"أردت أن أكتب رواية منفتحة على الأدب العالمي، تحاور وتستلهم التراث العربي"
صدرت "خزامى"، الرواية الخامسة للروائي والشاعر والأكاديمي العراقي سنان أنطون. تتخذ "خزامى" مثل سائر روايات أنطون من الواقع العراقي موضوعا لها. فبطلا الرواية مهاجران مقيمان في أمريكا، تعود الذاكرة بهما بأشكال مختلفة، وباختلاف الأسباب والظروف والأزمنة التي رحلا فيها، إلى الأحداث الدامية في العراق.
ينجح أنطون دائما في أعماله في تحقيق المعادلة الصعبة بين تقديم رواية، بالرغم من ثقل موضوعها وعمقها الفكري، إلا أنها سلسة في قراءتها، تمزج بين شتى أنواع الفنون والآداب. سألتُ أنطون عن أسلوبه الأدبي، عن شخصيات رواياته وعلاقتها بالواقع العراقي وعن الشعر والفنون في أعماله.
******************
توقفتُ خلال قراءتي للاقتباسات في مفتتح الرواية عند بيت للشاعرة دوريان لاكس تقول فيه أن "الجرح يغني" وتساءلتُ هل من المفترض أن أقرأ هذا البيت في سياق جماليات أخرى للجروح .. مثل تشبيه رأس شقيق سامي المغتال بـ"جزيرة في وسط بركة الدماء". بعد ذلك اكتسب البيت على مدار الرواية معانيَ أكثر دقة، حتى أنه في مشهد وداع الزوجة يكاد يكون التعبير المجازي للغناء من الجرح قد صار واقعا. فما سبب اختيارك لتلك العبارة؟
سنان أنطون: توجد صعوبة في الكتابة عن عنف رهيب وشديد مع الحفاظ على الجماليات، حتى أن باحثة عراقية كتبت عن مفهوم "تفاهة العنف"، والذي يذكر بدوره بمسمى "تفاهة الشر" لهانا آرندت (حَنة أرنت). هناك تناقض في العلاقة الجدلية بين الجماليات وبين البشاعة والألم يدعو للتساؤل حول إمكانية الاستمرار والبحث عن الجمال في وسط يبدو ذلك فيه مستحيلا.
اخترت عبارة "الجرح يغني" لأن الموسيقى تلعب دورا متناقضا بين بطلي الرواية، سامي وعمر، فبينما تذكر سامي بأجمل لحظاته في الوطن، يسمع عمر أثناء عمله بالنادي أغنيات من زمن الحرب مرتبطة لديه بحادث التشويه الذي تعرض له، ويشاهد كيف يرقص الحاضرون ويهللون ويطربون لها. هذا واقع رأيته بنفسي في النوادي بديترويت وحتى بالعراق، حين كان أخي يصحبني معه في حفلات موسيقية.
قد يبدو في حالة سامي أن تذكر الأشياء الجميلة ممكن، ولكن سامي مقيم في مصحة وتختار الممرضة وابنه بعناية ما يستمع إليه كي يتذكر الأشياء الجميلة فقط، ولن يعرف أحد غيره ما تذكره به الخزامى أو أغاني أم كلثوم. فهل التحكم بالذاكرة شيء مستحيل؟ وإلى أي مدى يصعب في رأيك المضي قدما بعد الأحداث الهائلة مثل الحروب دون التعامل مع الماضي؟
سنان أنطون: هناك فعلا أحزان لا تترجم، وهذا شيء مقبول ومفهوم وحقيقة الوجود البشري هي أننا لا نسترجع الأشياء كما كانت، بل نحورها فرديا، وهذا ما لا تراعيه الذاكرة الجمعية عند الحديث عن الحروب والمآسي. هناك من يتحدث عن عصر ذهبي مر به العراق، دون طرح سؤال أساسي: "عصر ذهبي بالنسبة لمن؟".
الرواية تنبه أيضا إلى معضلة اعتماد الهجرة واللجوء على البعد الطبقي، فعمر مستواه الاجتماعي ودراسته لم يمنحاه الأدوات التي تسهل عليه البداية في مكان جديد. كما أنه يواجه كذلك صراعا كثيرا ما يواجه المهاجرين في التعامل مع أبناء بلدهم يتعلق بسؤال "من عانى أكثر". اخترت اسم عمر بالذات، للإشارة إلى أنه سني، لأن هناك من يدعون أن النظام السابق كان يضطهد الشيعة والأكراد فقط، بينما الحقيقة أن كل واحد كان من الممكن أن يكون ضحية.
يهمني موضوع التعامل مع الماضي وأرى أن الحديث عن المصالحة في المجتمعات التي تمر بصراعات سياسية لا يغير أي شيء. الماضي بالنسبة لي هو حالة مستمرة، وترى هانا آرندت (حَنة أرنت) أن الفنانين هم حراس الماضي، مما يتعارض مثلا مع الحديث الليبرالي عن فصل الفن عن الأيديولوجيا والسياسة.
تحدثت في حوار سابق لك عن أنك تحاول إعادة كتابة التاريخ بشكل بعيد عن الأيديولوجيا المباشرة، فإلى أي مدى تعتقد أن عملك الأكاديمي كان له دور في تمكينك من طرح المواضيع من جوانب مختلفة دون تحيز؟
سنان أنطون: هناك أيديولوجيا في كل نص وفي كل مكان، التحدي هو ألا يتحول النص لمنصة للأيديولوجيا، لذلك من المهم جدا الحفاظ على الناحية الجمالية للنص. بالطبع استفدت كثيرا من عملي الأكاديمي، لكنَّ أيضا كُتابي المفضلين الذين ألهمتني أعمالهم، محمود درويش، سرجون بولص، زيبالد، كلهم يضعون قيمة كبيرة للشروط الإبداعية بدون التضحية بالجانب السياسي أو إغفاله.
في روايتك السابقة "فهرس" تدع الأشياء والطبيعة تتحدث وتحكي حكايتها، وهناك من ربط تلك الفكرة بعبارة في رواية الطيب صالح، أو رأى تشابها بين فكرة الشخصيتين المتوازيتين وبين روايات أخرى كتبت في المهجر ورواية "عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني فإلى أي مدى كان لهؤلاء الكتاب أثرا في كتابة رواياتك؟
سنان أنطون: أنا أحب الطيب صالح كثيراً، لكن موضوع الأشياء والحيوانات التي تتحدث استلهمته من الشعر الجاهلي، وأنا بمرور الزمن، وبالرغم من قراءتي منذ الطفولة للأدب الأوروبي والعالمي، إلا إني اكتشفت أن الشعر العربي القديم ملهم جداً بالنسبة لي.
كذلك كان للشاعر العراقي مظفر النواب تأثير كبير علي، في هذا السياق وعموماً. وكنا نسمع قصائده على شرائط حين كانت ممنوعة. يقول في إحدى قصائده "هل تَعرِف كيفَ يكونُ الشاعرُ بالحُب لقاء جميع الأنهار ومجنونا وخرافيا ويهاجر في غابة ضوءٍ من دمعتِه".. ثم وجدت صدى هذه الفكرة أيضا عند والتر بنيامين في نص "مهمة المترجم" الذي يزعم فيه أن للعمل الفني حياة منفصلة.
أما عن مسألة الشخصيتين في "فهرس"، فأنا أيضا أحب غسان كنفاني جدا لكني في كتابتي لشخصيتي ودود ونمير كنت أحاول أن أعالج معضلة الكتابة من أمريكا، البلد الذي دمر العراق، عن ما يحدث داخل العراق. هناك جدلية بين الداخل والخارج والذي يكتب من داخل الجحيم والذي يراقبه من بعيد، لكنه يحمل ذكراه. فجاءت فكرة أن يكون هناك "ودود" ويتحدث بمنطقه، الذي يعبر عن استحالة أن نعرف كليا ما تعرض له، إلا بعد رحيله، وهي فكرة مرتبطة كذلك بفكرة أننا كبشر دائما نعرف الأشياء بعد تأخر الوقت، مثل اكتشافنا الآن بأننا دمرنا الكوكب.
أشرتَ في ذلك السياق إلى أعمال تراثية كان لها أثر على كتابتك مثل "منطق الطير" لفريد الدين العطار.
سنان أنطون: فعلا، ففي التراث الصوفي تُسَبِّح كل الأشياء وترقص. قراءتي للتراث أفادتني كثيرا، فأنا معني بأن أكتب رواية منفتحة على الأدب «العالمي» الغني لكن لا تتردد أبداً في أن تحاور التراث العربي الذي هو بمثابة كنز لي.
تشغل الطبيعة في روايتك "خزامى" كذلك حيزا كبيرا. أتفضل أن تُقرأ رواياتك من منظور النقد البيئي؟
سنان أنطون: لا أمانع هذا، لأن هذا الهاجس موجود بالذات في "فهرس" كما هو موجود في "خزامى" فكرة أن البشر مفترسون أكثر من الحيوانات، حتى في الرواية قرر والدا الطفل المصاب بالتوحد أن ينتقلا معه إلى مزرعة لأن الحيوانات لا تتنمر.
ذكرت أيضا أنك قابلت في الواقع شخصا تعرض لحادث مثل عمر. هل استلهمت شخصيات "خزامى" كلها من الواقع؟
سنان أنطون: كنت سمعت فعلا عن القرار الذي صدر في 1993، صلم (استئصال) أذن من يتخلف عن الخدمة العسكرية، ثم صادفت شخصا في محل وخمنت أنه عراقي، لأن أذنه كانت مقطوعة بنفس الطريقة. وفي مرة أخرى صادفت عاملا في مطعم بيتزا وسمعته يتحدث باللهجة العراقية وكنت قد افتقدت التحدث بها وسماعها. لكن حين ذهبت للتحدث إليه رفض وقال لي بالإنجليزية أنه لا يتحدث لغة أخرى! ظل هذان الموقفان في ذاكرتي ودمجتهما معا في شخصية عمر.
أما بالنسبة لسامي، فكنت دائما أريد أن أكتب رواية عن الذاكرة، خطرت لي فكرة أن أكتب عن شخص تضيع ذاكرته ويتشبث بها بالاستعانة بالموسيقى وكنت سأستعين بالمقامات العراقية، إلا أنني وجدت أنها في هذه الحالة ستشبه قصة "يوسف" في يا مريم، أكثر من اللازم.
لاحظت تركيزك في كل رواية على نوع من الفن، ففي "وحدها شجرة الرمان" لعب النحت والرسم دورا في الرواية، وفي "فهرس" كانت الكتابة والأفلام الوثائقية، وفي "خزامى" الموسيقى وأحيانا مشاهدة الأفلام في التليفزيون. كيف توظف الفنون المختلفة في سياق رواياتك؟
سنان أنطون: بالنسبة لي فإن الرواية الجنس الأدبي الأكثر مرونة وبإمكانها أن تستوعب كل شيء. والرواية تستوعب أيضا تفاصيلنا اليومية التي تشكل الموسيقى جزءاً أساسياً منها ومن الأصوات المحيطة بنا.
أثناء كتابة خزامى شاهدت بالفعل الفيلم الوثائقي الذي يعرض تأثير الموسيقى على مرضى الألزهايمر والخرف وتأثرت به كثيرا.
أضافت الموسيقى بُعداً سينمائياً لكتابتك، فهل كنت تعني أن تكتب مَشاهدَ سينمائية؟
سنان أنطون: لا، لكني إنسان مدمن على السينما وكان لدي شغف بها منذ صغري. حين انتقلت إلى أمريكا كان عندي حلم أن أصير مخرجا سينمائيا، لم يتحقق، لكني واظبت منذ 1991 على مشاهدة ثلاثة أفلام أسبوعيا.
العديد من المشاهد التي أكتبها تكون مبنية على مشهد مرئي بالنسبة لي. أحد أصدقائي المخرجين قال لي ذات مرة إنه في النصف الأول من القرن العشرين كان الأدب يؤثر على السينما، وفي النصف الثاني بدأت السينما تؤثر على الأدب.
لقد صنعت بالفعل فيلما وثائقيا عن آثار حرب العراق، فهل لديك تجارب أو مشاريع سينمائية أخرى؟
سنان أنطون: بعد أن بدأت الحرب والغزو فكرت مع صديقي بسام حداد أننا يجب أن نصور فيلما وثائقيا عن العراق، لأن الإعلام الأمريكي صوّر تاريخ العراق وتورط الولايات المتحدة فيه بشكل تسطيحي وسخيف. أحاول حاليا أن أكتب سيناريو لرواية يا مريم كمسلسل من 4 حلقات وأحلم بأن تكون "وحدها شجرة الرمان" فيلما ذات يوم.
يحتل كذلك الشعر موقعا هاما في كتاباتك، فهل هناك قصائد لك ترتبط بشكل مباشر برواياتك؟
سنان أنطون: أحيانا تشكل قصيدة البذرة التي تصير بعد ذلك قصة كاملة أو حتى رواية، هناك قصيدة في ديوان "كما في السماء" بعنوان "ما قالته الأشياء في ليلة رأس السنة" تحوي بعضا من الأفكار التي سبقت كتابة فهرس.
تحدثنا في البداية عن ثنائية الجمالية والعنف، أرى أنها توظف في الأدب العالمي بأشكال مختلفة، فهناك مثلا من وظفها بشكل يبدو وكأنه يجمل فعلا العنف، وهناك من استخدم تلك الثنائية بشكل ساخر، ليتهكم على تلك الروايات التي تغطي الفاشية بأسلوب شعري، أما في رواياتك فمرجعيتك وهدفك مختلف، هل لك أن توضح ذلك؟
سنان أنطون: أنا بالفعل أفكر مستقبلا أن أكتب رواية تحاكي روايات أخرى بشكل ساخر، في روايتي الأولى "إعجام" كتبت عن النظام البعثي بشكل ساخر، لكني مؤمن أن في الحالة العراقية هناك أولويات بسبب حقيقة أن العراق شهد من 1980 وحتى 1988 حربا ضروسا لم يُكتب عنها كما يجب بسبب الرقابة وتسلط النظام على الحيز الثقافي ، ثم تلت بعدها سنوات الحصار والحرب .. أي أن هناك 30 سنة من تاريخ العراق لم يكتب عنها بما يكفي من عمق وهناك الكثير الذي بإمكان الرواية أن تستكشفه وتقوله.
حين كتبتُ "يا مريم" كتبتها لأن أحدا لم يكن قد كتب عن هذا الموضوع، بالرغم من أنني في الأساس كنت أريد أن أتجنب الكتابة عن عائلة مسيحية، كي لا أُخْتزل في خانة "المسيحي الذي يكتب عن شؤون مسيحية". اكتشفت أن هناك ذاكرة كاملة ستختفي.
لولا كل هذا التاريخ الفاجع والكارثي، لكنت كتبت روايات إيروتيكية أو كنت كتبت عن البحر والفراشات، فأنا إنسان أحب الحياة. لكن موضوع المسؤولية و«الالتزام» موضوع معقد بالذات في منطقتنا. صحيح أن الكثير من الأعمال السيئة كتبت تحت مظلة «الالتزام». لكنني أؤمن بالتزام من نوع آخر يمثله لي عبد الرحمن منيف وغسان كنفاني مثلاً.
تطرح رواياتك حلولا، ثم تعود لمحوها وإثبات فشلها، فحتى الكتابة يطرحها طبيب كحل لمشكلة سامي مع الذاكرة، فيبدأ بكتابة مذكراته ثم تتفتت بنية نصوصه وجمله.
سنان أنطون: للأسف هناك أشياء مقدر لها أن تواجه طريقا مسدودا. بالنسبة للمهاجر هناك أشباح الماضي وأنا لا أحب النهايات الهوليودية لأنها ليست موجودة بالحياة، إلا فيما ندر. أحب الأعمال التي تطرح أسئلة ولدي مشكلة مع الفكر الذي يرى أن الأدب هو الحل.
هو ليس حلا، فلم يحل أي شيء، ولكنه ضروري لإمدادنا بقصص قد تساعدنا في أن نفهم وجودنا، وممكن أن نجد في الكتابة عزاء، أو كما في عنوان كتاب التوحيدي هي إمتاع ومؤانسة.
أنا مهموم بكم الألم الموجود في العالم، في كل بلد، وفي بلداننا، في العراق، في سوريا، في فلسطين، في اليمن، في مصر. أتساءل كيف يكمل الفقراء كل يوم؟ هؤلاء هم الأبطال الحقيقيون بالنسبة لي.
حاورته: نُهى عبد الرسول
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023