كتاب لؤي صافي

«الفكر والنهوض» العربي: تناقض الشكل والمضمون أفشل المشاريع النخبوية . في كتابه الجديد الصادر في بيروت مؤخراً، يحاول الباحث الأكاديمي لؤي صافي إثارة أسئلة تطرحها جهود الإصلاح العربية بعد قرنين عليها، حول الأسس الثقافية والاجتماعية والدينية لمشروعها النهضوي والتجديدي

https://aawsat.com/home/article/1422561/%C2%AB%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%83%…

 

https://safireflections.wordpress.com/2018/10/09/%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%…

 

تجد المجتمعات العربية نفسها اليوم، بعد قرنين من جهود الإصلاح، أمام واقع جديد يثير أسئلة عديدة حول الأسس الثقافية والاجتماعية والدينية لمشروعها النهضوي والتجديدي. سعت النخب الثقافية والسياسية في هذه المجتمعات خلال القرنين الماضيين لبناء مشروع حضاري، وقاربت حلمها النهضوي باتباع طرق مختلفة لكنها قادت جميعا إلى نتائج تتناقض مع الأهداف التي سعت إليها. فالواقع العربي يزداد تأزما وتفككا، وتحول مؤخرا إلى أزمة وجودية تتعلق بهوية شعوب المنطقة ومصيرها. جرب العرب مشروع الدولة القومية التي سعت إلى تأسيس المجتمع العربي الحديث على أساس قومي، لكن المشروع القومي الذي قادته النخب العروبية في الشام والعراق ومصر وليبيا انتهى إلى مزيد من التمزق والتناحر بين قيادات تلك الدول بدلا من الوحدة والتعاون. وجرب العرب مشروع المجتمع التقدمي، بشكليه الاشتراكي والليبرالي، الذي عمل على اقتباس الأنظمة الإدارية والتعليمية والصناعية من النموذج الغربي، ولكن المشروع انتهى بمزيد من التفاوت الطبقي وتقييد الحريات ضمن دولة أمنية بامتياز. وجرب العرب طريق الدولة الدينية في ليبيا والسودان والسعودية، وانتهى المشروع كذلك إلى تناقضات بين المظاهر الدينية والممارسات البعيدة عن قيم الإسلام ومبادئه.



لا شك أن هذه المشاريع حققت تطورا بنيويا في المجتمعات التي احتضنتها، ولكنه تطور قام على تغيير في أشكال الحياة وأدواتها، دون تحقيق تغيير عميق في الوعي والسلوك والثقافة. المجتمعات العربية جميعا نجحت في اقتباس المؤسسة التعليمة الحديثة، التي تنقل آخر التطورات المعرفية في العلوم والرياضيات والفيزياء إلى الطلاب، وينتشر العدد الكبير من المدارس والجامعات في مدن وقرى الدول العربية. لكن الإنسان العربي لا زال عاجزا عن تطوير المعارف بنفسه والمساهمة في النمو المعرفي والصناعي والإنساني. وبالمثل نجد أن العديد من الدول العربية تتبنى أحدث الدساتير والقوانين، وتعتمد صناديق الانتخاب لاختيار أعضاء المؤسسات السياسية الحاكمة، ولكنها دول تتمتع بالميزة الشكلية للقوانين والمؤسسات الديمقراطية والشورية، في حين أن واقع حالها يدل على أن الأفراد الذين يملكون الثروة والسلطة قادرين على تطويع هذه المؤسسات لتحقيق مصالح شخصية، دون اعتراض الغالبية السكانية على الانتهاكات الحقوقية التي يرونها أمام أعينهم كل يوم. وبالمثل تمتلك الدول العربية منظومات أسلحة متطورة، وجيوشا جرارة، ولكنها جيوش غير قادرة على حماية الوطن والمواطن، بل تتجلى قدراتها الحقيقة عند استخدامها لحماية النخبة الحاكمة وتطويع الشعوب التي بذلت الغالي والرخص لتمويل هذا الجيوش وتزويدها بمنظومتها من الأسلحة باسم الحفاظ على الحرية والكرامة.



المراجعة التي نقوم بها من خلال هذه الدراسة تسعى إلى تحديد الأنساق الفكرية التي رافقت التطور الثقافي والحضاري للمجتمع الإسلامي التاريخي، وتقصي التطور في الجهاز المفاهيمي والقيمي في دوائر معرفية أربعة ميزت تاريخ الفكر الإسلامي: البيانية والبرهانية والعرفانية والعمرانية. تطور الأفكار لم يجر، كما سنبين لاحقا، عبر عملية تأمل نظري، بل من خلال تفاعل الفكر والواقع الاجتماعي القائم، وعبر صراع بين القوى الاجتماعية والدينية والسياسية المتنافسة داخل المجتمع العربي والإسلامي التاريخي.



سعينا في فصول الكتاب إلى تحديد أهم الأنساق الفكرية والعقدية التي شكلت العقل التراثي، وحددنا طبيعة العملية الفكرية التي ساهمت في إحداث سلسلة من القفزات الفكرية، والتي سميناها عملية التركيب الإبداعي، والتي شكلت المنطق الجدلي التاريخي الذي ميز التطور الحضاري الإسلامي وسمح بالبناء على التناقضات الفكرية والاجتماعية، وإعادة قراءاتها وتشكيلها في نسق فكري جديد تشكل من المعاني الكلية الثاوية فيها، والتخلص من المعاني الجزئية المرتبطة بخصوصيات اجتماعية وثقافية ميزت المراحل التاريخية التي تجلت فيها. نسلط عبر فصول الكتاب الضوء على عمليات التركيب الإبداعي أو الجدلي هذه، ونقدم نماذج منها شكلت المقاربة الإصلاحية التي تبنتها القيادات الفكرية والسياسية والاجتماعية الدينية في اللحظات الصعبة والحرجة التي تتطلب حلولا خلاقة ومبدعة.



تحديد الأنساق الفكرية وتمييز التناقضات النظرية وعلاقتها بالبنى الاجتماعية والتحديات الثقافية التاريخية سيمكننا من تقديم تصور للخطوط العريضة التي يمكن اعتمادها لتطوير مشروع حضاري ينبع من ضمير الأمة ووجدانها، ويسمح لها بالقيام بالنهضة الحضارية التي تعتمد على المحفزات النفسية والروحية والأخلاقية الذاتية. ملامح المشروع الحضاري المطلوب تشكل نسقا فكريا مفتوحا، لا مشروعا يعتمد على اجتهاد فكري منفرد، وبالتالي هو مشروع يبني على إنجازات الماضي، ويدعو إلى عملية تراكم وتراكب فكري ومعرفي وفق خطوط عريضة تهدف إلى توليد الزخم النظري المطلوب لتحريض الفعل الحضاري، وتوجيه الجهود نحو مجتمع حضاري يحقق للإنسان حريتة وكرامته، ويسمح بإخضاع المؤسسات المجتمعية للقيم الإنسانية العليا، قيم العدل والحق والجمال، التي تشكل فحوى الرسالات السماوية (less)