"لم يعد هذا بلدي"

يقف أحد الأشخاص وظهره للكاميرا، ويحمل مظلة ويحمل علم فلسطين حول أكتافه
رغم الأمطار والقمع: خرج العديد من الفلسطينيين الألمان إلى الشوارع العام الماضي للتظاهر من أجل أقاربهم. صور: Picture Alliance / PIC ONE | C. Ender

كان هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، نقطة تحول أيضا بالنسبة للفلسطينيين في ألمانيا. فقد الكثيرون أقاربهم في غزة خلال العام الماضي، وكذلك ثقتهم في وسائل الإعلام الألمانية. إليكم 4 شهادات من برلين.

الكاتبة ، الكاتب: Inge Günther

من أصل نحو 200 ألف شخص من أصل فلسطيني في ألمانيا، يعيش حوالي 40 ألف شخص في برلين، أي أكثر من أي مدينة أوروبية أخرى. والكثير منهم مواطنون ألمان منذ فترة طويلة، ويعملون في المستشفيات والمدارس، وفي المهن الماهرة وغير الماهرة. وقد جاء بعضهم إلى ألمانيا للدراسة، والبعض الآخر كلاجئين عديمي الجنسية، وغالباً عن طريق جمهورية ألمانيا الديمقراطية.

وعلى الرغم من اختلاف سيرتهم الذاتية، إلا أن تجربتهم المشتركة كفلسطينيين وحدتهم أكثر من أي وقت مضى منذ الهجوم الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول والحرب التي نتجت عنه على غزة. ويرجع ذلك إلى حقيقة مفادها أن التضامن الألماني مع إسرائيل وضحايا الهجوم كان مصحوباً بالاستياء المناهض للفلسطينيين.

عندما وزع مهاجرون من أصول عربية الحلوى في حي نويكولن في برلين احتفالاً بالهجوم الإجرامي على إسرائيل، أثار ذلك غضباً مشروعاً. ولكن بكل سهولة، اتُهم الفلسطينيون بصفة عام بالتعاطف مع حماس وحُرموا من حقهم في الاحتجاج على الحرب والموت والتجويع في غزة.

"لقد أصبحت ألمانيا غريبة عليّ"

محمد إبراهيم، 54 عامًا، مستشار تطوير

يقول محمد إبراهيم، "في الماضي، كنت أقدم نفسي على أنني ألماني-فلسطيني. أما الآن، أفضل أن أتجاهل كلمة (ألماني)". ومع ذلك، فإن رب الأسرة البالغ من العمر 54 عامًا، ذو القوام الرياضي والشعر القصير الخفيف، هو مثال بارز على الاندماج الناجح. فقد شق طريقه الخاص في ألمانيا كلاجئ شاب. واليوم، وإلى جانب وظيفته، يقدم ورش عمل حول نقل المعرفة وتغيير وجهات النظر حول الصراع في الشرق الأوسط مرة أو مرتين في الشهر.

54-jährige Palästinenser, Berater für Entwicklungskooperation
تصوير: Inge Günther

فرّ والدا إبراهيم من قريتهم الواقعة على بحر الجليل (بحيرة طبريا)، في ما يعرف الآن بإسرائيل، في البداية إلى لبنان، ثم إلى برلين الغربية (عبر جمهورية ألمانيا الديمقراطية) في عام 1974 مع طفلهم محمد وإخوته الثلاثة. 

قضت العائلة 16 عامًا في منزل للاجئين يضم مرحاض ومطبخ مشترك. يتذكر المناقشات التي دارت حول السياسة وفلسطين، وطنهم المفقود، عندما كان والده، الحلاق، يقص شعر الرجال كل يوم أحد. ويتذكر قائلاً: "كنت أصغي إليه"، وكثيراً ما يتساءل: "كيف بدأ هذا الصراع بالفعل؟ لماذا هاجر اليهود إلى فلسطين؟". 

كان تعطشه الشديد للمعرفة لا ينضب. وكان إبراهيم من القلائل الذين أكملوا تعليمهم الثانوي في المنزل الذي نشأ فيه، ودرس السياسة والعلاقات الدولية بمعهد أوتو سور بجامعة برلين الحرة. وتعلم عن تاريخ اليهودية، ومحرقة الهولوكوست، وثقافة الذكرى في ألمانيا. كما كوّن أيضًا انطباعه عن الصراع في الشرق الأوسط خلال زياراته إلى إسرائيل وفلسطين.

وأصبح إبراهيم في نهاية المطاف، منسقا لورش عمل يجريها مع صديقه اليهودي شيمي، في مدارس ما يسمى بالأحياء "الملتهبة" في جميع أنحاء برلين. يعمل الاثنان الآن مع مجموعات مختلطة من الطلاب اليهود والمسلمين، وهو ما يجده إبراهيم مثيرًا بشكل خاص. يقول: "نحن مهتمون بالحديث عن الفيل الموجود في الغرفة (مصطلح مجازي يشير إلى قضية صعبة أو مثيرة للجدل)". وينصب تركيز الصديقين على الأفكار المتحيزة ضد الإسلام ومعاداة السامية التي تحملها المجموعتان تجاه بعضهما البعض.

باتت صداقة إبراهيم وشيمي أقوى من أي وقت مضى، منذ ذلك السبت المظلم في أكتوبر/تشرين الأول 2023. يجمعهما الخوف على مستقبل أطفالهما، "كثيرًا ما اعتقدت أنني لم أعد قادرًا على الاستمرار. لقد منحني شيمي الكثير من القوة".

لكن ألمانيا أصبحت غريبة على إبراهيم، "إن منعنا من إظهار التضامن مع الضحايا في غزة لا يترك لنا نحن الفلسطينيين أي مجال للتنفس". لكنه أبعد ما يكون عن الاستسلام لهذا الواقع. فقد نظّم وقفات احتجاجية وتفاوض مع ضباط الشرطة وناقش مع سياسيين مثل جريجور جيسي وميشيل فريدمان كيفية منع الفشل في الاندماج. وبغض النظر عن ذلك، فهو لا يستطيع التخلص من الشعور: "لم يعد هذا بلدي (ألمانيا)". ويضيف بحذر: "آمل أن أكون مخطئًا".

"استهلك الأخبار مثل الهواء"

قاسم المصري، 39 عامًا، طبيب أطفال

أراد قاسم المصري أن يقضي عطلته الصيفية في غزة. كانت خبرته كطبيب أول في وحدة العناية المركزة للأطفال في أحد مستشفيات برلين كفيلة بإنقاذ حياة الكثيرين هناك. الرعاية الطبية في غزة في حالة كارثية. فقد دُمرت معظم المستشفيات وهناك نقص في الأدوية والطواقم الطبية. 

Qassem Massri, 39-jährige Palästinenser, Kinderarzt
تصوير: Inge Günther

شعر المصري المجعد يمنحه مظهر شخص يجيد التعامل مع الأطفال. وقد تطوع بالفعل عدة مرات في بعثات طبية إلى غزة. ومؤخراً، في أبريل/نيسان، أمضى 15 يوماً هناك مع فريق من الأطباء لتقييم الوضع وتقديم المساعدة حيثما استطاع. في ذلك الوقت، كان الدخول من مصر إلى غزة عبر رفح لا يزال ممكنًا، قبل أن يستولي الجيش الإسرائيلي على المعبر في مايو/أيار الماضي.

معبر رفح مغلق الآن، ويمكن للمنظمات الإنسانية فقط عبور الحدود من إسرائيل، وتحتاج إلى ضوء أخضر من مكتب تنسيق الحكومة الإسرائيلية في المناطق. وقد حصل المصري، على الضوء الأخضر للدخول بعد وقت طويل من الأخذ والرد. 

وفي النهاية، سُمح لخمسة أطباء فقط من إجمالي 25 طبيبًا من منظمة الإغاثة الأمريكية "رحمة" بدخول البلاد. ولم يُسمح للعشرين الباقين، بمن فيهم المصري، بالدخول بسبب أصولهم الفلسطينية. يقول المصري: "هذه سياسة عنصرية". تخيلوا لو تم استبعاد شخص من أصول يهودية من الدخول، "يا لها من ضجة!".

ينحدر المصري من شمال غزة. جاء إلى برلين للدراسة في سن 19 عامًا. كان خمسة من أشقائه يعيشون بالفعل في ألمانيا، بينما بقيت بقية أفراد عائلته في غزة. ومنذ اندلاع الحرب، وهو يعيش في خوف متواصل عليهم.

يقول المصري، إن 13 من أقاربه لقوا حتفهم في غارة جوية واحدة فقط، والعديد من أبناء عمومته في هجمات مختلفة. فيما نجا والداه وشقيقاته الثلاث حتى الآن، ولكنهم اضطروا إلى النزوح عدة مرات. يقول: "أستهلك الأخبار مثل الهواء، كانت الأشهر الاثني عشر الماضية أسوأ فترة في حياتي".

ولقد غذت وسائل الإعلام الألمانية، التي "تتبنى الرواية الإسرائيلية فقط"، على حد تعبيره، غضبه. بينما يشكل حظر التظاهر وعنف الشرطة "قضية غير مهمة تقريبا" لوسائل الإعلام. يدعم المصري، الاحتجاجات ضد الحرب على غزة، فضلاً عن الدعوى القضائية التي أقامتها منظمة "فلسطين تتكلم" ضد الحكومة الألمانية لتزويدها إسرائيل بالسلاح. 

يرن الهاتف، إنها والدته تتصل من غزة. يقتصر الحوار المقتضب على الأساسيات: تقول له: "ما زلنا على قيد الحياة". يأخذ المصري نفسًا عميقًا. يريد أن يوضح شيئًا واحدًا: إنه "بعيد كل البعد عن حماس من الناحية الأيديولوجية"، لكنه يفهمها على أنها "نتاج الاحتلال والقمع. وفي نهاية المطاف، أنا قادر على التحدث مع أشخاص من حماس الذين نشأت معهم".

"أتلقى تهديدات بالقتل"

نادية سمور، 37 عاما، محامية حقوقية

في المشهد اليساري في برلين، تُعد نادية سمور، وهي عضو في مجموعة محامين في "بيت الديمقراطية"، صوتًا رائدًا في مسألة الاحتجاج الفلسطيني. تقول سمور، وهي امرأة رشيقة ذات شعر قصير: "لم أعد أتولى أي نوع آخر من القضايا". بينما تتولى حاليًا 120 قضية، بعضها يتعلق بالشعار المثير للجدل "من النهر إلى البحر"، وبعضها يتعلق بجرائم التظاهر الأكثر شيوعاً مثل مقاومة الاعتقال أو التعدي على ممتلكات الغير. ووقعت العديد من التهم خلال معسكرات الاحتجاج المؤيدة لفلسطين في جامعات برلين.

37-jährige Palästinenserin Nadija Samour, Rechtsanwältin
تصوير: Inge Günther

تقول سمور: "تُوجه الاتهامات إلى أشخاص من جميع الفئات، عرب وألمان ويهود". في الأيام الأولى، كانت الشرطة تتدخل بمجرد أن تسمع مصطلح "الإبادة الجماعية" يُستخدم في المظاهرات. أما الآن، فقد تركوها تمر، خاصةً بعد أن وجدت محكمة العدل الدولية أن الاشتباه في حدوث إبادة جماعية في غزة "معقول". وبالمثل، لا يمكن التمسك بالحظر المطلق للتظاهر بموجب قانون التظاهر الألماني. 

لدى سمور دوافعها الشخصية للدفاع عن الحقوق المدنية. كطفلة من أبناء اللاجئين الفلسطينيين الذين قدموا إلى برلين عبر لبنان في عام 1979، كانت في كثير من الأحيان شاهدة على لحظات "تعرض فيها والداها للمضايقات"، كما تتذكر. "أردت أن أفهم كيف يعمل النظام حتى نتمكن من حماية أنفسنا من السلوك التعسفي لسلطات الدولة. والمحاماة هي المهنة الأكثر قدرة للقيام بذلك"، تقول سمور.

غالبًا ما يكون المشهد القانوني الذي تجد نادية نفسها فيه معقدًا. وهذا صحيح بشكل خاص، كما تقول، في القضايا المتعلقة بشعار "من النهر..."، حيث "هناك ارتباك في المحاكم الإدارية العليا" الألمانية. ففي مانهايم، على سبيل المثال، اعتُبر الشعار قانونيًا. وفي أماكن أخرى، اعتُبر الشعار غير دستوري. والسبب في ذلك هو أنه يُفترض أنه اقتباس من ميثاق حركة حماس المحظور أنشطتها في ألمانيا منذ نوفمبر/تشرين الأول

وترى سمور، أنه "من العبث حقًا"، أن التفسير القانوني يشير فقط إلى الجزء الأول من الشعار، "من النهر إلى البحر". أما كيف تنتهي الجملة فيبدو أنه لا صلة لها بالموضوع، حتى عندما تكون هناك اختلافات – "فلسطين ستكون حرة" أو "السلام سيجعلنا أحرارًا".

كونت حملة سمور صداقات لها، ولكن بعض الأعداء أيضًا. تقول: "أحياناً أتلقى تهديدات بالقتل". كما رُش الطلاء على اسمها في لافتة مكتبها، "لكن على المرء أن يترفِّع عن صغائر الأمور".

"لم يتبق سوى غضبي"

أمينة يونس*، 62 عاما، مدرّسة فنون

يُعد الاستوديو الصغير في الطابق الخامس من مبنى سكني تاريخي في برلين-كروزبرغ واحة الإبداع لأمينة يونس. تتواجد هناك عندما تجد وقتًا بين عملها في مدرسة ابتدائية في برلين وجهودها لإخراج أقاربها من غزة، وهي مهمة تحولت إلى "ملحمة حقيقية"، كما تعترف.

Menschenmenge in Keffiyahs protestieren für die Rechte der Palästinenser
Foto: Inge Günther

ولدت أمنية لأم ألمانية وأب فلسطيني مسيحي. كلتا الهويتين مهمتان بالنسبة لها، "أنا فلسطينية، ولكنني ألمانية أيضًا. لقد نشأت في جيل الخلاص". تقول: "بالطبع صُدمت بأحداث السابع من أكتوبر، لكنني ما زلت غاضبة لأن الجمهور، بما في ذلك المحيطين بي، غالبًا ما يرون الفلسطينيين كجناة فقط". لقد حاولت دائمًا "الحفاظ على التوازن"، مثل والدها الراحل، الذي "عانى من الظلم، ولكنه سعى أيضًا إلى المصالحة".  

لم تتعرف أمنية على والدها إلا عندما كانت شابة في مقتبل العمر. كان والداها قد افترقا في الستينيات عندما ذهب الأب إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد الدراسة في برلين. وتقول: "وجدت هناك عائلة كبيرة دافئة القلب". منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، توطدت علاقتها بأقاربها الفلسطينيين، سواء في كاليفورنيا أو أولئك الذين لجأوا للاحتماء من الهجمات الصاروخية تحت سقف كنيسة في مدينة غزة.

في مايو/أيار الماضي، دبرت يونس تقريبا إخراج أقاربها السبعة عشر من غزة. وتوضح أن جميعهم حصلوا على تأشيرات دخول إلى البلدان التي كانت مستعدة لقبول المسيحيين الفلسطينيين من غزة. وتمكنت العائلة والأصدقاء من جمع 70 ألف يورو لدفع ثمن مغادرتهم إلى مصر. تمكن الآلاف من الهرب من جحيم غزة بهذه الطريقة. ولكن في اليوم السابق للمغادرة المقررة لعائلة يونس، أغلقت إسرائيل معبر رفح.

وجاءت الضربة التالية في شهر يونيو/حزيران، عندما توفيت عمتها المسنة بالتسمم في الدم نتيجة استحالة الحصول على المضادات الحيوية في غزة. في عرض الشارع الذي نظمته حمائم الحزن، وهو مشروع أطلقته فنانات في برلين لمواجهة غموض إحصاءات عدد الوفيات، ارتدت يونس جناحًا كبيرًا مصنوعًا من شرائط من القماش تحمل أسماء ضحايا الحرب في غزة. وتقول: "بالنسبة لي، كانت هذه طريقة للحداد على عمتي".

في الوقت نفسه، ازداد يأس أقاربها العالقين في غزة. فقد بدأت إسرائيل مؤخراً مشروعاً تجريبياً لإخراج بضع مئات من الفلسطينيين، في مقابل إعلان عدم العودة إلى غزة. وتخشى يونس أن يمزق هذا القرار شمل عائلتها.

* تم تغيير الاسم لدواعٍ أمنية

قنطرة 2024