فكر نصر حامد أبو زيد محور مؤتمر ''الفكر الإسلامي الجديد'' في ألمانيا
لم يتردد الضيوف المشهورون لحظةً في قبول الدعوة إلى المؤتمر الذي عُقد في مدينة إسن بألمانيا تكريماً لذكرى زميلهم المتوفى نصر حامد أبو زيد: هذا ما أعلنته كاتايون أميربور التي قامت بالاشتراك مع نافيد كيرماني بتنظيم مؤتمر "الفكر الإسلامي الجديد" برعاية معهد إسن لعلوم الثقافات وجامعة زيورخ. ولكن الجمع بين هذه الكوكبة من كبار المفكرين الإصلاحيين حول طاولة واحدة لم يكن شيئاً عادياً: فإلى جانب شخصيات معروفة في المنطقة الألمانية – مثل عبد الكريم سوروش ومحمد مُجتهد شابيستاري وصادق جلال العظم وعزيز العظمة – حضر اللقاء أيضاً وشارك في النقاش ضيوف من جنوب أفريقيا والولايات المتحدة الأمريكية وباكستان وتركيا؛ وقد كان لكل هؤلاء فضل كبير في إثراء النقاش بأفكارهم وأسئلتهم العميقة.
هل يمثل المؤتمر نقطة فارقة في البحث الإسلامي؟ بكل تأكيد. غير أن عقد هذا الملتقى بضيوفه اللامعين في مدينة إسن – وليس في القاهرة أو طهران أو لاهور – إنما يشير إلى عدم تقبل العالم الإسلامي بعد للأفكار المجددة، مثلما يشير إلى حقيقة لا بد من تذكرها، ألا وهي أن نصر حامد أبو زيد، الذي توفي في المنفى، كان قد صدر بحقه حكم بالتفريق القسري بينه وبين زوجته في مصر عام 1995، وذلك بسبب محاولاته الإصلاحية الحذرة للغاية.
الإله السجين
لم يكن الهدف من هذا الملتقى عقد ندوة توعية للجمهور في المنطقة الألمانية وإمدادهم بمعلومات عن هذا الموضوع، بل كان المخطط منذ البداية إتاحة الفرصة للمفكرات والمفكرين لكي يتبادلوا أفكارهم على أعلى مستوى. غير أن محاولة منح النقاش إطاراً ما عبر محاضرات أُعلن عنها مسبقاً أمر لم ينجح إلا نجاحاً جزئياً؛ إذ أن النقاش تفرع في معظم الأحيان تفرعات كثيرة بسبب اختلاف الأولويات والأفكار لدى المشاركين، كما أن الرغبة في إعطاء الفرصة لأكبر عدد من المشاركين لكي يدلوا بدلوهم في النقاش أدت في بعض الأحيان إلى خنق جدال مثير وشيق قبل الوصول إلى نهايته. رغم ذلك تبلورت خلال النقاشات موضوعات تشي بالتنوع الكبير في الأفكار داخل الجدل الدائر بين المسلمين.
وإلى جانب القضايا التي تُناقش بين الحين والآخر في المنطقة الألمانية، والمتعلقة بمدى قدرة المسلمين على تجديد الإسلام فإن مسألة التأمل اللغوي مثلت محوراً من محاور النقاش، كما أثارت نقاطاً مفاجئة أحياناً. لقد ذكر شابيستاري في محاضرته الافتتاحية القضية الأساسية التي تشغل بال المفكرين، وهي: هل القرآن بالفعل كملة الله التي وصلت إلى الناس مباشرة وبلا تحريف، أم أنه كلام الرسول، أي كلام بشري. خلال محاضرته تحسر العالم الإيراني على أن كلاً من التراث الإسلامي وفلسفة اللغة الحديثة قد عجزت عن أن تأتي بأداةٍ تمكن الباحث من التحليل العلمي والعقلاني لنصٍ – كالقرآن – متجذر في الواقع الفيزيائي وفي العالم الميتافيزيقي في آن واحد. في محاضرته طالب شابيستاري بتطوير علم تأويل جديد يكون قادراً على القيام بهذه المهمة، لكنه لم يبلور تصوراته ولم يعطها شكلاً محدداً.
كما تحدثت أمينة ودود، الباحثة النسوية المسلمة التي تقوم بالتدريس في الولايات المتحدة، عن المأزق الناجم عن أن القرآن – كأي كتاب مقدس – لا بد أن يصوغ رسالته بلغة بشرية، طارحةً السؤال الشائك: هل معنى ذلك أن على الوحي الإلهي أن يتكيّف مع قدرة الإنسان الذهنية المحدودة؟ ولذلك لم يكن مستغرباً أن تقول الباحثة إنه الله في النص المقدس هو "سجين" إلى حد ما، وهي فكرة وجدت بلورةً لها على نحو غير متوقع عند الحديث عن عملية تدوين القرآن، إذ أن القرآن لم يدون في كتاب واحد مُلزم إلا بعد وفاة النبي محمد. وكان ثالث الخلفاء الراشدين، عثمان بن عفان، هو الذي أمر بجمع الآيات القرآنية في مصحف واحد. في هذا السياق طرح الفيلسوف السوري صادق جلال العظم سؤالاً حول ما إذا كان تدوين القرآن قد أدى إلى الإضرار جزئياً بالرسالة الأصلية، بالنظر إلى الرؤى المختلفة الشفوية والمكتوبة للنص الديني التي كانت شائعة لدى المسلمين آنذاك.
أما عثمان ناستان، أستاذ الشريعة الإسلامية في أنقرة، فقد بيّن أن تدوين القرآن وجمعه في مصحف يمثل مرجعاً لم يرسخ فحسب سلطة الدين الفتي الآخذ في الانتشار سريعاً، بل قاد تدريجياً إلى حدوث حالة من الجمود في الشريعة الإسلامية. آنذاك قام الإمام الشافعي، الذي توفي عام 820 والذي أسس المذهب الشافعي في الإسلام السني، بوضع الإطار الفكري المتماسك للشريعة التقليدية التي ترتكز على تفسير النص المقدس – القرآن – والسنة النبوية، وفي فلك الشريعة يدور القانون والقضاء في الإسلام.
بين الإصلاح والجمود
هل ينبغي علينا إذن – حسب قول أمينة وادود – أن نحمي القرآن من نفسه، بل ونحمي الله من القرآن؟ أم أن العوائق الموضوعة على طريق الفكر الإسلامي المعاصر - حسبما تقول أسما بارلاس الأستاذة الباكستانية التي تدرس في الولايات المتحدة العلوم السياسية والثقافية – لا تنبع من النص المقدس بقدر ما تنبع من تأويلها؟
من هذه النقطة تحديداً بدأ صادق جلال العظم نقده العنيف "للعقم الكامل" الذي تعاني منه المعاهد العلمية الإسلامية الكبرى، وكذلك نقده لما شهده الفكر الإصلاحي من تطور خلال القرن العشرين، فبدلا من العمل على تحديث الإسلام – مثلما فعل المفكر محمد عبده (1849 – 1905) – فإن علماء الدين تقهقروا إلى الخف وثبتوا أبصارهم على فهم سلفي للعقائد كان يتزايد أصوليةً يوماً بعد يوم، وهو ما قاد في النهاية – عبر مفكرين من أمثال سيد قطب - إلى إرهاب منظمة القاعدة.
من ناحيته أكد عبد الكريم سوروش هذا النقد عندما تحدث عن الإيديولوجيات السائدة خلال القرن الماضي مشيراً إلى التقارب بين الإسلام والأفكار الماركسية التي كان يعتنقها عدد كبير من المثقفين العرب آنذاك. إن تلك الأفكار الماركسية – يقول سوروش – كانت هي أيضاً تمثل تعاليم شبه دينية تدّعي أنها تصل بمعتنقها إلى بر الأمان، كما أنها تتسم بهيكل سلطوي يؤكد بالأحرى على واجبات لا على حقوقه. في المقابل فقد كان من الصعوبة بمكان على القيم الليبرالية أن تمد جذورها في العالم الإسلامي.
هل كانت دعوة نصر حامد أبو زيد إلى قراءة النص قراءة ذات توجه تاريخي إنسانوي ستؤدي إلى التغلب على الجمود والضيق اللذين تعاني منهما العقيدة والحياة في العالم الإسلامي؟ لقد كانت مقاربة أبو زيد تهدف إلى وضع الأقوال والفرائض الدينية الواردة في القرآن في سياقها التاريخي، محاولةً استنباط المبادئ الأخلاقية العابرة للزمن من المادة الملتصقة بالأرض، فهل كانت ستنجح؟
على هذه الأسئلة رد بسرعة المؤرخ عزيز العظمة – الذي ينظر نظرة نقدية للغاية إلى مثل هذه القراءة "الدفاعية" لنص القرآن – وذلك بالحجة المضادة: بالتأكيد، لقد منح القرآن النساء – على سبيل المثال - حقوقاً أكثر مما كان معتاداً في ذلك العصر، ولكنه رسّخ بوضوح أيضاً سمو مكانة الرجل مقارنةً بالمرأة.
من جانبه وضع الباحث فريد إيزاك من جنوب أفريقيا إصبعه أيضاً على آيات قرآنيه تمارس التمييز والتهميش تجاه اليهود والمؤمنين بديانات أخرى وغير العرب، بل لقد تحدث إيزاك أيضاً عن الحيوانات التي توصف بأنها نجسة. لن نستفيد شيئاً – يقول إيزاك – إذا قمنا بتسليط الضوء على قرآن مقبول أخلاقياً، وذلك عبر القراءة التاريخية للقرآن، بل علينا بالأحرى أن نكون على وعي بما يمثله النص من سلطة وأن نتعامل مع ذلك بنظرة نقدية.
وماذا عن الانتفاضة؟
إذا كانت الانتفاضة التي تشهدها عديد من الدول العربية لم تكن حاضرة بقوة مثلما هو الحال في النقاش العام، فإن ذلك يرجع إلى عدم وجود علاقة بين الانتفاضة وموضوع الندوة، إذ أن حركات المقاومة في العالم العربي لم تكن أبداً – على الأقل في البداية – ذات دافع ديني. هل يمكننا إذن – تساءلت كاتايون أميربور - أن نشعر بالأمل في أن يكون الناس في العالم العربي قد تغلبوا على الهياكل السلطوية للدين، وهي الهياكل التي سلط المشاركون في الملتقى الضوء عليها من مختلف الجوانب؟
من ناحية أخرى، فإننا إذا أخذنا بعين الاعتبار الحضور السياسي للإخوان المسلمين في مصر "الجديدة"، وكذلك نشاط حزب النهضة الإسلاموي في تونس – الذي كان ممنوعاً – أو العناصر الدينية التي نراها في صراع الثوريين من أجل التحرر، فسوف يتضح لنا أن الزمن لن يتجاوز سريعاً تلك الأصوات التي تنادي بـ"تجديد الفكر الإسلامي".
أنغيلا شادر
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: هشام العدم
حقوق الطبع: قنطرة 2011