"يجب إبقاء من يحكمون تحت ضغط النقد"

في الشهر الأخير من عام 1996 خرجت من سجون حافظ الأسد بعد 16 عاماً قضيتها هناك. كنت في السادسة والثلاثين. الحدث الوحيد الذي يقارن بذلك اليوم البعيد هو سقوط النظام الذي أقامه حافظ الأسدي وخروج سوريا من سجنه. هذا حدث أيضًا في الشهر الأخير من 2024، وكنت في الرابعة والستين. كان تحطيم أبواب السجون والمقرات الأمنية في دمشق، وقبلها حلب، علامة على خروج البلد المنكوب من سجن الأبد الأسدي. وبعد ثلاثة أسابيع كنت في دمشق، لأول مرة بعد أحد عشر عاماً وشهرين وثمانية عشر يوماً من المنفى.
سقوط الحكم الأسدي في سوريا هو واحد من أكبر أربع أحداث عرفها تاريخ البلد منذ ظهوره في نهاية الحرب العالمية الأولى. الحدث الأول؛ هو هذا الظهور ككيان سياسي حديث بلا تاريخ ذاتي سابق، وما أعقبه فوراً تقريباً من احتلال فرنسي، دام 26 عاماً، وانتهى عام 1946. والثاني؛ هو الاستقلال ونحو ربع قرن من الأوضاع الصاخبة المتقلبة. الثالث؛ هو انقلاب حافظ الأسد عام 1970 وما أعقبه من "أبد" دام 54 عاماً. والرابع؛ هو سقوط النظام وبداية زمن ما بعد الأسد. ولكن ماذا تعني تلك التحولات التاريخية الأربعة بالنسبة لنا؟
تاريخ مليء بالحروب والانقلابات والانتفاضات
أول بداية سوريا لم تكن سورية، فهي تحول في ملكية البلد من العثمانيين إلى الفرنسيين، دون أن يتاح للسوريين امتلاك البلد واستكشاف سبل إدارة شأنهم المشترك الذي تلاعب به الفرنسيون بصور مختلفة. شهدت تلك السنوات ثورة وانتفاضات، ومفاوضات، وانتهت بعد عام واحد من نهاية الحرب العالمية الثانية.
والحدث الثاني هو الاستقلال من الاستعمار عام 1946، ومحاولات تدبر مشكلات بلد ناشئ مثيرة. يتصل بعض هذه المشكلات بتكوينه البشري المتعدد إثنياً ودينياً وطائفياً دون قواعد مستقرة سابقة لتنظيم العلاقات بينها، ويتصل بعض آخر بالمشكلة الفلاحية وقضايا الإصلاح الزراعي، ويُحيل بعض ثالث إلى بيئة جيوسياسية قاسية، يبرز منها معطيان: نشوء الكيان الإسرائيلي على حساب فلسطين وشعبها، ثم الحرب الباردة. تميزت سوريا بقدر كبير من عدم الاستقرار السياسي بفعل التعثر في مواجهة هذه المشكلات، وشهد البلد عشرة انقلابات ناجحة بين 1949 و1970، قبل أن يقع في قبضة وزير دفاعه أثناء حرب 1967 التي انتهت بهزيمة عربية مذلة.
حكم حافظ الأسد هو الحدث الثالث. الرجل حكم البلد ثلاثين عاماً، حكم خلالها بالاعتقال السياسي والمجازر، قبل أن يورث الحكم لابنه بشار عام 2000. الأسرة الأسدية حكمت سوريا 54 عاماً، وهذا زمن طويل جداً، ليس فقط لأنه يتجاوز نصف كامل تاريخ الكيان السوري، وإنما أساساً لأننا حيال مجتمع فتي، 96% من سكانه دون الستين، بلد كان يحتاج إلى حياة سياسية وإلى مداولات عامة نشطة كي يتوجه في منطقة وفي تاريخ عاصفين.
انتهى "الأبد" الأسدي بعد 14 عاماً تقريباً من الثورة والحرب والمعاناة الإنسانية الرهيبة. الواقع أن البدايات السورية الأربع جاءت بعد حروب عدة؛ حربان عالميتان، حرب شرق أوسطية، ثم ثورة وحرب أهلية. ومثلما واجه البلد دون تأخير مشكلات عسيرة في بداياته الثلاث السابقة: الاحتلال الفرنسي في الأولى، والانقلابات العسكرية في الثانية، والطغيان الدولتي في الثالثة، فقد أخذ يواجه فوراً تقريباً مشكلات عسيرة في بدايته الرابعة. يوم فر بشار الأسد إلى موسكو هاجمت إسرائيل ودمرت مقدرات عسكرية سورية، ثم أخذت تحتل أراض سورية جديدة، وهي من قبل قوة احتلال لمرتفعات الجولان منذ عام 1967. ولا تزال هناك قوات أميركية وروسية وتركية في الأراضي السورية، وإن في صور غير نشطة. وهذه مشكلة أولى مزمنة.
"طغيان دولتي مديد"
وبعد ثلاثة أشهر انفجر عنف شديد في الساحل، حيث يتركز أكثر العلويين السوريين (نحو 12% من السكان)، ومورست خلاله انتهاكات إجرامية، وأخذ طابعاً إبادياً. وراء ذلك في تقديري لقاء بين شيئين: تصور بأن البيئة العلوية داعمة للحكم الأسدي المسؤول عن استهداف تمييزي للبيئات السنية الثائرة عليه، ثم عداء ديني بالنظر إلى مغايرة و"باطنية" المعتقد العلوي. أعقب ذلك في مايو/أيار اعتداءات على مواطنين دروز (نحو 3% من السوريين)، وقع فيها ضحايا واعتدي على أملاك.

"أنا الناجي الوحيد من عائلتي"
يروي ناجون من أعمال العنف، التي اجتاحت مدن الساحل السوري خلال الفترة 6-10 مارس/آذار، لموقع "قنطرة" قصصهم. تحذير: تحتوي الشهادات تفاصيل عمليات قتل عشوائية ضد المدنيين العلويين، وقد تكون صادمة.
ينتشر بين السوريين السُنة، الذي يشكلون نحو 70% من السوريين يجمعون بين الاحتقان الشديد بفعل استهداف تمييزي أثناء الثورة والحرب وبين الشعور بالانتصار، حس امتلاك للسلطة والبلد، يعبر عن نفسه بصور عدوانية. وفيما يتصل بهذا النسق من المشكلات، لم يسر الاندماج المتفق عليه لسلطة قوات سوريا الديمقراطية، ذات العمود الفقري الكردي، في الدولة السورية الجديدة إلى الأمام رغم مرور ستة أشهر تقريبًا على توقيعه. وتشمل الاتفاقية المبرمة في مارس/آذار 2025، من جملة أمور، دمج قوات سوريا الديمقراطية في المؤسسات المدنية والعسكرية التابعة للدولة، والاعتراف بالمجتمع الكردي كجزء أساسي من الدولة السورية يتمتع بحقوق المواطنة الكاملة. ويُشكل الأكراد ما بين 8-10% من إجمال السكان.
هناك بعد ذلك أوضاع اجتماعية واقتصادية بالغة السوء، حيث كان يعيش نحو 90% من السوريين تحت خط الفقر المقدر بدولارين أميركيين في اليوم. وهذا بأثر سنوات طويلة من الحرب ومن العقوبات الاقتصادية الأميركية والغربية، التي عانى منها الحكم الأسدي قليلاً، وأكثرية السوريين كثيراً.
وفي المقام الرابع، هناك مشكلات تتصل تكوين الفريق المسيطر الجديد. تنحدر هيئة تحرير الشام من جبهة النصرة التي كانت منظمة سلفية جهادية مرتبطة بالقاعدة. قطع الجماعة ارتباطهم بالقاعدة منذ سنوات، وأخذ يصورون أنفسهم كجزء من قوى الثورة السورية بعد أن كانوا على عداء لها، وصاروا يرفعون علمها بعد أن كانوا يحظرونه ويهينونه. بعد التغيير عرضوا اعتدالاً في الفعل والخطاب، لكن لا يبدو أننا حيال قوة متجانسة، تسيطر على جميع الفصائل المسلحة التي شاركتها عملية إسقاط النظام الأسدي الخاطفة. وبعض هذه الفصائل متطرفة، وبعضها مكونة من جهاديين أجانب، وبعضها فاسدة جداً وفي سجلها جرائم كثيرة. احتكار قوات وزارة الدفاع للسلاح، حتى لو تحقق، لا يضمن وحدة السلاح فعلاً، بالنظر إلى هذا التكوين الفصائلي الراهن للقوات المسلحة.
هناك مشكلة خامسة لا يجري الكلام عليها بقدر ما يلزم، المشكلة البيئية، حيث لم يتجاوز معدل الأمطار هذا العام 20% من معدله المعتاد، وهذا كارثي في بلد أميل إلى الجفاف في الأصل. لم تهطل أمطار خلال كل الشهر الأول من هذا العام الذي قضيته بين دمشق وحمص واللاذقية والسويداء إلا لبضع دقائق مرة واحدة (وفي دمشق)، علما أن هذا الشهر عادة بارد وممطر. وفي زيارتي الثانية بين منتصف أيار ومنتصف حزيران كان الجو حاراً جداً، أشبه بما كان من قبل في شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب، المعروفين بارتفاع حرارتهما في سوريا. تتأثر سوريا والشرق الأوسط بقوة بالتدهور المناخي العالمي على نحو ينذر بهجرات مناخية بعد الهجرات السياسية التي شهدناها قبل عشر سنوات. ويقول بعض السوريين إن الحرارة مختلفة في السنوات الأخيرة، عدوانية في الصباحات المعروف في سوريا بلطف مناخها.

مدى استعداد العالم العربي لمواجهة الطقس الحار
تشير التوقعات إلى ارتفاع وفيات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مستقبلا بسبب تكرار موجات الحر الشديد، فما مدى استعداد بلدان هذه المنطقة لدرجات حرارة قد تلامس الخمسين؟ استخبار كاثرين شير.
بنظرة زمنية طويلة، تعود المشكلات التي تواجهها سوريا اليوم إلى تلاقي عوامل عديدة: طغيان دولتي مديد وحرمان من النقاش والتفكير المشترك، بيئة إقليمية عدوانية وفاسدة، زيادة سكانية غير مسيطر عليها (كان السوريون 6 ملايين عام 1970، وهم نحو 25 مليون نسمة اليوم)، مشكلات اجتماعية ودينية غير معالجة، وارتفاع حرارة الكوكب بفعل الانبعاثات الصناعية. ومثلما خسرت سوريا بداياتها الثلاث السابقة، هي مهددة اليوم بخسارة هذه البداية الرابعة. الفرنسيون قسموا البلد أكثر من مرة وعملوا على إضعاف متنها العربي الإسلامي. الفريق الاستقلالي فكر بطي صفة الاحتلال الفرنسي والعودة إلى مركزية سنية ميزت الحكم العثماني، وإن على أرضية عروبية معادية لوريثته تركيا. ويمكن التفكير في الحكم الأسدي كما لو أنه عودة إلى الاحتلال الفرنسي على المستوى السياسي الديني، وقد أورث البلد أزمة ثقة وطنية متفجرة. ويبدو الحكم الجديد اليوم أنه يعمل على طي هذه الصفحة تماماً، والعودة إلى نظام مِلل مُحدّث، ما بعد عثماني. هذا كله يضع تكوين سوريا الفعلي بين قوسين، ويؤول إلى الفشل بعد حين يطول أو يقصر.
أهم خطر يواجه سوريا
في تقديري أن أهم خطر يواجه سوريا اليوم هو المشكلة المزمنة التي عانت منهما لوقت طويل من قبل: الطغيان الدولتي. الديناميكيات السورية اليوم تسير في اتجاهات متعددة، لكن أقواها هي ديناميكية تركيز السلطة في أيدي من أسقطوا الحكم الأسدي من قوى سنية، وبالتالي اجتماع الدولة والدين في الأيدي ذاتها. الطغيان الدولتي يقود حتماً إلى التمييز الطائفي لإضعاف قوى المحكومين وللاستناد إلى بعضهم ضد بعض. حدث ذلك في الحقبة الأسدية المديدة، ويبدو أنه يحدث اليوم. ونعلم أن اقتران الطغيان والطائفية هو وصفة للعنف الفائق، الإبادي، وقد رأيناه طوال سنوات ما بعد الثورة في الزمن الأسدي، ورأينا عيّنة منه في مجازر الساحل في مارس/آذار الماضي، مع ضروب متعددة من الانتهاكات القاتلة، يستمر بعضها إلى اليوم. هنا التحدي الرئيسي الذي لن تكون سوريا في وضع أفضل لمعالجة مشكلاتها الصعبة الأخرى دون رد فعال عليه.
ما سبق ذكره من مشكلات (الاعتداءات الإسرائيلية، الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية، التدهور البيئي وشح المياه...) تحتاج إلى جهدي دولي منسق لمعالجتها يتجاوز طاقة السوريين. أما ما لا يتجاوز طاقة السوريين فهو استخلاص الدروس من تاريخ بلدهم غير الطويل، وتجنب الطغيان الدولتي ومركب الطائفية والعنف الفائق. هذا رهن بمقاومات السوريين ومبادراتهم ومثابرتهم، لكنه على المدى القصير مرهون بأحمد الشرع وفريقه المنتصر.
وفي هذا الشأن يبدو أن السلطات تفعل اليوم الشيء وعكسه. من جهة تعمل على تهدئة الأوضاع، ومحاولة كسب ثقة السكان والحد من الانتهاكات، ومن جهة ثانية تحد غريزة الاستئثار بالسلطة من المفعول الإيجابي لهذه الأفعال، وتثير شعوراً بالغربة بين قطاعات السكان المعنية، فتزيد من الاستقطاب الاجتماعي، وتدفع قطاعات جديدة من المجتمع السوري إلى الهجرة. هذا ملحوظ سلفاً. لجأ إلى لبنان القريب ما لا يقل عن 13 ألفاً من العلويين في شهر آذار، نجاة بأرواحهم. وهناك طلبات لجوء متزايدة من علويين إلى أوربا.
هذا، ومشكلات الاقتصاد والخدمات والسكن والتعليم، لا تشجع الكثير من اللاجئين السوريين في أوروبا، وغيرها، على العودة إلى سوريا. عاد بضع مئات من الألوف، مما لا يقل عن سبعة ملايين لاجئ سوري خلال الأشهر السبعة الماضية.
البداية السورية الرابعة، اللاحقة لسقوط النظام، لم تترسخ بعد. هناك مجال للانعطاف من فوق، وهناك قاعدة واسعة نسبياً لأنشطة اجتماعية وثقافية وسياسية مستقلة، وهناك بعد ذلك قطاعات من المجتمع ومن الجغرافيا السورية خارج الهياكل السياسية الآخذة بالتشكل. وعلى تفاعل هذه القوى الثلاث، الحكم الجديد والتجمعات المدنية الناشطة والجماعات الإثنية والدينية المفاوضة من أجل صيغ اندماج جديد، تعتمد فرص بداية مغايرة للبدايات الثلاثة السابقة.
أرجو أن تسمحوا لي بختام شخصي. يحدث كثيراً أن أسأل إن كنت متفائلاً أم متشائماً، وأجيب دائماً إني متفاعل. هناك جناس لفظي محبب بين الكلمات الثلاث، أما من حيث الدلالة فيبدو لي التفاعل موقفاً أقل نرجسية من التشاؤم وأقل فظاظة من التفاؤل. وهو بعد مفتوح على ما يحدث، على الصيرورة والتغير، وليس موقفاً إجمالياً جامداً. متفاعلٌ مع ما يحدث في بلدي، يسرني أن تتحسن الأوضاع ولو بأيدي خصومي، وأعتقد أن سياسة الأسوأ أنانية وغير مسؤولة. لكن لابد من إبقاء من يحكمون تحت ضغط النقد، لأن الاستعداد السياسي الصحيح هو عدم الثقة بالأقوياء. التفاعل بعد ذلك مفتوح على التعاون والشراكة، كما على الخصومة الجذرية والثورة.
ينشر هذا النص في النسخة المطبوعة المشتركة بين قنطرة ومجلة Kulturaustausch. ولمزيد من التحليلات والمقابلات والتقارير حول سوريا عبر موقعنا هنا..
قنطرة ©