الغموض والإبهام في زمن صدام
في عام 1989 ظهرت في أرشيف وزارة الداخلية العراقية مخطوطة مكتوبة بخط اليد بشكل يصعب معه قراءتها، كتبها على ما يبدو أحد السجناء. ويُكلف الرفيق طلال أحمد بطباعة المخطوطة على الآلة الطابعة، والنص الذي يطبعه أحمد، يشكل نص رواية أنطون.
ويشق القارئ طريقه عبر متاهة من الملاحظات المدونة وعبر مجموعة متناثرة من المذكرات والأحلام والمشاهدات المأخوذة من الحياة اليومية في السجن. أما كاتبها فهو سجين يدُعى فرات، الطالب الذي كان يدرس اللغة الانجليزية وآدابها، والشاعر والمفكر الملم بالكثير من المعارف. ومن خلال المقالب الصبيانية والتطاول من خلال سب الذات الإلهية والهروب من إيديولوجية حزب البعث المتغلغلة في كل نواحي الحياة. فصورة القائد بحجمه الطبيعي معلقة في كل ناصية، وكل صحيفة تذكر بالسيطرة المطلقة للحزب الحاكم، بشكل تأخذ فيه آلياتها أشكالاً سخيفة في بعض الأحايين.
"أقود القائد"
ومن هذه الآليات منع مشجعي كرة القدم على سبيل المثال من إدخال الصحف إلى ملاعب كرة القدم، فالسلطات تخشى إمكانية أن يجلس هؤلاء المشجعون على هذه الصحف التي تحمل جميعها صور الرئيس العراقي. عن هذا يكتب فرات مترعاً بالرضا: "يا ليتهم يعرفون ما يُفعل بهذه الصحف". ويضيف موضحاً ذلك في مخطوطته: "كلما قل ورق التواليت، اضطررنا إلى استخدام الصحف. وقد أعتدت أن اختار الصفحة الأولى، لأنها مليئة بالصور والمقالات الافتتاحية. كنت أقود القائد وأسمح لشاربه أن يمر بين فخذي".
لكن القضية الرئيسية في رواية "إعجام" لا تدور في مسودة فرات، بل على هامشها. فالرفيق طلال أحمد يقوم بالتعلّيم على العديد من الكلمات ويشرحها في مجموعة من الهوامش: وهي بمجملها مصطلحات مهمة مستخدمة في دعاية الحزب، لكنها تأخذ معاني انتقاصية بتغيير بسيط في ترتيب حروفها أو إضافة بعض الحروف إليها. وبذلك يتحول المجلس الوطني إلى "الملحس الوطني" والقائد إلى "قاعد"، وغيرها من الصياغات اللغوية. وهل يعد هذا تلاعب مقصود بالكلمات، يقوم به الكاتب فرات أم إنها مجرد أخطاء مطبعية فقط؟
وعلى أي حال، فإن الرفيق طلال حاضر بالمرصاد دائماً لإضافة المعنى الصحيح للكلمة؛ فهو ووزارة الداخلية وجهاز الأمن والدولة بأسرها ليسوا سوى الشخص الثالث الخفي في رواية "إعجام".
علاقة اللغة بالسلطة
إذن، فإن رواية "اعجام" تعد كذلك كتاباً عن اللغة، وبالتحديد عن العلاقة بين اللغة والسلطة. فاعتماداً على رواية الكاتب الانجليزي جورج أورويل "1984" يرسم ديسوتبيا تتجاوز في فظاعتها الوقائع الحقيقية التي حدثت أثناء حكم صدام حسين للعراق. وهكذا يستذكر فرات المراسيم الحكومية التي نصت على إحراق كل المعاجم والقواميس بشكل علني وأعلنت العداء لظاهرة "الغموض والإيهام في المعنى".
إن عملية التلاعب باللغة لصالح الإيديولوجية الحاكمة لديها تاريخ طويل في العالم العربي، ينجح سنان أنطون في عرضه بطريقة متقنة. وهكذا ينشأ تلاعب فرات المشبوه في الكلمات في النسخة العربية من الرواية ليس فقط من خلال تغيير مواقع الحروف، بل ومن خلال تغيير تنقيطها. وهو فرق غير ذي أهمية، يشير إليه مترجما النسخة الألمانية من الرواية في مقدمتهما. ومن الناحية التاريخية يُنظر إلى تنقيط الحروف العربية على أنه تطور متأخر نسبياً- لكنه تطور شائك.
تطور الكتابة
تتألف الأبجدية العربية من 18 حرفاً أساسياً، أما الحروف المتبقية الأخرى فتتكون من خلال وضع نقطة أو نقطتين أو ثلاث تحت أو فوق أحد هذه الحروف الأصلية. وحتى القرن السابع تقريباً كان الجزء الأعظم من الكتب يُكتب من دون تنقيط تماماً، حيث كان السياق وحده دليلاً لمعرفة الحروف والكلمات المعنية، الأمر الذي يترك بطبيعة الحال مجالاً للتأويل والتفسير.
في الحقيقة لم يصبح نظام التنقيط جزءا من ثقافة الكتابة العربية إلا مع انتشار الإسلام. وحتى القرآن نفسه كتب في البدء وفقط هذا الأسلوب القديم، وتبعاً لذلك انتشرت مجموعة من القراءات، التي تختلف عن بعضها بعضا بشكل جوهري في بعض الأحايين.
وقاد استقرار الأوضاع السياسية خلال الخلافات الإسلامية الحاكمة إلى تفضيل احدى هذه القراءات وتثبيتها بشكل عام اعتماداً على مساعدة نظام التنقيط. وهذه النسخة من القرآن، التي فضلها الحكام السابقون مازالت حتى اليوم النسخة المعتمدة الوحيدة. إنها قضية ساخنة، لم يتجرأ على تناولها سوى عدد قليل من النقاد في العالم العربي. وحتى في تدوين التاريخ بشكل رسمي يتم تجاهل الموضوع بشكل تام. لكن رواية "إعجام" تشير إلى هذه القضية بطريقة بارعة.
ينجح سنان أنطون برسم حيز معاش، لا تحده الوقائع والأمكنة الحقيقية-بل أنه يشمل في النهاية العالم الإسلامي بأسره. لكن قوة الكتاب تعد في الوقت ذاته ضعفاً له. ومقارنة بكل أماكن الأحداث الجانبية، التي تنفتح على هامش مخطوطة فرات، تبرز معها ملاحظات الطالب ذاتها خافتة للغاية. فتعليقات فرات المراوغة وطرقته في السخرية من كل شيء وكل شخص، حتى لو كان على علاقة بالنظام من بعيد وحسب، تثير أعصاب القارئ باستمراريتها.
وما يبدو معانداً ومنتفضاً يكون أحياناً مفتعلاً أيضاً، يحاول جذب كل ضاحك. لكن على الرغم من ذلك تبقى رواية "إعجام" كتاباً يستحق القراءة.
محمود توفيق
ترجمة: عماد م. غانم
حقوق الطبع: قنطرة 2009
سنان أنطون: ولد سنان أنطون عام 1967 لأب عراقي وأم أمريكية، درس الأدبين العربي والإنجليزي. يقيم منذ 1991 في الولايات المتحدة الأمريكية. ونشر العديد من القصائد والمقالات باللغتين العربية والإنجليزية في المجلات الصادرة في العالم العربي. كما صدرت له مجموعة شعرية بعنوان "موشور بغداد". له إبداعات في مجالي الترجمة والأفلام الوثائقية، فقد أخرج فيلماً وثائقياً بعنوان "حول بغداد". ويعمل حالياً أستاذا مساعدا في جامعة نيويورك.
صدرت الترجمة الألمانية لرواية "إعجام" عن دار نشر لينوس السويسرية في بازل 2009، وقام بترجمتها من العربية هارتموت فيندريش وجنان فيرز.
قنطرة
جائزة بوكر للرواية العربية:
رواية "واحة الغروب" لبهاء طاهر
ذهبت جائزة بوكر للرواية العربية لهذا العام إلى رواية "واحة الغروب" للروائي المصري بهاء طاهر. هذه الرواية تبحر في دنيا الآلام والآمال في تجربة إنسانية حقيقية تختلط فيها المشاعر بالانكسار والاندحار من خلال الصور الاستشرافية على إيقاعات الجغرافيا والتاريخ والمشاركة الوجدانية على أنغام موسيقى التراكيب اللغوية. منى النجار في عرض لهذه الرواية.
الكاتبة والرسامة عايدة نصرالله:
أزمة الهوية... "مَن أنا"..."أين أنا"
صدرت حديثاً الترجمة الألمانية لرواية "عزيزي من وراء البحار" للكاتبة والفنانة الفلسطينية -الإسرائيلية عايدة نصرالله. في هذه الرواية تستكشف الكاتبة أبعاد الهوية المركبة للفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل. مارتينا صبرا التقت عايدة نصرالله في مدينة كولونيا خلال الرحلة التي قامت بها في ألمانيا للتعريف بكتابها الجديد.
مشاريع ثقافية:
كتب من أجل العراق"
"كتب من أجل العراق" هو اسم مشروع أسسته وزارة الخارجية في يونيو/حزيران عام 2003، ويهدف إلى إقامة علاقة عمل مشتركة ودائمة بين الناشرين وأمناء المكتبات والعلماء الألمان والعراقيين.