ألياس خوري: غابة يحكمها الذئاب
هل نستطيع أن نعقد مقارنة بين «كليلة ودمنة» وهو كتاب كلاسيكي صار جزءاً من الذاكرة الثقافية في العالم، وبين بلاد تعيش في هاوية الانحطاط، بعدما لم تعد تمتلك من عناصر الأوطان سوى أشكال متداعية؟
المقارنة مستحيلة، رغم أن الخيال الأدبي لجورج أورويل حوّل الكناية إلى حقيقة في روايته «مزرعة الحيوانات» (1945) فصارت هذه الرواية الصغيرة الحجم إطاراً لتأويل الواقع السياسي والاجتماعي، في زمننا الذي يسود فيه الاستبداد والجشع.
لكن لبنان ليس كناية أدبية نستطيع أن نستخلص من سطورها العِبَر والحِكَم، إنه واقع يعيشه اللبنانيات واللبنانيون كل يوم، كأنهم أبطال رواية خرافية لا حدود للخيال الوحشي لمؤلفها.
لنفترض أن لبنان صار كتاباً، وأن أبطال هذا الكتاب، أي أنا وأنتم، يعيشون وسط سطور مكتظة بالحكايات المضحكة – المبكية، فإن أول ما سنلاحظه هو السأم على وجوه القراء، وعدم استعدادهم لمتابعة قراءة هذا الكتاب الممل الذي تتكرر حكاياته.
القرّاء سئموا، وأبطال هذا الكتاب سئموا أيضاً، لكن مأساة أبطال الروايات هي أنهم لا يستطيعون مغادرة الكتاب، فهم عالقون بين حروف الجرّ التي تجرهم إلى الهاوية، وحروف النصب التي يتقن ذئاب الغابة تجريدها من دلالاتها النحوية، وتحويلها إلى حقيقة عارية تتألف من بعد واحد هو النصب، بمعناه المباشر الذي لا التباس فيه.
كيف لي أن أقارن بين سحر البيان في نثر ابن المقفع وبين تلعثم الشكل ورداءة المضمون في كتاب اشترك ذئاب الغابة اللبنانية في تأليفه.
في غابة ابن المقفع نجد مزيج اللهو والحكمة، فاللهو الذي تصنعه حكايات تجري على ألسنة الحيوانات هو مجرد غلاف خارجي للحكمة التي تلخّص قَبَس التلاقح بين ثقافات الشرق الكبرى الثلاث: الهندية والفارسية والعربية. كما يتخذ النص في «كليلة ودمنة» شكل الجوزة التي يجب كسر قشرتها من أجل الانتفاع بِلُبّها. أما في الغابة اللبنانية فالجوزة انكسرت، وخرج من اللب العفن والقيح.
في غابة ابن المقفع بحث عن العدالة، وهذا ما يشير إليه المصير البائس لدمنة بسبب لؤمه ونذالته وهوسه بالسلطة، أما في كتابنا اللبناني فإننا محاصرون بألف دمنة ودمنة، ممن جعلوا ديدنهم قتل العدالة، لأن نذالتهم لا حدود لها.
كنت أستعيد قراءة كتاب ابن المقفع في محاولة شبه يائسة لحماية لغتي من السقوط في هاوية الابتذال، عندما نُشر التهديد الذي تلقاه القاضي العدلي المنفرد طارق بيطار من أحد المسؤولين الأمنيين في حزب الله، الذي استخدم فيه هذا المسؤول كلمة «منقبعك».
وفعل «قبع» يستخدم في العامية اللبنانية من أجل قلع الأضراس.
شعرت وأنا أقرأ هذا التصريح الخطير بألم في فكيّ، «فقبع» الأضراس مؤلم، ويصيب الخد بالتورم. وضعت يدي على خدي للتخفيف من آلام هذا «القبع» اللغوي، وشاهدت نشرة الأخبار المتلفزة، ورأيت العجب. سياسيون متَّهمون يشرئبون ويصرخون ويتوعدون ويلجأون إلى الحمايات الطائفية، ويتهِمون القاضي بأبشع التهم. في العادة يتمسكن المتَّهم أمام القاضي كي يثبت براءته، أما السادة فنيانوس والمشنوق وخليل، ومعهم رئيس وزراء بائس اسمه حسان دياب، فإنهم في عالم آخر، والدليل هو الدعاوى المرفوعة من أجل «كفّ يد» المحقق العدلي.
بعد الانفجار نجحوا في «تطيير» القاضي فادي صوان بتهمة «الارتياب المشروع» أما اليوم فهم يريدون تطيير التحقيق من أساسه لأنه مخالف للدستور!
أي أن المتهمين بالإهمال أو التورط في انفجار المرفأ قرروا تفجير ما تبقى من القضاء، وسلاحهم الفتّاك هو نترات الطائفية التي توازي نترات الأمونيوم في قوتها الانفجارية. رأيت هؤلاء السادة وحُماتهم يتسلقون سُلَّم البراءة الكاذبة، بعدما نجحت السلطة في حماية الجنرالين عباس إبراهيم مدير الأمن العام وانطوان صليبا مدير أمن الدولة، من المساءلة القانونية.
ماذا يستطيع قاض أن يفعل في مواجهة ضواري الغابة اللبنانية؟ وخصوصاً أن جميع أطراف السلطة شكلت تحالفاً متعدد المستويات لشلّ عمل القضاء؟ من المجلس النيابي إلى رؤساء الحكومة السابقين إلى رئيس الجمهورية، وصولاً إلى حزب الله. حلف يريد تحويل القضاء إلى ممسحة، وتعليق لبنان ومؤسساته على خشبة الانهيار الشامل.
كيف نقرأ النسخة الجديدة الملبننة من رواية «مزرعة الحيوانات» لأورويل؟
ومثلما كان من المستحيل عقد مقارنة بين تحفة ابن المقفع الأدبية والغابة اللبنانية، فإن صراعات مزرعة أورويل تشير إلى وقائع إنسانية مرتبطة بتحولات النفس البشرية أمام غوايات السلطة. أما هذا الكتاب اللبناني المفتوح على الهاوية، فلا يشير سوى إلى صفة واحدة يتحلى بها رجال المافيا، هي مزيج من النذالة والتوحش.
صار الكتاب اللبناني مملاً للقراء، بحيث لم يعد أحد في العالم يهتم بنا أو بمشاكلنا، وخصوصاً بعد تشكيل حكومة الأقنعة الميقاتية التي أثارت مناظر وزرائها وتصريحاتهم التعجب من الحال الذي وصل إليه لبنان المضرّج بألم أبنائه وعار سلطته.
قلت إن مأساة أبطال الروايات والحكايات أنهم لا يستطيعون التمرد على مصائرهم المحبوسة بين دفتي الكتاب.
لكن سكان لبنان ليسوا أبطال رواية كتبها أحمق وأقفل صفحاتها.
طارق بيطار لا يتصرف كبطل رواية، بل يتصرف كما يليق بالقضاة.
لكنه قاض في غابة!
ماذا يستطيع القاضي أن يفعل وهو محاط بهذه الوحوش الضارية التي تدوس على دماء ضحايا المرفأ مثلما داست على كرامات الناس وأرزاقهم ومدخراتهم وحولت شعب لبنان إلى شعب من الشحاذين؟
هل يخرج الناس من هذا الكتاب الممل كي يدافعوا عن حقهم في العدالة؟
هذا هو السؤال الذي لم يستطع كاتب عظيم مثل ابن المقفع الإجابة عنه عندما قام والي البصرة بتقطيع جسمه وحرق أعضائه، خوفاً على كتاب السلطة من نص مكتوب بحبر الحقيقة والمعرفة.