أنغام شرقية ضد الديكتاتورية والتشدد والعنصرية
كان موعد لقائنا بعازف العود السوري وسيم مقداد في إحدى قاعات "دوتشس تيآتر"(المسرح الألماني) في حي ميتي الواقع في الجزء الشرقي من مدينة برلين. كان الموسيقي السوري الشاب قد استدعي لعرض معزوفات في فعالية نظمت في إحدى قاعات المسرح البرليني الذي يعود بنائه إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. بينما كنا نحث الخطى للقاء عازف العود الثلاثيني كنا نستمع إلى أنغام العود، في ممرات المسرح، المنبعثة من قاعة العرض.
ما أن وطأت أقدامنا القاعة المنشودة حتى استنشقنا عبق التاريخ. القاعة قيصرية تبهر الأنظار طغى على سكونها المطبق نغمات شرقية تصدح من آلة العود التي كان وسيم يداعبها برفق تارة وبسرعة تارة أخرى وما أن انتهى وسيم من مقطوعته الغنائية حتى أخذ الجمهور ذو الغالبية الألمانية بالتصفيق إعجاباً وانبهاراً لما قدمه لهم من معزوفات بلمساته السحرية على آلة العود.
من ألمانيا ثم إليها
"تلقى عروضي الفنية لدى الجمهور الألماني إعجاباً كبيراً، إنهم يحبون الموسيقى الشرقية وآلة العود". بهذه الكلمات شرع الموسيقي الدمشقي يتحدث إلينا في إحدى شرفات المسرح. ولد وسيم في ثمانينات القرن المنقضي في مدينة لايبتسيغ في جمهورية ألمانيا الديمقراطية سابقاً لوالدين سوريين. "جاء والدي برفقة والدتي إلى ألمانيا الديمقراطية للدراسة في مجال العلوم الزراعية في جامعة لايبتسيغ التي كانت متقدمة في هذا المجال". وأثناء إقامة والديه في المدينة ولد وسيم حيث قضى أربع سنوات قبل أن يعود إلى سوريا عقب حصول أبيه على شهادة الدكتوراه.
عاد وسيم إلى ألمانيا كلاجئ لكن إلى برلين وليس إلى المدينة التي رأى فيه النور لأول مرة. جاء هذه المرة ليس طوعاً بل فاراً من ويلات الحرب والسجون التي كانت مصيره عقب اندلاع "الثورة السورية" كما يقول، ثم يمضى متحدثاً: "أنا سعيد بتواجدي في مدينة برلين المنفتحة على العالم والتي تعيش فيها ثقافات وقوميات متعددة في أمان". وبالرغم من الصعوبات التي واجهها في مهجره الألماني عقب محطته الأولى في تركيا، يقول وسيم بأنه تمكن هنا من تعلم اللغة الألمانية والدخول في الحياة الثقافية الألمانية عبر مشاريع وبرامج متعددة، ساهمت بقسط وافر في إدماجه في عالم الموسيقى الألماني.
أنغام شرقية تصدح ضد العنصرية
بينما كنا نجري حوارنا مع وسيم كان البعض من الجمهور يأتي إليه مبتسمين معبرين عن إعجابهم بما قدمه من عزف جميل. ما كان لوسيم إلا أن يرد عليهم التحية والشكر بخجل بعبارات ألمانية تترجم اهتمامه ورغبته في التخاطب بالألمانية وليس بالإنكليزية كما يفضل البعض، وهو الذي قد تعلم اللغة ألمانية في بحر السنتين الماضيتين، ثم يواصل وسيم كلامه إلينا ملامساً ذقنه الذي بدا عليه شيئاً من الشيب: "عزفت هنا في ألمانيا مع فنانين وعازفين من أصول عربية وبمعية آخرين ألمان وأوروبيين". العروض الفنية التي شارك فيها الشاب الدمشقي لم تقتصر على الحاضرة برلين، بل طالت مدناً ألمانية أخرى.
العمل الفني، كما يقول وسيم، يحمل في طياته رسالة واضحة المعالم فحواها محاربة كل مظاهر العداء والعنصرية والحروب ويمضي يقول: "للموسيقى بعد إنساني مقدس، أريد تحقيقه من خلال توظيف آلة العود مع موسيقيين غربيين في حفلات ضد العنصرية والحروب". ثم يسترسل عازف العود يقول بأنه سبق له في وطنه أثناء "الثورة السورية" أن غنى أغاني مناهضة للإسلاميين المتشددين الذين وجهوا سلاحهم ضد شعبه.
العمل الفني المعادي للراديكالية والتشدد لم يعرفه وسيم في ألمانيا فقط بل في وطنه سوريا أيضاً. وفي هذا الإطار قام وسيم في بحر الأسبوع المنقضي بسهرة موسيقية في مدينة دسلدورف الألمانية مع ثلة من موسيقيين من مختلف الجنسيات وله عروض متعددة تتنزل في هذا الإطار خلال الأسابيع القادمة في برلين ومدن ألمانية أخرى.
فلسفة "سامية" و"سلمية"
وظف الموسيقي السوري آلة العود في مشاريع إنسانية كالتي سهرت على تنظيمها "فيلهارموني برلين" (المقر الدائم لفرقة الأوركسترا البرلينية) بالتعاون مع منظمات أممية. ففي هذا البرنامج الذي أطلق عليه اسم "موسيقى تحمل رؤية" التزم وسيم مقداد بتوظيف موسيقاه في العلاج النفسي للأطفال الذين يعانون بصدمات نفسية جراء الحرب في سوريا. العمل الإنساني الذي قام به الدمشقي لم تكن انطلاقته في ألمانيا بل كان أيضاً في وطنه سوريا.
[embed:render:embedded:node:27159]
"إن الطريقة المثلى لمحاربة العنصرية هي الطرق السامية، والموسيقى وسيلة سامية"، هكذا عبرت عازفة الناي الإيطالية فالنتينا بالانوفا حول فلسفتها الموسيقية. بالانوفا الثلاثينية ومدرّسة الموسيقى في برلين ترى أنها تمثل الفلسفة الإنسانية المسالمة التي يمثلها زميلها السوري وسيم مقداد أيضاً، الذي تعرفت عليه عند قدومه إلى برلين قبل حوالي سنتين.
"لغة عالمية"
وحول المد اليميني في أوروبا عموماً وألمانيا خصوصاً تقول الشابة الإيطالية إنها تقاوم هذه الظاهرة المتنامية بالموسيقى التي تراها السلاح الأفضل والمناسب للوقوف أمام العنصرية ثم تضيف: "قدمت في برلين عروضاً كثيرة مع وسيم في تظاهرات مناهضة للعداء ضد الأجانب والعنصرية في مشاريع متنوعة، سيما عقب أعمال العنف في مدينة كيمنتس".
شاركت فالنتينا وسيم في حفلات ومشاريع عديدة من بينها عروض مسائية موسيقية في برلين. من أشهر المشاريع التي تسهر عليها فالنتينا مشروع "حسام علي" الذي تريد من خلاله برفقة وسيم مقداد نبذ العداء والكراهية. وعلى غرار وسيم ترى مدرسة الموسيقى الشابة أنه بإمكان الموسيقى أن تقرب بين الأشخاص والثقافات والقوميات لأنها لغة عالمية وإنسانية يفهمها الجميع.
وحول سؤالي هل تخشى إقامة سهرات موسيقية في مدن معروفة بانتشار اليمين الشعبوي والمتطرف فأجابتنا قائلة: "لاشك سأكون مع وسيم في مقدمة الموسيقيين الذين يرغبون في التعريف بالموسيقى العربية-الشرقية من أجل إبراز إيجابيات التنوع الثقافي في مثل هذ المدن، وعلى رأسها كيمنتس".
شكري الشابي - برلين
حقوق النشر: دويتشه فيله 2018