إيران كمعطى داخلي في المشرق العربي
قبل فترة، وإبان الحراك الشعبي في إيران، أصدر عدد من الكتاب والأكاديميين والفنانين العرب بياناً، تحدثوا فيه عن مناصرتهم هذه الحراكات المشروعة والعادلة، كما تحدثوا فيه عن أخطر السياسات التي ينتهجها النظام الإيراني للهيمنة في المشرق العربي، من العراق إلى لبنان مروراً بسورية، والتي تنتهج الطائفية وإنشاء ميليشيات مسلحة، وتوظيف الدين وقضية فلسطين والمقاومة، في سياق سعيه الى تعزيز هيمنته على المنطقة.
المشكلة أن هذا البيان لم يلقَ رضا بعض المحسوبين على التيارات القومية واليسارية و»المقاومجية»، لاعتبارهم أن الحراكات الشعبية مفتعلة، وجزء من مؤامرة خارجية تستهدف إضعاف نظام المقاومة والممانعة الإيراني المناهض لإسرائيل والإمبريالية والرجعية، بل إنهم رأوا في البيان انحرافاً عن «البوصلة»، التي يجب أن تبقى متوجّهة نحو العدو الأساسي، أي إسرائيل.
المشكلة أن هؤلاء، وهم أحرار في آرائهم المذكورة، لا ينظرون إلى الأمور بطريقة موضوعية، وإنما من الزاوية الذاتية أو السياسية، التي تلاقي هواهم، لذا فهم، مثلاً، لا يرون شعب إيران، ولا يحسبون حسابه، البتّة، ولا يرون أن هذا الشعب يقع في دولة يتحكم بها أحد أكثر الأنظمة الاستبدادية والثيوقراطية في العالم (نظام الولي الفقيه)، والتي يتعاملون معها كأنها دولة حداثية وعلمانية وديموقراطية، كما لا يرون أن هذه دولة توظّف الدين وتتغطى به، وأنها دولة إسلام سياسي أيضاً الذي يفترض أنهم يناصبونه العداء.
أيضاً هؤلاء لا يرون أن نظام إيران أحد أكثر الأنظمة التي تبدّد ثروات شعبها في غير ما يخدم أولوياته ومصالحه، في الارتقاء بمستويات التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية والبنى التحتية والاقتصاد، وفي تأمين مستوى معيشة أفضل. وبديهي أن ذلك يضعنا أمام نظام تتحكم به طبقتا رجال الدين («آيات الله») و»الحرس الثوري»، وأنه نظام يركز على تنمية القطاعات العسكرية، على حساب قطاعات الإنتاج، ويؤسس قاعدته الاجتماعية على طبقة من المنتفعين، من العاملين في الدعاية الدينية - الطائفية، ومن العاملين في الميليشيات والأجهزة الأمنية، ما يعزز من علاقات الفساد والإفساد في المجتمع، ويفقر غالبية الإيرانيين. ولعل كل ما تقدم يذكّرنا بالنظام السوري أكثر من أي شيء آخر، كما يذكرنا بأن موقف هؤلاء في ما يتعلق بإيران هو نفسه في ما يتعلق بسورية، إذ لا يرون الشعب ولا مصالحه، إلا من زاوية رؤيتهم لبقاء نظام الأسد، على رغم أن هذا انقضى عليه نصف قرن في الحكم، وحوّل الجمهورية إلى نظام وراثي، في ظل شعاره: «سورية الأسد إلى الأبد».
المشكلة الثانية هنا، أن هؤلاء يتناسون، أو يتصّرفون، كأنهم يتحدثون عن إيران كأنها دولة جوار عادية، مثلها مثل قبرص مثلاً، أو إثيوبيا، أو دول جنوب الصحراء، وليس عن إيران التي أعلن أحد قادتها بكل بجاحة أنها باتت تسيطر على أربع عواصم عربية، هي العراق ودمشق وبيروت وصنعاء، والتي باتت لها ميليشيات مسلحة في كل تلك البلدان المذكورة، مع أجهزة دولة موازية، والتي تقوم بتغييرات ديموغرافية كبيرة في هذه البلدان، لا سيما في العراق وسورية.
القصد أن هؤلاء في دفاعهم عن نظام إيران، يتناسون أن هذا النظام أضحى في مثابة عامل داخلي في بلدان المشرق العربي (وفي اليمن)، والحديث يتعلق بالتدخلات السياسية والعسكرية وبعلاقات الاعتماد الزبائنية التي تربطها مع ميليشياتها المسلحة، وبتوظيفها السياسي للدين وللقاعدة الاجتماعية المذهبية، الموالية لها، كما يتعلق ذلك باستشراس هذا النظام بالدفاع عن الأنظمة الديكتاتورية والفاسدة الموالية له، على نحو ما يحدث في العراق وسورية.
ثالثاً، وفي ما يخص قصة الممانعة والمقاومة ومناهضة الإمبريالية، ثمة أسئلة لا بد من طرحها في هذا الإطار، ولا بد من إيجاد إجابات مقنعة عنها، بعيداً من التواطؤ الإيراني مع الولايات المتحدة («الشيطان الأكبر» أو دولة الاستكبار العالمي). فمثلاً، كيف استلمت إيران العراق من الولايات المتحدة؟ أو بأي ثمن أو لماذا سلمت الولايات المتحدة بلداً بحجم العراق إلى إيران (2003)؟ ثم لماذا تساهلت الولايات المتحدة مع البرنامج النووي الإيراني، أو لماذا كبحت جماح إسرائيل عن القيام بتدميره كما فعلت مع البرنامج النووي العراقي؟ وأخيراً، كيف سمحت أو سكتت الولايات المتحدة عن الانخراط الإيراني العسكري في سورية؟
لذا، وفي السياق ذاته، فإن الأرجح احتمالاً في الإجابة عن هذه الأسئلة، أن الولايات المتحدة (ومن خلفها إسرائيل) استثمرت في السياسات الإيرانية المذكورة، في العراق وسورية ولبنان، إدراكاً منها أن هذه الدولة ستنجح في تفكيك مجتمعات المشرق العربي، وتصديع إجماعاتها، بإثارة الانقسام الطائفي - المذهبي، وهو الأمر الذي لم تنجح فيه إسرائيل، ولا أية دولة أخرى لا عربية ولا أجنبية، وهو ما حصل فعلاً بفعل السياسات الإيرانية، التي أدت إلى تقويض البنى الدولتية والمجتمعية في المشرق العربي، وتقويض إجماعاتها، بحيث أضحت إسرائيل، بنتيجة ذلك كله، في بيئة آمنة لعقود، وهذا أكثر شيء يهمّ الولايات في الشرق الأوسط، كما تبين طوال فترتي إدارة أوباما، وهي السياسة ذاتها التي انتهجتها إدارة ترامب حتى الآن.
على ذلك، وبناء على هذا التفسير، يمكن طرح السؤال الآتي: هل عوائد سياسات إيران (المقاومة والممانعة) في العراق وسورية ولبنان، أضرت بإسرائيل أكثر أم أفادتها؟ هل قوت هذه السياسات المجتمعات السورية والعراقية واللبنانية إزاء إسرائيل أم أضعفتها؟
طبعاً هذا النقاش يتجاوز حقيقة أن نظام إيران، والأذرع الطائفية المذهبية الميليشياوية المسلحة، الموالية له، دمرت وقتلت وشردت من السوريين والعراقيين، أكثر بكثير مما فعلت إسرائيل، علماً أن هذه دولة مصطنعة واستعمارية واستيطانية وعنصرية، في حين تعتبر إيران نفسها غير ذلك، أو على النقيض من ذلك، وهكذا ينظر إليها مناصروها، من دون تقديم تفسيرات مقنعة عما يحصل معهم في كل هذا «العشق» الأعمى وغير المفهوم للنظام الإيراني.
على أية حال، لا أحد يضع إيران مقابل إسرائيل، ولا العكس، لأن لكل جريمة حسابها، وظروفها، ولا توجد جريمة تغطي أو تبرر أخرى، وإذا كانت إسرائيل هي العدو الأول والمباشر للفلسطينيين، فإن نظام إيران بات في مثابة عدو مباشر لغالبية العراقيين والسوريين وللإيرانيين أنفسهم، ذلك أن قضايا الحرية والكرامة والعدالة لا تتجزأ.