مسيحيان عراقيان بنظرتين مختلفتين لأحداث العراق
في يوم 31 أكتوبر / تشرين الأول من عام 2010، اقتَحَمَت جماعة مُسلَّحة متعدِّدَة الجنسِيَّات "كنيسة النَّجاة" وسط بغداد، وذلك أثناء تجَمُّع المُصَلِّين يوم الأحد كعادتهم. أطلَق المسلَّحون النَّار على مُرتادِي الكنيسة ثم قاموا باحتِجاز عشرات الرَّهائن، إلى أن داهَمَ أفراد قوات الأمن العراقيَّة الكنيسة مُنقِذِين على وجه التقريب نِصف عدد مَن كانوا في المبنى. انتَهَت العمَليَّة ذلك اليوم بمَقتَل حوالي ستِّين نَفَرًا.
ترتكِز رواية "يا مَريَم" لسِنان أنطُون -التي رُشِّحَت ضِمن القائمة القصيرة لجائزة البُوكَر العربيَّة لعام 2013- حول أصداء هذه المجزرة. لكن عوضًا عن عام 2010، ينقُل أنطُون أحداث الهُجوم إلى المستقبَل بسنين عِدَّة، وصولًا به إلى يوم "31 أكتوبر" من عام أَبعَد.
تدُور أغلب أحداث الرواية أثناء ذلك الأحد الدَّامِي. نستمع إلى الحكاية من راوِيَين اِثنَين: يوسف، الكبير السن المتفائل، وقريبته مَها، الشابَّة المكتئبة غاية الاكتئاب. تُمَثِّل الشخصيَّة المحوريَّة الأولى رجلًا متقاعدًا لا يرغب في الهجرة من العراق، بينما الثانية تُمَثِّل طالبة تدرُس الطِّب في جامعة بغداد، وهي تتعجَّل إكمال دراستها كي تتمكن من الفِرار.
هنالك اختلاف حادّ بين الشخصيَّتين. فنغمة يوسف هو التعريج على مراحل تاريخ العراق المختلِفة واستعراض صور العائلة وذكرياتها بكُل أَناة. أمّا مَها فهي حاضِرَة باستمرار وبؤس. يتذكَّر الاِثنان ما مَضَى من تاريخ الوطن، كلٌ بنَظرَتِه المختلِفة. يَشهَدان نفس الأحداث، إلّا أن كُلّاً منهما يصل إلى اِستنتاج مختلِف جذريًّا عن الآخَر بشأن عراق الماضي والحاضِر والمستقبَل.
تاريخٌ واحد مِن منظارَيْن مختلفين
يوسف ومَها مُراقِبان ذَكِيَّان لهما نظرة انتقادية. يوسف إنسان متفائل وإيجابي، دون أن يلجأ إلى تَبييض جرائم الحاضِر أو الماضي.
فهو يستَحضِر ذكريات جميلة عن عائلته وأصدقائه، كما يتذَكَّر والِد أحد أصدقائه المُقَرَّبين الذي جُمِّدَت أمواله وصُودِرَت أملاكه، مما حَدا به وبعائلته إلى اللجوء إلى الخيار الوحيد المُتبقِّي وهو قرار التسجيل للهجرة. كما يتذَكَّر يوسف يوم قال له صديقه اليهودي: "أبُويا سَجَّل أسامينا بالتسقيط [ضمن قانون الهجرة]، وراح نروح لإسرائيل".
عندما تتذَكَّر مَها الماضي وتتفَكَّر في خُرُوج يهود بغداد -رغم أنها لم تَشهَد هذا الحَدَث لِصِغَر سنِّها آنذاك- نراها تُضيف هذه الحِقبَة إلى فَظائع أُخرَى وَحشِيَّة. كما تَقرَع هذه الواقِعَة أصداء ما قَد يُحِيق بِمَسِيحِيِّي العراق في المستقبَل.
لم يتزوَّج يوسف قَطّ إلَّا أنه يتذكَّر دَلال -حُبّ حياتِه- بِحَسرَة وشَغَف. لم يتمَكَّن الاِثنان من الزواج، ليس فقط لاختِلاف السِّن والطَّبَقة الاجتِماعيَّة والمُستوَى التَّعليمي، بل أيضًا لاختِلاف الدِّيانة: يوسف مَسِيحِي ودَلال مُسلِمَة.
رغم ذلك لا يستطيع يوسف إلا أن يرى العراق كمكان مُرحِّب على نطاق واسع بساكنيه، يُجالِس فيه أصدقاءه على الشَّراب ويتَمَكَّن فيه من الصُّعود في سُلَّمِه الوظيفي ومن عَيش حياته على أكمل وجه. والماضِي القريب -لا البعيد- هو ما يراه يوسف مُختَلِفًا.
حين يتفَكَّر يوسف فيما عاصَره طيلة حياته يَجزِم بأن المَدّ الطَّائفِي الذي يَشهَده العراق ما هو إلَّا زَوبَعَة من شأنها أن تَهدَأ. يتفاجَأ يوسف بالخِطاب المَذهَبِي الذي ينبَعِث من الفضائيَّات، بَيد أنه يَبقَى مبتعداً عن المَشهَد وساخِرًا بِشَأنه: "أستاذ، حتى النَّخل صار بي سنِّي وشيعي".
في حين أن مَها غير قادِرة على هذا النوع من الانفصال عما يحدث، حتى أثناء جِدالاتها مع يوسف. بالنسبة لها يَبقَى خِطاب المرحلة المعاصرة في العراق حاضِرًا، مُباشِرًا، مُغِيظًا، ومَحتومًا.
وبينما تَقُود الأحداث مَها إلى الإيغال في التَّديُّن، يبقى يوسف مُؤمِنًا عابراً غير مَعنِيّ بالتَّفاصيل. "أتخيَّل المَسِيح شجرة مُقدَّسَة لا تموت، مهما اقتَلَعَتها العواصف وجَرَفَتها الطُّوفانات. شجرة تعُود إلى الحياة كُلّ ربيع".
يَعتَبِر يوسف العراق وطنًا له، فيما لا تتصَوَّر مَها أي مكان لها فيه. عندما تُطالِع صُوَرًا فوتوغرافِيَّة قديمة على صفحة فيسبوك بعنوان "العراق الجميل"، تُفَكِّر مَلِيًّا في ما يُشير إليه أعضاء الصفحة ﺑ "زمان الخَير"، لكنها لا تجد أوقاتًا سعيدة فيما يطلق عليه أعضاء الصفحة اسم "الأيام الخوالي". وبالأحرى تَستَذكِر مَها مقتل الآشوريِّين حتى "في ذلك العَهد المَلَكيّ السَّعيد"، وكذلك "تهجير اليهود العراقيين، وطردهم [ بشكل جماعي] من بيوتهم وبلدهم الذي عاشوا فيه بين ليلةٍ وضُحاها"، ثُم تَسأل نفسَها: "ألَم يَكُن الفَقر مُستَشريًا؟".
مسألة مَسِيحِيِّي العراق
يقول أَنطُون في إحدَى مقابَلاته مع صحيفة الأخبار اللبنانيَّة إن المسألة الرئيسيَّة في روايته ما معناه: "هل نَترُك العراق أم لا نَترُكه؟". قُرب نهاية الرواية يُضحِي من الصَّعب أن نَعِي تساؤلًا كهذا. في أحد مَشاهِد الحكاية، تَسعَى مجموعة من المُسلِمِين بِجِديَّة إلى إتاحَة المكان لِعَودَة المَسِيحِيِّين إلى ديارهم. تأتي جُهودهم هذه بعد هُنَيْهَةٍ مِن زواج مَها، فتقول: "تأثَّرتُ عندما شاهدتُ البعض منهم وهم يتحدثُّون للكاميرا، يطالبوننا نحن -إخوتهم المَسِيحِيِّين- كما سَمّونا، بالعودة إلى بيوتنا لأن المنطقة أصبحَت آمِنة الآن".
تَقبَل مَها وزوجها دعوة العودة هذه. يَرجِعان إلى حَيّ عائلتها، ثُمّ يأتيها الحَمل وهي ما زالت تُتَابِع دراستها. تسير الأمور على ما يرام، إلى أن تنفجر سيَّارتان مُفَخَّخَتان على مسافة ليست ببعيدة عن منزلهما، وهو ما يسفر عن إجهاظ مَها لجَنينها.
يَصِف أنطُون مَشهَد الإجهاض في الرواية بأُسلوب يَفطُر القلب. هنا، يتغيَّر العالَم ليس فقط لأرواح قَد أُزهِقَت، بل لتلك التي لم تَرَ النُّور بَعد.
في واقع الأمر يبدو أن أحد التساؤلات الرئيسيَّة في الرواية هو: كيف يتغيَّر العراق دون يوسف ومَها ودون جَنِينِها الذي لم تُكْتَب له الحياة؟ كيف تتحوَّل طبيعة أي وطن مع فقدان كل شخص، وضَياع كل مجتمَع؟ كيف تتبدَّل الذاكرة الجَماعيَّة؟
الشِّعر، الذَّاكِرة، والفقدان
يختلِف الجزءان المُكَوِّنان للرواية اختلافًا فارِقًا من حيث النغمة، إلّا أن لكل جزء شِعرَهُ الخاص. في الجزء المَعنِي بيوسف يتضافر الشِّعر العراقي المُعاصِر بذلك القديم، من خَمرِيَّات أبي نواس في القرن الثامن إلى مُطَوَّلات الجواهري في القرن العشرين.
تأتي الأشعار من يوسف ومن نَدِيمه في الشراب سَعدُون. أما الشِّعر الآتي من مَها، فيَتَمثَّل في ترانيم كَنَسِيَّة وأغانٍ لفيروز، أغلبها حزين. الحكاية مُزَركشة باستمرار وجَمال بالطابع المَسِيحِيَّ السِّريانِي-الكاثوليكِي. تتناول المُتَرجِمَة مايا تابِت كُل هذه المَشاهِد بأسلوب حميم وحَسَّاس في ترجمتها الإنكليزيَّة.
"يا مَريَم" حكاية مجتمَع على شَفا كارثة، يلتقطها أنطُون خلال لحظة واهِنَة يَحفُّها الخَطَر. كما يُعطِي المؤلف رُؤيَتَي يوسف ومَها المختلِفتين للعراق الأهميَّة ذاتها - كوطن تَعَدُّدِي رَحِيب، وكمكان مُخيف خطير. مع ذلك، نَجِد أنه ليس بوسعنا أن نفعل أي شيء سوى أن نَتَبَنَّى رؤية مَها، وأن نشعُر بخوفها على مجتمَعها.
مارسيا لينكس كويلي
ترجمة: ريم الكيلاني
حقوق النشر: موقع قنطرة 2020