الآلاف من الأفارقة اشتركوا في تحرير فرنسا
اشترك العديد من رؤساء دول إفريقية في احتفالات الذكرى الستين لتحرير فرنسا من الاحتلال الألماني وكانت هذه المرة الأولى التي يحظي فيها قدماء المحاربين الأفارقة الذين حاربوا في صفوف الجيش الفرنسي باهتمام واسع لدى الرأي العام الفرنسي. تقرير غوتز نوردبروخ
سنتان قضاهما المدرس السنغالي ليوبولد سنغور في جبهة ساتالاغ 230 بأميان الفرنسية. وكجندي في صفوف الجيش الاستعماري الفرنسي وقع أسيرا سنة 1940 في شاريتي على اللوار (Charité –sur-Loire). "لقد هشّمتني أوروبا – كمحارب عجنته دبّابة بمثل رفس أقدام الفيلة"، هذا ما كتبه سنغور في إحدى قصائده التي نظمها وهو أسير حرب بين أيدي الألمان.
في نصوص سنغور الذي انتُخب بعدها بعشرين سنة أول رئيس جمهورية للسنغال تلعب ذكرى الجنود الأفارقة في الحرب العالمية الأولى والحرب لعالمية الثانية بصفة أخص دورا هاما. وقد جاءت تلك القصائد التي خص بها سنغور "الرماة السنغاليين" من فرق المشاة في الجيش الفرنسي مطبوعة بإعجابه بفرنسا والثقافة الفرنسية وفي الوقت نفسه بمواقف نقدية للاستعمار ولعنصرية المجتمع الفرنسي.
"واجب التذكر" هو الشعار الذي يقدمه عبدولاي واده الرئيس الحالي للسنغال كمبرر لجعل يوم الثالث والعشرين من شهر آب/أغسطس يوم إحياء ذكرى الجنود الأفارقة. "كي تتذكر الأجيال الجديدة أن إفريقيا كانت حاضرة ساعة النهوض للكفاح من أجل الحرية"، يوضح واده في ندوة صحفية بداكار أعلن فيها خبر إقامة اليوم الوطني للذكرى الذي يقع الاحتفال به لأول مرة في هذه السنة.
وينطوي اختيار يوم 23 من آب/أغسطس كيوم سنوي للاحتفال بتحرير مدينة تولون في سنة 1944 على "دلالة رمزية عن اشتراك الرماة السنغاليين في تحرير فرنسا ولكفاح الحلفاء ضد النظام النازي" حسب قول واده.
خلال الحرب العالمية الثانية كان هناك 500 ألف جنديا من البلدان الإفريقية من المقاتلين في صفوف الجيش الفرنسي ينحدرون من مالي والبينين وبوركينا فاسو والكامرون والكونغو وساحل العاج والغابون وموريتانيا والنيجر وتشاد وتوغو، ومن الجزائر والمغرب وتونس. و حوالي 150 ألفا من هؤلاء الجنود كانوا من ضمن صفوف الحلفاء في عملية الإنزال بمقاطعة البروفانس يوم 15 آب/أغسطس 1944.
وكانت كورسيكا وإلبا وتولون (بفرنسا)، وكذلك لوراش ونويشتادت وفالدسهوت وكونستانس (بألمانيا) ضمن الأماكن العديدة التي تم تحريرها بمشاركة جنود تلك الوحدات. وفي الصور التي تجسد احتفالات التحرر في شوارع تولون ومرسيليا وليون يرى المشاهد عساكر فرنسيين في مواكب استعراضية جنبا إلى جنب مع مشاة جزائريين وسنغاليين وأميركيين.
"في يوم 23 من آب/أغسطس 1944 استرد المشاة السنغاليون مدينة فرنسية من أيدي الاحتلال الألماني. كان ذلك قبل ستين سنة. كان ذلك أمس. لكننا نعيش اليوم"، يعلق أبولاي سايي في صحيفة Le Soleil السنغالية. وكـ"منقذين من الخارج" حظي قدماء المحاربين الأفارقة في الاحتفالات الرسمية لهذه السنة لأول مرة باهتمام واسع لدى الرأي العام الفرنسي.
وقد اشترك في متابعة الاحتفالات قبالة ساحل تولون إلى جانب الرئيس الفرنسي جاك شيراك الرئيس الجزائري بوتفليقة و14 رئيس دولة وحكومة إفريقية. ومن بين الـ 21 جنديا من المحاربين القدامى الذين وسمهم الرئيس شيراك كان هناك 18من القادمين من البلدان الإفريقية التي كان الجيش الفرنسي ينتدب منها عساكره. إنها لفتة مقصودة من جانب الرئيس شيراك وعلامة على إجراء تصحيحي لسياسة الذكرى التي ظلت تمارسها فرنسا إلى حد الآن.
إلاّ أن "المظلمة الكبرى" التي ظلت في ما مضى تمارس الحيف تجاه العساكر الأفارقة والتي ينتقدها الرئيس واده وكذلك آخرون غيره لا تنحصر فقط في غياب اعتراف رمزي على المستوى الرسمي. وبالرغم من العبارات اللطيفة التي عبر بها واده خلال الاحتفالات عن تنويهه بالجهود الفرنسية في هذا الشأن، فإن منظمات عالمية متنوعة قد أشارت في الأسابيع الأخيرة بالذات إلى الحيف القانوني الذي ما يزال متواصلا تجاه قدماء المحاربين من العرب والأفارقة.
وفي بيان للفيدرالية العالمية لحقوق الإنسان (FIDH) نشر بعد الاحتفالات الرسمية في تولون بيومين تقع الإشارة إلى بقاء الحيف على حاله تجاه الجنود القدامى من غير الفرنسيين. ففي قانون صادر سنة 1959 قد تمت "بلورة" وضبط حقوق منحة المعاش بالنسبة للجنود الأجانب بحسب مستوى المعاشات في زمن خدمتهم الماضية. وعلى إثر صدور قرار من المحكمة العليا الفرنسية في سنة 2000 تم ضمنه انتقاد الفوارق في مستوى المنح واعتباره "تفرقة وحيفا قائما على أساس الجنسية" قررت الحكومة في تلك السنة رفع منحة المعاش بمعدل 20% بالنسبة للـ 80 ألف جنديا سابقا من الذين ما يزالون على قيد الحياة آنذاك.
ولكن حتى بعد ذلك التاريخ فإن تلك المنح التي تعادل 60 يورو في المغرب و210 يورو في السنغال بقيت دون مستوى الـ 425 يورو بكثير التي تدفع للمحاربين القدامى الفرنسيين.
والأسوء من ذلك هو ما يراه العديد من أولئك "المنسيين" من أن مساهمتهم في تحرير فرنسا تكاد لا تشهد أي تغير في قابلية المجتمع الاستعماري القديم للتعبير عن أخذها بعين الاعتبار. و يصرح المحارب القديم عيسى سيسي لصحيفة ليبراسيون الفرنسية بأنه لم يعد ينتظر شيئا من فرنسا، لكنه يرى أنه من "المحزن أن لا يحظى أبناؤنا حتى بحق السفر إلى فرنسا."
أما قرار شارل دي غول بعد مضي أسابيع قليلة على معركة البروفانس الحاسمة بتسريح العساكر الأفارقة وتعويضهم بمقاتلين من مناضلي حركة المقاومة الفرنسية فقد كان بمثابة التعبير المبكر عن سياسة النكران تجاه كفاح جنود الرماة. وتشير صحيفة Le Soleil السنغالية، معبرة عن رأي الصحف الأخرى أيضا، إلى أن محاولة "تبييض" جيش "فرنسا المكافحة" كانت تهدف فقط إلى تثبيت صورة عن "فرنسا أوروبية" خالصة.
أما المخرج السينمائي السنغالي سمبانة فقد كشف بفيلم "معسكر تياوري" الذي عرض على الشاشة سنة 1988 عن جزء آخر ضائع من سياسة الذاكرة الفرنسية. فقد قام ببتصوير أحداث تمرد الرماة السابقين في معسكر سنغالي والقمع الدموي الذي قوبل به ذلك التمرد من طرف الجيش الفرنسي صورة عن تواصل السياسة الاستعمارية الفرنسية بعد الحرب.
ذلك أن الرماة ومن بينهم جزء من العائدين توا من الأسر الألماني، وأمام المعاملة غير العادلة التي كانوا يعاملون بها مقارنة بنظرائهم من الجنود الفرنسيين السابقين، قد دخلوا في عملية احتجاج ضد سياسة المسؤولين الفرنسيين، وكانت النتيجة أن لقي العشرات حتفهم في عملية العقاب التي واجههم بها الجيش الفرنسي بقصف معسكرهم.
وسمبانة الذي قضى هو أيضا خدمته العسكرية في صفوف الجيش الفرنسي أثناء الحرب العالمية الثانية مثل ليوبولد سنغور لم يغفل في شريطه السينمائي عن التعبير مرة أخرى عن تعاطفه مع فرنسا. لكن أفلامه محملة أيضا بنقد لاذع لسياسة الذاكرة الفرنسية، مثله مثل سنغور الذي يستعمل في قصيدة مهداة لضحايا الحرب الأفارقة عبارة "العار الأسود" الألمانية لوصف التنكر الفرنسي لعساكر إفريقيا من الجيش الفرنسي.
ازدواجية الذاكرة هذه كانت أيضا نقطة محورية في الملتقيات التي ضمت مؤرخين أفارقة وفرنسيين والتي انتظمت لأول مرة هذه السنة بمناسبة إحياء ذكرى الرماة السنغاليين. كما أعلن الرئيس عبدولاي واده أن مقبرة ضحايا تمرد معسكر تياوري ستنضم في المستقبل هي أيضا إلى تظاهرات التذكير بمشاركة المحاربين الأفارقة القدامى في تحرير فرنسا.
بقلم غوتز نوردبروخ
ترجمة علي مصباح
حقوق الطبع قنطرة 2004