التقارب بين ليبيا واوروبا، فرص ومخاطر
إن دفع ليبيا تعويضات لضحايا الاعتداء الذي وقع على نادي "لا بيل" الليلي والزيارة التي قام بها المستشار شرودر إلى ليبيا خطوتان هامتان في الطريق نحو تحقيق التقارب بين هذه الدولة الواقعة في شمال أفريقيا وبين الاتحاد الأوروبي. ويمكن تفسير المعدل السريع لهذا التطبيع بوجود مصالح اقتصادية وأمنية مشتركة بين الطرفين.
لكن المغالاة في احتضان غير مشروط لهذا النظام الذي ما زال يتسم بمعالم استبداد كبيرة تنطوي على خطر تقويض أعمدة السياسة الأوروبية المتعلقة بعملية برشلونة وما يسمى سياسة الجوار الأوروبية. فسياسة الجوار الأوروبية على نحو خاص تجعل التعاون الاقتصادي معتمدا جوهريا على تكريس الديموقراطية ومبدأ دولة القانون والالتزام بحقوق الإنسان.
خطوات ليبية الى الأمام
مما لا شك فيه أن من أكثر التطورات إيجابية في العالم العربي في غضون العام الماضي تراجع الرئيس الليبي معمر القذافي عن سعيه لحيازة الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل وعن سياسة خارجية تعاملت بوسائل الإرهاب.
دفع ليبيا تعويضات لضحايا الاعتداءات الإرهابية وآخر أمثلة ذلك حالة "لا بيل" والإفصاح عن برامج التسلح الليبية وتدمير المعامل المعنية بذلك، أدت إلى رفع العقوبات التي كانت مفروضة من قبل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تدريجيا.
وعلى عكس الطرح المقدم من الإدارة الأمريكية لم يتم هذا التحول في الموقف الليبي بسبب إقصاء النظام العراقي فقط. فقد بدأت المساعي الليبية الرامية إلى إحداث تقارب مع الولايات المتحدة وأوروبا قبل ذلك، وتحديدا في النصف الثاني من التسعينيات. وكان من ثمار تلك المساعي مشاركة ليبيا عام 1999 في عملية الشراكة الأوروبية المتوسطية، وإن تم ذلك في البداية بموقع المراقب فقط.
إن رغبة القذافي في تطبيع العلاقات مع الغرب تعّبر في المقام الأول عن استدلاله بأن التعاون مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وليس انتهاج خط المواجهة نحوهما هو الذي يعزز سلطة النظام بالصورة الأفضل على الأجلين المتوسط والبعيد. ويبدو أن الرؤى التالية قد لعبت في هذا الصدد دورا رئيسيا:
أولا: أن تكريس الشرعية الدولية، لا سيما إذا لم يشترط فيها القيام بالإصلاحات الداخلية، تساهم في استقرار النظام على نحو أفضل من برنامج تسلحي باهظ التكاليف أو من هتافات صادرة بين الحين والآخر من قبل "الشارع العربي" نتيجة لأعمال عنف موجهة ضد الغرب.
ثانيا: أن التقارب نحو الغرب ورفع كافة العقوبات الاقتصادية شرط لا غنى عنه من أجل الحفاظ على الوضع السياسي الراهن. فشرعية نظام القذافي ووجود قدر عال من الاستقرار الداخلي له يعتمدان اعتمادا رئيسيا على توزيع ماهر وواسع لعائدات الصادرات الناجمة عن استخراج النفط، تلك العائدات التي تشكل أكثر من 75% من مجموع عائدات الدولة.
هذا وقد انخفضت كمية الإنتاج النفطي الليبي منذ نهاية السبعينيات بنسبة الثلث، وأهم أسباب ذلك العقوبات رغم أنها لم تشمل في حالتي الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي قطاع استيراد النفط، إلا أن ذلك حال دون تحديث قطاع النفط.
في نفس الفترة الزمنية تضاعف عدد السكان الليبيين ليصبح خمسة ملايين نسمة. ومع أن معدل الدخل السنوي للفرد في ليبيا البالغ قرابة 7000 دولار ما زال يشكل أعلى معدل في شمال أفريقيا، إلا أن التضخم السكاني يجعل المزيد من السكان في وضع الاعتماد على إعانات مصدرها عائدات الدولة من إنتاج النفط. وحرصا من القذافي على الحفاظ على المدى الطويل على الهياكل الراهنة لسلطته جعله يسعى إلى زيادة الصادرات النفطية وإنشاء قطاعات اقتصادية جديدة كالسياحة على سبيل المثال.لكن ذلك يتطلب توفير الاستثمارات والتكنولوجيات الغربية.
ثالثا: يعود التحول في موقف القذافي أيضا إلى العبر التي تلقاها من أنظمة استبدادية أخرى مثل النظام التونسي، حيث خفف التعاون الأمثل بين هذا النظام وبين الدول الغربية في المجال الاقتصادي وفيما يتعلق بمكافحة الإرهاب وكذلك اتخاذه لموقف صارم حيال المجموعات الإسلامية المتشددة من حدة الضغط القادم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فيما يختص بالإصلاحات السياسية.
مصالح الاتحاد الأوروبي
مما دل على نجاح حسابات الرئيس الليبي احتضان رومانو برودي على نحو سريع ل "القذافي الجديد" باسم الاتحاد الأوروبي في بروكسيل في أبريل 2004. لقد أوضح ذلك الاحتضان بأن الاتحاد الأوروبي يحدوه اهتمام بليبيا مثلما يحدو ليبيا اهتمام بالاتحاد. تحتل من الرؤية الأوروبية العوامل التالية الأهمية الأساسية:
بالنسبة للاتحاد الأوروبي تعتبر ليبيا من أهم موردي النفط والغاز، فهي تحتل المرتبة الثالثة في ألمانيا بالنسبة للدول المصدرة للنفط الخام، كما أن أهميتها في هذا الصدد ستزداد ربما. وعلى عكس حال موردي طاقة آخرين محتملين هامين كالعراق أو السعودية فإن ليبيا تمتاز بقربها الجغرافي من أوروبا وباتسامها حتى الآن بدرجة عالية من استقرار نظامها واستتاب أمنها بالنسبة للأجانب.
يتمتع الاقتصاد الليبي بدرجة فائقة من الجاذبية بالنسبة لأوروبا نظرا لأن هذه الدولة في حاجة ماسة إلى استيراد السلع تعويضا عما فاتها في سنوات العقوبات. وهذا لا يقتصر فقط على اكتشاف حقول جديدة للنفط فقط وتحديث قطاع النفط الذي بدأ يمر بمرحلة الخصخصة الجزئية، بل يشمل كذلك قطاعات أخرى مثل استخراج المياه والأسلحة والاتصالات والمواصلات والصحة.
تشكل ليبيا بالنسبة لأعداد كبيرة من اللاجئين الأفريقيين إحدى مواقع الترانزيت الرئيسية لانطلاق نحو أوروبا. بالتالي فإن الاتحاد الأوروبي في حاجة ماسة إلى تعاون ليبيا معه إذا أراد الحد من هذه الهجرة. وقد جعل القذافي التعاون في هذا المجال مشروطا بإنجازات أوروبية عكسية كمده بالقوارب السريعة وتجهيزات الرادار. هذا أحد الأسباب الرئيسية التي ستؤدي قريبا إلى رفع الحظر المفروض من الاتحاد الأوروبي على تصدير الأسلحة إلى ليبيا.
ليبيا تشارك الغرب المصلحة في احتواء الإرهاب الإسلامي المتطرف الناشط على المستوى الدولي. فمنذ منتصف التسعينيات يمارس النظام الليبي سياسة اللاتسامح التام تجاه الإسلاميين الراديكاليين. وقد أظهر القذافي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر درجة كبيرة من التعاون في إطار الكفاح الدولي ضد الحركات الإسلامية المسلحة المتشددة. فمد الولايات المتحدة بمعلومات صادرة عن أجهزة المخابرات كما داهم مواقع مجموعات على اتصال بالقاعدة وبمنظمات إرهابية أخرى جزائرية.
إشكالية سياسة ليبيا الداخلية والخارجية
رغم وجود درجة عالية من المصلحة لدى كل من أوروبا وليبيا في تعميق التعاون بينهما فلا ينبغي غض النظر عن إشكالية النظام الليبي، ومن أمثلة ذلك:
الهياكل البطشية للسلطة. يعتبر النظام الليبي من أكثر الدول العربية استبدادا. والقذافي الذي يحكم بلده لفترة أطول من أي حاكم عربي آخر هو منذ 35 عاما سيد كافة القرارات الداخلية والخارجية والاقتصادية مراعيا في هذا الشأن مصالح قبلية.
صحيح أن ليبيا حققت تقدما باهرا في مجال التحديث الاجتماعي خاصة ما يتعلق منه بوضع المرأة، لكن على الرغم من وجود ما يسمى بهياكل "الديموقراطية الشعبية" لا وجود لمشاركة سياسية حقيقية كما أن الأحزاب محظورة وبالإضافة إلى ذلك تخضع الصحافة إلى رقابة صارمة.
لهذا السبب فإن لمعارضة، بغض النظر عن كونها ديموقراطية أو إسلامية متطرفة، ليست قادرة على تنظيم أنفسها داخل البلاد. فالمعارضة الديموقراطية المبعثرة مقرها في الأغلب خارج البلاد. فتحي الفهمي البالغ 62 عاما من العمر، وهو أحد قلة رموز المعارضة الديموقراطية المسموع صوتها في الداخل، رهن الاعتقال حاليا لكونه قد طالب في أجهزة الإعلام الغربية والعربية بالتعددية وبحرية الرأي في ليبيا.
شبيها بالحال في الجزائر يستخدم الكفاح الدولي ضد الإرهاب وسيلة للقيام بحملات اضطهاد واسعة ضد المعارضين (الإسلاميين). وكانت شوكة الإسلاميين الليبيين وعلى رأسهم الإخوان المسلمون قد ضعفت من قبل ذلك وتحديدا منذ المواجهات التي وقعت بينهم وبين النظام في التسعينيات، وأصبح أهم ممثليهم رهن الاعتقال.
من أمثلة التعسف التي يتسم بها القضاء الليبي الحكم الصادر بالإعدام ضد خمس ممرضات بلغاريات وطبيب فلسطيني في مايو 2004. ففي محاكمة يمكن بالحق اعتبارها صورية اتهم هؤلاء الأشخاص بنقل عدوى مرض الإيدز عمدا إلى أطفال ليبيين. وكان الاتحاد الأوروبي محقا في مطلبه الخاص بربط التطبيع الكامل للعلاقات بإلغاء هذا الحكم.
سياسة إشعال النيران في أفريقيا والعالم العربي. مصالح ليبيا الاقتصادية ونزعات الهيمنة لديها تجاه أفريقيا دفعتها إلى التدخل مرارا في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية. وحتى في عام 2003 ساهمت ليبيا مساهمة فعالة في تقويض دعائم استقرار دول واقعة في غرب أفريقيا مثل ليبيريا مستخدمة على سبيل المثال توريد الأسلحة إلى تلك المناطق. بالنسبة للاتحاد الأوروبي تحتل هذه المسألة أهمية كبيرة لا سيما لكون القذافي يتحمل في نظر الاتحاد مسؤولية ظهور مشكلة يأمل أن يساهم القذافي اليوم في حلها، أي تدفق أفواج اللاجئين إلى أوروبا.
من الصعب الحكم على مصداقية الاتهامات الموجهة للقذافي من الرئيس الموريتاني بكون قوات ليبية قد دعمت في أغسطس/آب 2004 محاولة انقلاب كانت موجهة ضده. لكن المؤشرات التي توصلت إليها التحقيقات التي جرت في إطار محاكمة أمريكية لا تفتقد إلى المصداقية، وذلك بشأن مؤامرة الاغتيال التي دبرها القذافي عام 2003 ضد ولي العهد السعودي الأمير عبد الله.
فرص التقارب
رغم إشكالية السياسة الداخلية والخارجية للقذافي فقد اتضح في السنوات ولا سيما في الشهور الماضية بأن عودة ليبيا للتقارب مع الغرب من شأنه أن يفرز تغيرات في الداخل أيضا.
ففرص توجيه النقد العام للقرار السياسي ازدادت، كما أن الحملة التي وجهت ضد التعذيب أدت للمرة الأولى إلى فصل بعض رجال الأمن الذين قاموا بعمليات التعذيب. كما سمح لممثلي منظمة العفو الدولية للمرة الأولى منذ 15 عاما بزيارة البلاد.
ونتيجة لتدخل سناتور أمريكي تم الإفراج عن المعارض الفهمي. لكن هذا المثال بالذات يوضح بأن القذافي يعود إلى مواقفه المألوفة طالما خف الضغط الخارجي عليه، فالفهمي اعتقل مجددا بعد فترة قصيرة من الإفراج عنه.
أكبر مؤشر على استعداد النظام للإصلاح ولو بدرجة محدودة هو الوجود المكثف للشخصيات الإصلاحية في مواقع متميزة. من أمثلة ذلك عالم الاقتصاد المؤيد لإصلاحات السوق شكري غانم الذي درس في الولايات المتحدة ثم عينه القذافي عام 2003 رئيسا للوزراء.
أما أشهر رموز الإصلاح فهو ابن القذافي نفسه سيف الإسلام. تلقى سيف الإسلام دراسته في فيينا ولندن، وهو لا يتبوأ منصبا سياسيا رسميا بل يترأس مبرة القذافي. كما أنه أصبح من أقطاب السياسة الداخلية والخارجية لسبب رئيسي هو أنه كان من مفاوضي عملية دفع التعويضات لضحايا الإرهاب الليبي. ولم يكن بوسع القذافي أن يوفر لابنه البالغ من العمر 32 عاما حلبة دولية أفضل من هذه الحلبة. ويقال اليوم في ليبيا وخارجها بأنه مؤهل لخلافة أبيه البالغ من العمر 62 عاما.
يقول سيف الإسلام القذافي في أحاديثه مع شخصيات غربية بأنه يحبذ تأسيس الأحزاب وإعطاء الحرية للصحافة. وحتى لو لم يمكننا التأكد من مصداقية هذه المقولة (فالأغلب أنه لن يكون حريصا على الحد من السلطة التي تتمتع بها النخبة المحيطة بالقذافي)، فإن إصدار مثل هذا البيان يشكل تطورا إيجابيا في حد ذاته.
إسنتاج
المستجدات الإصلاحية في ليبيا بما يرافقها من رغبة صريحة للنظام بالالتزام بعملية برشلونة تتيح للاتحاد الأوروبي فرصة التأثير في اتجاه الإصلاحات الداخلية أيضا. هذا يحتل أهمية من نوع خاص نظرا لكون الاتحاد الأوروبي يروّج في إطار الشراكة الأوروبية المتوسطية والمبادرات الجديدة مثل سياسة الجوار الأوروبية ومبادرة قمة الدول الصناعية الثماني حول الشرق الأوسط الأوسع لدعم عمليات وقوى الإصلاح والديموقراطية في العالم العربي.
من خلال اعتماد ليبيا الشكلي المقبل لبيان برشلونة علما بأن ذلك يشكل قاعدة للدخول في مفاوضات معها بهدف إبرام اتفاقيات المشاركة، فإن ليبيا تعطي ولو مؤشرا نظريا حول استعدادها للقيام بالإصلاحات الداخلية والتعاون الإقليمي المتعدد الأطراف. ولكي يمكن تشجيع ليبيا بترجمة الكلام إلى حيز الواقع يترتب على الاتحاد الأوروبي التفكير باتخاذ الإجراءات التالية:
تضمين المفاوضات الخاصة بإبرام اتفاقيات المشاركة مواضيع كالسماح بإنشاء الأحزاب وتخفيف الرقابة الموضوعة على الصحافة والقيود الموضوعة على حقوق الإنسان. على المدى المتوسط ينبغي ربط ليبيا أيضا بسياسة الجوار الأوروبية التي تخضع التعاون الاقتصادي الوثيق لشرط اعتماد القائمة المشتركة للقيم (مثلا تكريس صواب الحكم وسيادة القانون وحقوق الإنسان).
تشجيع القذافي على استغلال رصيده السياسي ونفوذه في الدول الأفريقية الواقعة جنوبي الصحراء على نحو إيجابي (كالحال مثلا إزاء تأسيس الاتحاد الأفريقي) والتوضيح له بأن التعاون في سبيل الحد من معدلات الهجرة يشكل دورا بناء في تسوية النزاعات الأفريقية أيضا.
كما ينبغي أخيرا توحيد صوت الاتحاد الأوروبي تجاه ليبيا على الرغم من تنافس دول أعضاء مختلفة حول مشاريع ليبية. يجب أن يتضمن الخطاب السياسي الرئيسي الموجه إلى النظام الليبي وغيره من الأنظمة العربية أن التعاون "الجزئي" في إطار السياسة الخارجية ليس كافيا لجعل هذه الدول شريكة كاملة للاتحاد الأوروبي، بل ينبغي عليها أن تلتزم أيضا ولو بحد أدنى من معايير حقوق الإنسان والمشاركة السياسية.
وينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يسعى على نحو خاص إلى توجيه هذا الخطاب بالتعاون في حالة ليبيا أن تكون الخلافات القائمة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إزاء المصالح والتقييمات أقل كثيرا من الخلافات القائمة بينهما إزاء نزاع الشرق الأوسط والعراق.
بقلم إيزابل فيريفيلس، حقوق الطبع المعهد الألماني للدراسات الدولية والأمن الدولي
ترجمة عارف حجاج
إيزابل فيرينفلس باحثة في المعهد الألماني للدراسات الدولية والأمن الدولي
موقع المعهد الألماني للدراسات الدولية والأمن الدولي