العقلانية الإسلامية حول العلاقة بين الشريعة والاسلام

أن نتحدث اليوم عن العلاقة بين الشريعة والعقل، لهو دليل على أن هناك اختلافا قائما بين المقولتين. لكن تاريخ الفكر الاسلامي لم يعرف مثل هذا الخطاب الثنائي الذي يميز بين الشريعة والعقل أو بين الإسلام والفهم. إنه خطاب معاص زامن التحولات ما بعد الاستعمارية وكان منسجما مع المد العقلاني الذي شمل كل مجالات الحياة وفرض نفسه فيما فرض على المسلمين أيضا. وهكذا أصبح المسلمون يواجهون منذ زمن سؤال العلاقة بين الدين، أو ما أصبح يصطلح عليه مؤخرا بالشريعة، والعقل.

عتقد المسلم أو المسلمة، تقليديا، أن لا فرق بين الشريعة والعقل، بين قواعد الشريعة والمعرفة الإنسانية، لأن الشريعة في نظر المسلم هي الأكثر عقلانية وتوافقا مع طبيعة الإنسان. وكثير ا ما يتم استظهار الآية 30 من سورة الروم، والتي يتوجه فيها الله عز وجل إلى النبي محمد قائلا: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون" ويتم التعبير عن هذا التوافق بين الشريعة والعقل في قاعدة فقهية تقول :"كل ما يحدد العقل يحدد الشريعة وكل ما يحدد الشريعة يحدد العقل".

وهكذا فإن كل فعل إلهي ينسجم في نظرة المسلمين مبدئيا مع العقل والفهم، لأن الله في قناعتهم الحكيم والأكثر علما، تتبع مخلوقاته وقواعد شريعته نهجا محددا.

ولو أن قواعد الشريعة منسجمة فعلا مع العقل البشري، لما شهدنا ظهور كل هذه الأدبيات ومنذ عقود حول "حقوق الانسان والإسلام"، "الديمقراطية والشريعة"، "التسامح والإسلام" وفي عبارة وحيدة "الحداثة والشريعة". إنها قضايا لم تناقش فقط في البلدان الغربية ولم ينحصر النقاش فيها في أوساط علماء غير مسلمين، فالكتب التي تعالج هذه القضايا تنتشر أيضا وفي قوة في العالم الإسلامي. ولا غرو أن الإنسان المعاصر، الذي يأتي على رأس إنجازاته العقلية ميثاق حقوق الإنسان، يجد بعض الصعوبات في قبول الفهم التقليدي للشريعة. وأضرب في هذا السياق مثلا بحرية الرأي وحرية العقيدة. إن حرية العقيدة أضحت اليوم أمرا بديهيا، لا يمكن لأحد التخلي عنه. لأن كل منا واع بأن "حرية العقيدة ليست نوعا من المحاباة ولا تدخل في باب التسامح مع الظالين من الناس. إنها حق أساسي من حقوق كل إنسان. ومطالبة المرء بحقه في الاعتقاد يستلزم أيضا اعترافه بحق الآخر في التمتع بنفس الحق". من جهة أخرى فإن الرأي الرسمي لأغلبية علماء الدين المسلمين يرى أن الشريعة ترفض رفضا مطلقا الارتداد عن الدين. إنني لا أتحدث هنا عن شكل العقوبة التي تطبق على المرتد والتي لم تحدد في القرآن ولكن في السنة والتي تختلف في التفاصيل من مدرسة فقهية لأخرى. إني أتحدث عن الحق في تغيير القناعة الدينية، وفي هذه الحال الارتداد ن الإسلام. وهو ما يرفضه القرآن أيضا في الآية 217 من سورة البقرة" يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ "

والدليل على أن هذا الفهم للشريعة مازال قائما حتى الآن بل ويطبق أيضا، قضية المفكر والناشط المصري فرج فود الذي أعلن علنا رفضه تطبيق الشريعة. اهتم فودة في مقالاته الصحفي بشكل نقدي بالايديولوجا الإسلاموية ودافع عن فكرة أن الشريعة عاجزة عن تقديم حلول لقضايا العصر. وقد أقدم أعضاء في الجماعة الإسلامية على اغتياله في مكتبه في الثامن من يونيو 1992. وقد عمد شيوخ في الأزهر إلى وصفه بالمرتد قبل مقتله وبعدو الإسلام. وهو ما اعتبر ضوءا أخضر لقتلته. وعقب وفاته قال شيخ الأزهر الشهير محمد الغزالي (1917ـ1996) مباركا ما حدث أمام المحكمة:" من يعترض علنا على تطبيق شريعة الله فهو كافر ومرتد ومن الواجب إهدار دمه أما قاتله فلا يجب معاقبته" .

حالات شبيهة شهدناها باستمرار في السنوات الأخيرة تؤكد التناقض العميق بين وجهة النظر إلى الحياة العصرية والعقلانية من جهة وتلك القائمة على الشريعة وموقفها من الردة. وسأعرض أمثلة أخرى تؤكد على هذا التناقض القائم بين الشريعة والمفهوم الحديث للعقل وإليها تنتمي النظرة إلى شهادة المرأة على أنها أقل درجة من شهادة الرجل أمام المحكمة، ووضعية غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، إضافة إلى قضية الحدود.

إذن إن هناك تناقضا واضحا بين الفهم التقليدي للشريعة وبين الفهم الحداثي والإنسانوي للحياة البشرية. فأي موقف علينا أن نتخذه في هذه الحال؟

قبل أن أجيب على هذا السؤال، أريد أن أشرح مفهومي العقل والشريعة بشكل واضح:

لربما يعتبر مصطلح الشريعة الأكثر استعمالا في سياق النقاشات الدائرة حول الإسلام. لكن ليس هناك تفسير موحد لهذا المفهوم. ويعني مصطلح الشريعة في الأصل الطريق في الصحراء الذي يؤدي إلى مصدر الماء، وفي هذا المعنى فإن الشريعة هي الدليل الذي يقود الانسان إلى الله. وبهذا المعنى أيضا يستعمل المفهوم في القرآن والحديث، وهو يرد في القرآن بهذا المعنى مرة واحدة في سورة الجاثية، الآية 18 "ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون" وكفعل وبمعنى الأمر يرد في القرآن مرتين (42/13و21) وهنا استعمل المفهوم في إطار مقدس وليس بالضرورة في إطار إسلامي. وفي الحديث أيضا يرد مفهوم الشريعة والأفعال المشتقة منه في بعض المواضع ويشير عموما إلى النظام الإلهي.

أما في الأدبيات الإسلامية فقد تم تفسير الشريعة بأشكال مختلفة: قانون ديني، طريقة حياة أو القوانين المقدسة للإسلام. وفي الآن نفسه يتم التأكيد على أن الشريعة تصور مثالي عن القانون الإلهي وأنها تنظم كل جوانب الحياة. لكن القانون المطبق يمكن أن ينحرف قليلا عن هذا المثل الأعلى. يمكن للمرء أن يزعم إذن بأن الشريعة هي القانون في شكله الأوسع وأنها تتضمن مجموع القيم والقوانين المقدسة والأخلاقية والاجتماعية والقانونية التي وردت في القرآن والسنة.

لكن لم يكن هناك البتة فهم موحد للشريعة، لأنه كانت هناك دائما رؤى لاهوتية مختلفة ومدارس شرعية متعددة. وفي الوقت الذي ركز فيه الفقهاء على القوانين الشرعية أو على الخارج، حظيت العلاقة الداخلية مع الله باهتمام المتصوفة. وكان هناك اختلاف في الرأي مس كل القضايا السياسية واللاهوتية والشرعية والقانونية من خلافة الرسول وحتى سؤال هل الإنسان مخير أو مسير وانتهاء بكيفية الوضوء. والاختلاف هذا لا يمكنه أن يكون إلا نتيجة لاستعمال العقل. فالجميع يؤكد بأن "الشريعة" الحقيقية واحدة، لكن حين يحاول الإنسان الحديث عن هذه الشريعة يحصل الاختلاف في وجهات النظر. وهو ما يؤكد بأن الفهم جزء لا يتجزأ من الشريعة كما تحققت في التاريخ.

لكن ما الذي نعنيه هنا بالعقل؟ المصطلح العربي "عقل" يستعمل لترجمة كلمة "العقل" وكملة "الفهم". ويصف العقل والفهم عموما القدرة الانسانية على التفكير والمعرفة واتخاذ القرار. ويميز الإنسان في الأدبيات العلمية بين العقل والفهم. ويتحدث المرء عن العقل إذا ما تعلق الأمر بمعرفة المواضيع والعلاقات المعقدة. أما إذا ما تلعق الأمر بفهم السياقات البسيطة فيتحدث المرء عن الفهم. والعقل كمصطلح فلسفي يصف القدرة الفكرية الانسانية على معرفة السياقات العامة في العالم ومعناها والعمل وفقا لهذه المعرفة. أما مصطلح الفهم فيستعمل حاليا في مقابل العقل، إذا ما تعلق الأمر بملاحظة ظاهرة فردية.

لكن في اللغة الدارجة لا يتم التفريق بصرامة بين المفهومين،وحتى في الفلسفة يتم استعمال الفهم والعقل كثيرا كمترادفين لكن وحتى لا نضيع أنفسنا في النقاشات الفلسفية يمكننا أن نقول بشكل عام بأن مصطلح عقل العربي أو العقل والفهم في الألمانية يصفان ملكة التفكير لدى الإنسان.

وكما ذكرنا من قبل فإنه تم استعمال العقل في كل مجالات الشريعة، حتى وإن ادعى كل اتجاه بأن العقل بجانبه، وخلف هذه الممارسة تقف عشرات الدعوات في القرآن والسنة إلى استعمال الفهم. وفي الكثير من الآيات القرآنية والأحادث النبوية نصادف مصطلحات مثل العقل والفكر ومشتقاتهما. وتتم الدعوة في القرآن دائما إلى إعمال الفكر في الطبيعة والتاريخ والتقاليد الأخرى والحياة وما بعد الموت وحول الممارسات الشخصية ونتائجها. وفي بعض مجاميع الأحاديث هناك بعض الفصول حول العقل والعلم. وطبعا فإن القرآن والحديث لا يستعملان العقل بالمفهوم الفلسفي الحديث. فليس القرآن ولا الحديث بنصوص فلسفية كما أنهما ظهرا في عصر آخر لم يناقش العقل بمفهومه الراهن. لكن الأمر كان مهما وموجها للمسلمين أن تشير النصوص الدينية إلى هذا المصطلح وتطالب المسلمين بإعمال الفكر، ولم يكن هناك تخوف من استعمال العقل في إطار الشريعة. وهي ممارسة يمكن الوقوف عليها بوضوح في مجال القانون. فهنا يمثل العقل جزءا أساسيا في عملية استصدار القوانين، وهنا يلعب مصطلح الاجتهاد دورا أساسيا. ودون السقوط في الشطط المفاهيمي يمكن القول بأن الاجتهاد هو الاستعمال العلمي للفهم فيما يتعلق بالشريعة وممارستها. وكما بين ذلك الشهرستاني وابن خلدون يقف خلف ممارسة الاجتهاد تفكير براغماتي. إن المرء يعرف بأنه سواء تعلق الأمر بقضايا دنيوية أو دينية يواجه الإنسان دائما أسئلة جديدة والمرء يعرف بأنه ليس من الممكن تقديم أجوبة على هذه الأسئلة انطلاقا من القرآن والسنة فقط، ولهذا فإنه من الأهمية بل من الضروري على الفقهاء استصدار أحكام جديدة لمواجهة القضايا الراهنة، وبلغة أخرى ضرورة ممارسة الاجتهاد.

وأكد العلماء دائما ضرورة فهم القواعد الدينية في القرآن والحديث وفقا للظروف الزمكانية، وفي هذا السياق تحدث المرء أيضا عن تغير الأحكام بتغير الأزمنة والأمكنة، وهي قاعدة ناقشها بإسهاب العالم الحنبلي ابن القيم الجوزية. وهو ما نلاحظه أيضا عند علماء آخرين حين يتحدثون مثلا عن "تغير الحكم بتغير الحال".

لنعد الآن إلى سؤالنا الأول والمتمثل في كيفية التعامل مع التناقض الواضح بين بعض الأحكام الشرعية، مثل حكم الردة ومفهوم حقوق الانسان المعاصر ونصه على حرية الرأي والمعتقد؟ هناك العديد من العلماء الذي يؤمنون بحرية المعتقد ويعودون إلى الآية القرآنية :"لا إكراه في الدين" لكنهم يرون في رفض الخروج عن الاسلام بل وفي معاقبة المرتد حكما صحيحا وعقليا. إنه لموقف متناقض وغير مقبول. ولا يمكن التعبير عن مثل هذا الموقف إلا في عالم يحدد الناس حسب انتماءهم الديني، وهي طريقة تفكير أضحت اليوم وحتى فيما يتعلق بفهم الاسلام غير مقبولة وهي طريقة تفكير تفرق بشكل غير شرعي بين الناس وحتى أمام الله.

وإذا ما طلب المرء الدفاع عن حريةالرأي والعقيدة بشكل جدي فيتوجب عليه فيما يتعلق بهذه القضية أن يخضع للعقل وبلغة أخرى أن يعيد تأويل الشريعة، لكن ليس فقط فيما يتعلق بالفروع ولكن بالأصول أيضا. إن الأمر لا يتعلق هنا بقضية تدخل في باب العبادات أو المعاملات، ما يصطلح عليه بالقضايا الفقهية التي يمكن حلها في إطار الشريعة. إن الأمر يتعلق بموقف مبدئي، بالاعتقاد وغير الاعتقاد، بحق المرء في تغيير قناعتاته الدينية. وبالنظر إلى هذه القضايا يدعو المفكرون المسلمون إلى استعمال الاجتهاد حتى خارج القضايا الفقهية فيما يتعلق بالقضايا التي تمس الأصول.

وفي الواقع فقد تمت مناقشة حرية الرأي والمعتقد حتى في هذا البعد في إطار الاجتهاد في وقت مبكر من تاريخ الأفكار الإسلامي وإلى ذلك تعود القاعدة التي تقول: "كل مجتهد مصيب". وبهذه القاعدة يمكن شرعة اختلاف الأراء ليس فقط في مجال القانون ولكن أيضا فيما يتعلق بالقضايا اللاهوتية. وتنسب هذه القولة إلى عبيدة بن الحسن الأنباري، وهو سليل أسرة كريمة في البصرة وكان معروفا بعلمه وتقواه وعمل في عصر الخليفة المهدي من سنة 157 وحتى 166 هجرية قاضيا في البصرة كما أنه توجب عليه أن يلقي خطبة الجمعة وهي مهمة تؤكد ليس فقط قدرته الخطابية ولكن أيضا تأثيره السياسي.

لكنا لم نتوصل بكتاب من الأنباري فيما يخص هذا السياق، لكن نعرف من عالم لاحق وهو ابن قتيبة (276توفي سنة/889)

بأن الأنباري لم يكن يعني بقولته "كل مجتهد مصيب" شرعنة اختلاف الرأي في القضايا الفقهية فحسب ولكن في القضايا اللاهوتية أيضا. وقد أكد الأنباري التعدد في الأراء فيما يتعلق بالقضايا اللاهوتية الذي طبع عصره و لم ينزع الشرعية عن أي من تلك الجماعات سواء أهل القدر أم أهل الجبر وسواء عن أولئك الذي يروا في الزاني فاسقا أم منافقا أم كافرا أم حتى وثنيا أو أولئك الذين قالوا عنه مؤمنا، وسواء أتباع علي في معركة الجمل أم خصومه. وتؤكد هذه الأمثلة بأن الأنباري كان يريد بقولته التأكيد على أن كل مجتهد مصيب وأنه يعترف بالاختلافات اللاهوتية ووجهات النظر إلى العالم. والنتيجة المنطقية لذلك: ضرورة التسامح مع كل من يسعى إلى الحقيقة، حتى وان انتهى به المطاف إلى قناعة تنحرف عن الإسلام.

ويمكن القول في نهاية المطاف بأن تاريخ الشريعة الإسلامية مطبوع منذ بدايته وحتى حاضره بحوار مستمر بين النص والعقل، والذي هو أيضا متأثر بالوضع الشخصي والعام وبالتقاليد القائمة. إن هناك أمثلة كثيرة عن التأويلات المتضاربة للشريعة، ولهذا فإن من يسعى إلى فرض الشريعة على الناس دون أخذ بعين الاعتبار للاختلافات التي تمس عاداتهم وتقاليدهم وزمانهم ومكانهم وسياقاتهم وأوضاعهم فإنه يقترف خطأ ويقود الناس في الطريق الخطأ.

ومن أجل حل القضايا الراهنة، كما بينت ذلك انطلاقا من مثل الردة، يتوجب مواصلة هذا التقليد وفتح أبواب جديدة للاجتهاد، وخصوصا للاجتهاد في الأصول، فعبر ذلك يمكن شرعنة تعدد الأراء.

عباس بويا: أستاذ العلوم الاسلامية بجامعة فرايبورغ.



ترجمة: عدنان عباس علي

كل الحقوق محفوظة عند معهد غوتة ومجلة فكر وفن يناير2009