروف؟، إذ ما يزال هناك آلاف العائلات يعانون مثلها.
الأمل أكثر ما يخشاه السوريون
في الواقع، في كثير من الحالات في سوريا من المستحيل تحديد مصير الأشخاص المفقودين استنادًا على معلومات موثوقة: فقد أصدر نظام الأسد شهادات وفاة لأشخاص جرى تحريرهم بعد عشر سنوات. ومن ناحية أخرى، اختفوا دون أن يتركوا أثرا.
كان هناك سوريون أخبروا أقاربهم أن أطفالهم ما يزالون على قيد الحياة، ثم طلبوا مبالغ باهظة من أجل تقديم أي معلومات عنهم، وهذا ما يحدث في المسرحية الإذاعية، حيث لم تسمع والدة صديق فارس أي خبر بعد أن سلمت الأموال. لكنها والعديد من الأمهات والآباء الآخرين في سوريا لا يفقدون الأمل، ويرفضون الاعتراف بوفاة أقاربهم ما داموا لا يملكون أدلة على ذلك.
مئة عام من التحولات داخل بيت سوري
من الاستعمار الفرنسي إلى حكم آل الأسد، لم يعرف منزل كاتبنا سوى الاستغلال والتشويه، حتى أنه تحوّل إلى مقرّ عسكري. واليوم، تحاول عائلته أن تبعث روحه من جديد.
أما فارس، فالأمل هو أكثر ما يخشاه بعد سقوط النظام، فهو يشبه إلى حد كبير الأمل الذي ساد عام 2011. في ذلك الوقت، انتاب الكثير من الناس شعور بالبهجة وخرجوا إلى الشوارع – فجأة بدت نهاية الدكتاتورية ممكنة.
لكن ما تلا ذلك كان الهروب والعيش في المنفى مصير كثيرين، والتعذيب والسجن بالنسبة للبعض، وقبل كل شيء فقدان أحبائهم. يتجادل فارس مع عائلته وأصدقائه بشأن ما إذا كان من الممكن أن يكون هناك أمل مرة أخرى.
تجربة استماع مشحونة
تثير الموضوعات التي تتناولها المسرحية قلقنا كمستمعين، وتنقل محاكاة أصوات التعذيب والتهديد خوف فارس، سواء من ذكرياته أو كوابيسه. كما أن السياق الذي تُوفره محادثات البطل مع المعالج النفسي يُفيد المستمعين.
تبدو الأحداث قريبة من المستمعين، مع دمج التسجيلات الأصلية للمظاهرات الثورية في عام 2011، وكذلك الكلمات العربية البسيطة في الحوار الألماني. تتمكن المترجمة ساندرا هتزل - بفضل مهاراتها اللغوية - من الترجمة بسلاسة بين الألمانية والعربية السورية.
يتحدث جميع الممثلين العربية دون لكنة، وبعضهم يتحدث الألمانية أيضاً. يجعل هذا الاختيار المسرحية قريبة من المستمعين – فهو يوضح أن القصة التي يتم سردها تأتي من أشخاص يعيشون معنا اليوم في ألمانيا.
تذاع المسرحية الإذاعية بالألمانية اعتباراً من 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025، في بودكاست NDR ARD Hörspiel-Speicher.
قنطرة ©