بعيدًا عن الأحكام المسبقة والأيديولوجيات
يختفي بعض المخرجين لردحٍ من الزمن، على غرار ما فعله "جيمس كاميرون" James Cameron على سبيل المثال، وهو المخرج الأكثر نجاحًا على مر العصور، والذي اختفى لمدة عشر سنوات بعدما أنجز فيلمه "تيتانيك" Titanic الذي حقق نجاحًا ممتازًا واستثنائيًا.
لنعترف، لم يحقق فيلم "ضد الحائط" ما حققه "تيتانيك"، ولكن بحيازته على جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي وجائزة الفيلم الأوروبي سجل أكين نجاحًا معتبرًا لا يستهان به.
لكن بدل الوقوع في المغامرة وفقدان الثقة بالذات دأب أكين -الذي يصف نفسه بابن مدينة هامبورغ- على العمل وحقق على الهامش فيلمه "عبور الجسر" Crossing the Bridge، وهو شريط وثائقي يتناول المشهد الموسيقي في اسطنبول. وقد ساعد الفيلم بعد عرضه على ظهور طفرةٍ مفاجأةٍ في الملاهي الليلية الألمانية التي امتلأت بـ"حفلات الأنغام البوسفورية" Bosporus Beats Parties. وها هو الآن يحصل في "كان" على جائزة أفضل سيناريو.
مواجهة اللجوء والموت
يروي فيلم أكين الجديد "الجانب الآخر" عبر قصصٍ عابرةٍ سير حياة ستة أشخاص هم: العامل الوافد "علي"، الذي يقع في غرام المومس التركية "يتير"، التي تغطي بجزءٍ مما ادخرته من أموال أكلاف الدراسة الجامعية لابنتها. وتقع كارثة عندما يسافر "نجاد" ابن "علي" إلى تركيا للبحث عن "أيتان" بعد أن يشعر بالاغتراب عن أبيه.
بيد أن "أيتان" تكون قد فرَّت في غضون ذلك إلى ألمانيا هربًا من الملاحقة السياسية في تركيا، لتقع هناك في غرام الطالبة "لوتِّة"، ويتم إبعادها من ألمانيا. وتقع كارثة ثانية عندما تسافر "سوزانة" والدة "لوتِّة" إلى تركيا.
كما في العمل الفني التأملي الرائع "بابل" لمخرجه الخاندرو غونزاليس، يروي فاتح أكين بصبغته الخاصة المميزة، وعلى فترات زمنية متلاحقة قصةً ما لينتقل بشكلٍ مفاجئ إلى ساحة أحداثٍ أخرى حيث يتناول موضوعًا جديدًا يتابع به عمله.
تتقاطع بعض مسارات القصص، ومسارات أخرى تسير بالتوازي، بعض الشخصيات تكاد تلتقي ببعضها لكنها لا تفعل ذلك في اللحظة الأخيرة، بعضهم يتوفون فجأةً، كما يلتقي البعض الآخر فجأة.
عنصر الصدفة هذا أو القدر الذي تخطَّه الحياة، هو العنصر الحاضر الذي يخلق الحياة أو ينهيها كما عهدناه في أفلام كيسلوفسكي Kieslowski الرائعة. وهذا هو الاسم الكبير الثاني وليس الأخير الذي يُذكرنا به عمل أكين الجديد، وبالفعل فإن فيلم "الجانب الآخر" يستحق بجدارة لقب "السينما الأوروبية".
القرب من الواقع السياسي
ولأن الفيلم لفاتح أكين تحديدًا، ولأن مصطلح "السينما الألمانية-التركية" يلتصق به في الواقع، لا بد لنا من الحديث مجددًا عن مدى تناول هذا الشريط لـ"مسائل التمثيل" أيضًا، أكان ذلك بطرحه للنقاش الدائر في الإتحاد الأوروبي وفي كيفية التعاطي مع العرض المنمَّط للوافدين الأجانب.
من هذه الناحية لن يخيب أملنا: الجدل السياسي، الألمان، الأتراك، وعلاقتهما ببعضهما –كل هذا وأكثر منه حاضرٌ في الفيلم. لكننا لا نلاحظ ذلك دائمًا.
كيف يتم تهديد "يتير" من قِبَلِ إسلامويين ظلاميين في وسط مدينة هامبورغ، كيف تنشط "لوتِّة" الساذجة للدفاع عن حقوق الإنسان، كيف يعيش "نجاد" بوصفه بروفسور في مادة الآداب حياةً ناجحةً "مندمجةً" ولكن خالية من السعادة: في مشاهد كهذه وأخرى مشابهة من الممكن معاينة نقاشات واسعة.
لقد قدمت سينما الوافدين في ألمانيا مواضيع مماثلة في العقود الأخيرة –بيد أنها بقيت غالبًا في إطار طرح الأفكار، متخشبةً، رافعةً إصبع المربي الأخلاقي. لكنها كانت ابنة تلك المرحلة حيث لم يكن غير ذلك ممكنًا.
سينما تخطف الأنفاس وشخصيات مجسمة
أما اليوم فيبين فاتح أكين كيف يمكن صناعة هكذا أفلام: فهو يُدخِل مواضيعه بمهارةٍ عاليةٍ في مسار القص بحيث لا يتراجع انشداد المُشاهد واهتمامه وفضوله طيالة الفيلم. ويُقدم أكين في غضون ذلك مشاهد سينمائية تخطف الأنفاس، حيث تنبثق فجأة صدمةٌ ما لتُحدِث تحولاً في مسار الفيلم –وفي كل ذلك تغدو الشخصيات مُجسَّمةً لدرجةٍ يظن المشاهد معها أن هذه الشخصيات موجودةٌ وتعيش في الواقع القائم.
بيد أن الحياة أكثر من هذه الفكرة أو تلك، لنأخذ أحد الأمثلة من الفيلم: الساذجة "لوتِّة"، والناشط "أيتان"، والمثقف "نجاة"، يقفون قبالة علي وسوزانة ممثلي الجيل القديم الذين كانا قد عايشا في شبابهما وعلى نحوٍ مماثلٍ كثيرًا مما يحرك الشباب في هذا الزمن المتصف بسرعة وتيرته والمفعم بالحروب. نذكُر من هذه المعايشات: الانقلاب العسكري، وخطر الإرهاب، وحرب فيتنام، وأزمة النفط، وإشكاليات الهجرة.
أما الخطوة الممتازة فتكمن في إعطاء دور الرجل والمرأة المتقدمين بالسن لـ"هنا شايغولا" Hanna Schygulla أيقونة المخرج فاسبيندر، ولـ"تونشل كوريتس" Tuncel Kurtiz نجم أفلام يلماز غوناي، والاثنان شخصيتان يساريتان فذتان في سينما الكاتب.
علاوةً على ذلك يتوافق ظهور نجمي الفيلم في فترةٍ زمنيةٍ تخوض فيها ألمانيا نقاشًا داخليًا حول تاريخ يسارها الدامي، وتجري في تركيا مُساءلةُ حركتها السياسية اليسارية القديمة. هل هذا محض صدفة؟
دعوة للتمييز ولرؤية تموجات اللون
وحيث يطل من جهة أخرى تهديد التفكير عبر قوالب جامدة بين الشرق والغرب من جديد، تفكيرٌ لا يرى سوى أسود أو أبيض، يطلق فاتح أكين دعوةً للتمييز ولرؤية تموجات اللون.
لنأخذ "أيتان" على سبيل المثال: تعطي الملاحقة التحريضية من قبل الشرطة لـ"أيتان" صورةً واقعيةً عن طريقة تعامل تركيا مع الأقليات، كما أن تسفيرها القصري من ألمانيا يمثل هجاءً للبيروقراطية الألمانية التي تُعنى بشؤون اللجوء السياسي. أما رفاقها من الكوادر المنظمة المستعدين لشق طريقهم فوق الجثث إن استدعت خدمة القضية ذلك، فلا يدفعون المُشاهد للتعاطف معهم بأية حالٍ من الأحوال.
ويشير عنوان الشريط إلى أن مهمة "أيتان" مختلفة، ألا وهي الوصول إلى الجانب الآخر بعيدًا عن الأحكام المسبقة، والأيديولوجيات، والتصلب بالمواقف، وتنطبق هذه الأشياء على الأصدقاء، والغرباء، والبلاد، والثقافات. أن يقف أكين على حافة الموت أمرٌ لا يجعل الفيلم قاتمًا، بل يضفي على الحياة عمقًا إضافيًا، ويطالب الناجين بالوقوف الحاسم إلى جانب معناها.
باقي شخصيات الشريط تَخْبَرُ شيئًا عن ذاتها وعن الآخرين. هذا الصدى القوي الذي يَتركه "الجانب الآخر" لدى المشاهد، يجعل منه فيلمًا متميز.
أمين فرازنفار
ترجمة يوسف حجازي
حقوق الطبع قنطرة 2007
قنطرة
"تركيا بحاجة إلى الهيب هوب "
في فيلمه الجديد "عبور الجسر – أصوات اسطنبول" يقوم المخرج الألماني-التركي فاتح أكين برحلة بحث عن معالم موسيقية في اسطنبول. فينشأ عن هذه الرحلة تكريماً مفعماً بالرقة للموسيقيين وللموسيقى النابضة والمتنوعة والمثيرة في هذه المدينة. تقرير بيترا تابلينغ
قنبلة سياسية واجتماعي
حصل الفيلم "ضد الحائط" للمخرج فاتح أكين، التركي الأصل والمقيم في ألمانيا، على الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي الدولي. زيلكه بارتليك تعرفنا بالفيلم والمخرج