الكلاشنكوف بيد أمراه ساحرة

قضى عزت جيلاسين بصفته ناشطًا يساريًا عدة أعوام في السجن بعد الانقلاب العسكري الذي حدث في تركيا في العام 1980. والآن كتب روايته الأولى حول الثورة اليسارية في تركيا، حيث تتصدَّر أحداث هذه الرواية النساء اللواتي يوجِّهن الرجال. فولكر كامينسكي يستعرض هذه الرواية.

ماذا كان يمكن لهذه الرواية أن تكون؟ إسطنبول في عام 1977، حيث يشهد المجتمع التركي تحوّلاً - القوى اليسارية التقدّمية تكافح ضدّ المنظمات الرجعية شبه العسكرية؛ ويخرج الآلاف من الطلاّب والعمَّال سوية إلى مؤتمرات شعبية ويتم إطلاق الرصاص عليهم في الأوَّل من أيَّار/مايو من قبل ميليشيات مسلَّحة تتسبَّب بإحداث حمام دمّ بين لمتظاهرين. ومن بين هؤلاء المتظاهرين الشاب آيشه الذي يخطو للتوّ أوَّل خطواته في مرحلة دراسته الثانوية في هذا المجتمع الذي يتَّقد بالتناقضات السياسية؛ ويعشق الشاب آيشه بسرعة مناضلة ثورية شابة تقوم في هذا اليوم بإنقاذ حياته.

ولكن ما يبدو للقارئ في البداية حيويًا ومهمًا يتحوَّل فيما يلي إلى قصة مدرسية موسَّعة ومسهبة ومليئة بالتفاصيل الجانبية. وعلى الرغم من أنَّ اللقاء مع زُهال يبقى بالنسبة لآيشه حاضرًا في ذاكرته وأنَّ زُهال - هذه الناشطة داخل الحركة الطلابية - تحافظ في أوَّل الأمر على اتِّصالات مع "صديقها الصغير"؛ إلاَّ أنَّ آيشه لا يجد طريقه على نحو صحيح إلى حياتها المنظَّمة تنظيمًا شديدًا. وكذلك يبدو للراوي أنَّه من المهم أن يصف لنا ما عاشه آيشه أثناء عمله في عطلته المدرسية في عنبر لبيع الخضار وأن يصوِّر لنا تجاربه مع أوَّل صديقاته أو أن يخبرنا عما يحدث في البيت لدى أمّه وأخوته، إذ يتم سرد كلِّ هذا بإسهاب.

عاجز من دون "الجنس الرقيق"

وثمة الكثير من القطع الصغيرة التي يجمع منها المؤلِّف قصَّته التي تعتبر فكرتها الأساسية في الأصل جذَّابة - هذه الفكرة التي تكمن في شبك التفاصيل الشخصية مع التفاصيل السياسية. وبطبيعة الحال يهمنا الاطلاع على القدر الذي يحلّ بالقوى التقدّمية في تركيا في نهاية فترة السبعينيات وكيف تتحرَّر النساء التركيات في إسطنبول من دورهنَّ التقليدي ويسعين إلى تحقيق ذاتهنّ. غير أنَّ أدوار النساء مصوَّرة في هذه الرواية في حالات كثيرة من منظور البطل الذي يعتمد مرارًا وتكرارًا وفي أحوال مختلفة على مساعدة النساء. ففي حين كثيرًا ما يبدو بطل الرواية بالذات مضطربًا ومتردِّدًا ومن دون هدف، تقوم النساء بإرشاده وحمايته.

وتقف النساء- سواء كان الأمر يتعلَّق بأمه أم بزميلته في الدراسة سيمرا التي تتفانى في تضحية نفسها أو بمدرِّسته الجامعية - مرارًا وتكرارًا على مفترق طرق تطوّره ويساعدنه في اتِّخاذ قراراته. إلاَّ أنَّ آيشه يفكِّر كلَّ الوقت فقط بزُهال التي يفتقدها بشكل متزايد. وهو بالذات يتخلَّى عن كلِّ أشكال النشاطات السياسية، ولكن مع ذلك يحاول إيجاد زُهال ويبحث عنها بصورة تشبه بحث الشرطة السرية من أجل العثور عليها، وذلك لأنَّ زُهال تضطر في هذه الأثناء إلى الهرب والتخفي. فهي تصبح الآن إرهابية مطلوبة للدولة ويتم نشر صورتها في الصحف.

"جميلة لا تستخدم مساحيق التجميل"

وتشرع الرواية مندفعة في العديد من الرحلات في المواضع القليلة لسوء الحظ والتي يتم فيها وصف الأحداث من وجهة نظر زُهال. ويصوِّر المؤلِّف تورّطها في الإرهاب السياسي بقدر كبير من التعاطف الوجداني. وهكذا تترسَّخ في ذاكرة القارئ شخصية زُهال؛ فتاة شابة رشيقة تربط شعرها كذيل الحصان و"جميلة لا تستخدم مساحيق التجميل"، وغالبًا ما تحمل الكلاشنكوف، كما أنَّها على قناعة تامة بأنَّها محقة في عملياتها ونشاطاتها السياسية.

ويتَّضح مدى سذاجة أسس العقائد السياسية في هذه الحقبة على أرض الواقع من خلال حادثة تسطو فيها زُهال مع مجموعة من الرجال على مصرف. فهي تتقدَّم بسلاحها نحو شبَّاك المصرف وتطلب من المحاسبة المال بهذه العبارات: "نحن هنا من أجل مصادرة أموال البنك باسم الشعب!".

تصعيد يليه شعور بالارتياح

وتبدأ الرواية في شهر أيَّار/مايو من عام 1977 ثم تعالج فصلاً تلو الآخر الأشهر التالية، بحيث يرتاح القارئ عندما يبلغ في آخر المطاف لحظة الانقلاب العسكري في شهر أيلول/سبتمبر من عام 1980. فالآن لا يعد من الممكن إنكار انقسام المجتمع كما تبدأ الأحداث بالتصعيد. ويتعرَّض الناشطون السياسيون للمطاردة والسجن والتعذيب. أما آيشه الذي يعمل في هذه الأثناء مترجمًا للأدب الهزلي الرخيص ويكتب بالإضافة إلى ذلك نصوص أغاني، فلا يعد يحتك بالدولة وممثليها إلاَّ في حالات نادرة.

ويساعد مرَّة امرأة شابة على الهرب، وذلك من خلال تزييفه جوازات سفر طلب تزييفها في الأصل من أجل زُهال ولنفسه. ولكنَّّه لا يعد يفكِّر الآن بلقاء زُهال، حبيبته القديمة. وعلى الرغم من أنَّه يبدو من الممكن أن يلتقي بها مرَّة أخرى، وذلك عندما يبحث عنه والد زُهال، الجنرال المتقاعد ويقنعه بتبادل رهائن، بيد أنَّ ذلك يمنى بالفشل.

عدم المقدرة على العمل

وفي الفصول الأخيرة يجد القارئ أخيرًا التشويق الذي افتقده طيلة الوقت. وزُهال تقاتل مع مجموعة منشقة في منطقة البحر الأسود. وهناك يتحصَّنون في الجبال ويصطادون الجنود المعادين وتتم مطاردتهم. وهذه المشاهد مقنعة كما أنَّ شخصية زُهال تدخل أخيرًا إلى قلبنا؛ كفاحها مقطوع الأمل وكرهها الداخلي لقسوة الحرب واشمئزازها من الإرهاب والعنف الذي تتورَّط فيه بشكل عميق، بالإضافة إلى عدم مقدرتها على الاعتراف بضعفها.

غير أنَّ هذه الفقرات لا ترد إلاَّ بصورة مقتضبة جدًا، كما أنَّها تحظى بأهمية قليلة جدًا بالنظر إلى الأحداث الكثيرة ذات الشخصيات الجانبية التي لا تشكِّل سوى أهمية نسبية. وفي الحقيقة هذه الرواية ممتعة، ولكن كان لا بدّ من نصيحة مؤلِّفها بضرورة صقلها.

فولكر كامينسكي
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: قنطرة 2008

عزت جيلاسين، "سماء سوداء، بحر أسود"، عن دار نشر كيفي Izzet Celasin, "Schwarzer Himmel, schwarzes Meer", Kiwi, 2008.

ولد عزت جيلاسين في إسطنبول عام 1958 وكان في وطنه ناشطًا يساريًا وقضى عدة أعوام في السجن بعد الانقلاب العسكري الذي حدث في تركيا في العام 1980. وفي عام 1988 أتى إلى النرويج باعتباره لاجئًا سياسيًا، حيث يعمل مترجمًا في أوسلو. ورواية "سماء سوداء، بحر أسود" هي روايته الأولى.

قنطرة

الأدب التركي وحضوره في البلاد الناطقة بالألمانية:
تقصير المثقفين والأدباء الأتراك
ناشرون قليلون فقط يأخذون على عاتقهم عناء وتكاليف المغامرة بترجمة ونشر أعمال مكتوبة باللغة التركية. رغم حصول الكاتب التركي أرهان باموك على جائزة السلام الألمانية 2005، إلا أن الأدب التركي يظل شبه مجهول في البلاد الناطقة بالألمانية. هل يعود ذلك إلى طبيعة الدور الذي ينهض به الأدب في تركيا، أم إلى مستواه الفني؟ تحقيق أولي روتفوس وأخيم فانسيِنْ.

ضجة حول رواية "نغل اسطنبول" للكاتبة التركية إليف شفق:
تركيا تعاني من فقر في الذاكرة التاريخية الذاكرة التاريخية
الكاتبة التركية أليف شفق أثارت رواية إليف شفق "نغل اسطنبول" المكتوبة بالإنكليزية ضجة كبيرة في تركيا، لتناولها موضوع المجازر التي ارتكبت ضد الأرمن أثناء الحرب العالمية الأولى، كما رفعت دعوى قضائية ضدها. تقرير عن إليف شفق وروايتها المثيرة.

تركيا والحركة الطلابية الألمانية:
جيل ضائع - جيل 68 في تركيا
كان عام 1968 في تركيا أيضا عاما مهما، وكما هو الحال في سائر أنحاء أوروبا، خرج الطلاب في تركيا أيضا للتظاهر. لكن رد فعل الدولة التركية كان أكثر قسوة وقمعا، وقد هاجر كثير من أبناء جيل 68 إلى ألمانيا. وبدأت في عام 1968 أيضا حركة مضادة لحركة الطلاب ذات التوجه اليساري كنوع من إعادة الإحياء للإسلام في تركيا.