نهج تنويري على النمط الإيراني
الفلاسفة الألمان لا سيما كانت ونيتشه وهايدغر يتمتعون في إيران بشعبية كبيرة. وتعود شعبية نيتشه إلى مؤلفه " زرادشت" الذي جعل بوسع الإيرانيين اليوم أن يكتشفوا الرائد الديني الفارسي القديم زرادشت من جديد وبمرآة الفكر الأوروبي.أما نقد هايدغر للحداثة فقد تم عرضه بعد انطلاق الثورة الإسلامية عام 1979 على نهج سياسي ومن رؤى الأيديولوجية الحضارية مما جعله وسيلة توظف لأغراض نقد العالم الغربي.
لكي ندرك أسباب ارتقاء فلسفة كانت في نظر المثقفين الإيرانيين إلى هذا المقدار كان كافيا علينا أن نشير إلى أنها تمهد مدخلا متميزا إلى الفلسفة الغربية. هذا على أية حال ما يزعمه حميد رضا آية الله أستاذ الفلسفة في جامعة العلامة طبطبائي في طهران.
لكن البحث عن هذا المدخل لا يجري من روح الاهتمام الصافي بالفكر الغربي. يقول طبطبائي إن على المرء الراغب في إدراك فكره الذاتي أن يفهم أيضا الفلسفة الأخرى حتى الغربية منها.
معرفة من طرف واحد
نجم عن هذه الرؤية الواسعة الانتشار أن الفلاسفة الإيرانيين يتمتعون بمعرفة متميزة للفلسفة الغربية لا يضاهيه في العادة على الإطلاق ما يتمتع به الفلاسفة الألمان من معرفة حول الفلسفة الإيرانية. وكان يورغين هابرماس محقا عندما تحدث في هذا الشأن حول "انعدام معطيات التناظر في المعرفة" واعتبر الزوار الغربيين، وهو كان أحدهم قبل عامين، "متخلفين" في هذا الصدد.
بناء على هذه المقولة يبدو مؤتمر كانت الدولي وكأنه يشكل تصعيدا لانعدام التناظر. على الرغم من ذلك فبعد انتهاء المؤتمر الذي نظمه معهد الفلسفة في جامعة العلامة طبطبائي تحت عنوان "200 عام بعد كانت" يتحتم علينا أن نستنتج بأن النجاح الذي يحق للمؤتمر أن ينسبه لنفسه لم يتحقق فقط لكون المؤتمر قد أفلح في خلق حوار بين الحضارات الفلسفية المختلفة في الشرق والغرب. بل لقد نجح المؤتمر في النهاية في الربط بين الحضارات بحد ذاتها وبين أبنائها دون أن يجعل عمله مقتصرا على الفلسفة وحدها.
دعي 25 ضيفا من أمريكا الشمالية وأوروبا وأفريقيا وآسيا ونفس العدد من الفلاسفة الإيرانيين للتباحث في الجوانب المختلفة لفكر كانت. وقد تمركزت المحاضرات على مؤلف كانت "نحو السلام الخالد" وخلقه لكل من اللاهوت الفلسفي والفلسفة العملية وكذلك على نظرية الإدراك وعلاقة كانت بفلسفة الحدسية الرياضية لدى بروير.
أمريكي في التلفزيون الإيراني
وبدأ المؤتمر أعماله بمقارعة جدلية حادة. فقد وقع اصطدام بين الفيلسوف الأمريكي لويس بوجمان الذي تعرض في محاضرته إلى النزعة العالمية لدى كانت ، وبين مشارك إيراني كان منفعلا أثناء مناقشة المحاضرة.
فقد رأى هذا المشارك بأن فلسفة كانت قد غذت بذور الصراع بين الفلسفة الغربية بطبيعتها العلمانية وبين الفكر الشرقي المستند على الدين. وكان الضيوف الحاضرون القادمون من الدول الغربية شهودا على اعتبار الحداثة الغربية مسؤولة عن تداعيات الفكر الفلسفي الغربي. كما كانوا في حيرة إزاء هذا النمط من الواقعية الدينية، إلا أن الأمريكي بوجمان تصدى له بفطنة كبيرة على نحو جعل التلفزيون الإيراني يدعوه إلى مقابلة بثت في البرنامج المسائي.
من وجهة نظر الزائر الأوروبي كانت هناك أمور عديدة بدت غير اعتيادية بل حتى غريبة الطابع. وكان جو قاعة الاجتماعات شبيها بالحال في السوق. فكانت جموع من الزوار تدخل قاعة المحاضرة أثناء إلقاء محاضرة ما لتغادرها أحيانا بعد فترة قصيرة.
وانتهز العديد من طالبات الدراسات الإنكليزية خاصة الفرصة المتاحة لمتابعة المحاضرات التي ألقيت بالإنكليزية. وقد دلت مشاركة إحدى الطالبات في النقاش على الشجاعة، علما بأن المشرفين على المؤتمر تقبلوا طرحها فيما أولى المشاركون في النقاش اهتماما فائقا به. هذه المشاركة ليست بأمر اعتيادي يومي في بلد ما زال يعتبر محض مصافحة الرجال للنساء غير مرغوب به.
حقوق الإنسان
المرأة الوحيدة من صفوف المحاضرين الأجانب التي ألقت محاضرة تناولت وحدها مشكلة المرجعية العالمية لحقوق الإنسان. كانت هذه هي الفيلسوفة سوزان بابيت التي تدرّس في كندا وقد أظهرت بمهارة وفطنة كيفية مناقشة هذا الموضوع مع أناس ما زالوا يعيشون في ظروف عسيرة في ظل النظام التيوقراطي القائم.
لقد طالبت بإحداث تحول جذري في النقاش الدائر حول المرجعية العالمية لهذا الموضوع دون أن تهاب في هذا الصدد اللجوء إلى مقارنة ذلك بالعلوم الطبيعية. فقالت إنه لو لم يقم اينشتاين بنبذ الأسس النظرية للفيزياء حسبما كانت قائمة لدى نيوتن نبذا تاما لما تمكنت الفيزياء الحديثة من التغلب على صورة العالم وفقا لنيوتن.
وتابعت أنه ينبغي بالمثل على الفلسفة العملية ( للغرب) أن تتخلى عن أفكارها النظرية التي اعتادت عليها لكي تتناول على وجه معقول مشكلة حقوق الإنسان وموضوع إكسابها المرجعية العالمية.
اتضح في البداية وكأن هذا التوجه المناوئ لليبرالية ليس إلا تأكيدا على رفض كلا الليبرالية السياسية والمبدأ الغربي لعالمية القيم. لكنه سرعان ما تبين بأن بابيت شاءت أن تعبر فقط عن رأيها بعدم إمكانية تبرير المرجعية العالمية لحقوق الإنسان بالأفكار القديمة القائمة لدى الفلسفة السياسية وعلم الأخلاق، وإن رأت في نفس الوقت بأن ذلك قد يكون ممكنا ولو مبدئيا. ولم يكن بالإمكان في ندوة من هذا النوع الدفاع بقوة أكبر عن فلسفة تتمسك بنفاذ مفعول حقوق الإنسان على المستوى العالمي.
اشتراك الفلاسفة في الحوار
وحاول أحد رواد الفلسفة الإيرانية على نحو لا يقل فطنة عن مدخل بابيت الدعوة إلى إجراء حوار بين الشرق والغرب. فقد طالب شقيق المرشد الديني لإيران آية الله سيد خامنئي أثناء مأدبة العشاء سوية بعدم التطرق إلى السياسة أثناء تناول الطعام.
وخامنئي الذي كتب بنفسه مؤلفا حول تاريخ الفلسفة منذ العصر الإغريقي القديم بعنوان "تطور الحكمة في إيران وفي العالم"، حاول بعد ذلك إظهار إيران كما لو كانت "محور الحكمة". وقد طالب زملاءه المستمعين لا بحكم مشاركته بالمؤتمر بل لكونه ممثلا عاليا لرجال الدين في بلاده بالاعتراف بالمعنى العملي للفلسفة والمساهمة كفلاسفة في حوار الحضارات.
من استمع إلى أقوال خامنئي كان عليه أن يتبنى الرأي بأن إحلال السلام بين إيران ونقادها الدوليين يعتمد على نجاح الفلسفة أو إخفاقها. وقد جاء في مقدمة كتابه: على عكس السياسيين الذين جلبوا المعاناة للعالم فإن الفلاسفة كانوا وما زالوا يسعون إلى تحقيق السعادة للإنسان. فالفلسفة تنظر إلى الناس على أنهم أفراد عائلة، كما أنها لا تعترف بوجود أية حدود بينهم. وقد أثبت مؤتمر طهران هذا على نحو مؤثر للغاية قدرته اليوم أيضا على تكريس ذلك.
كلاوس لانغبين
حقوق الطبع جريدة فرانكفورتر ألغمايني ، 30/11/2004
ترجمة عارف حجاج