ما دور الدين في هذا النزاع؟
الأحداث في بيسلان (شمال أوسيتسيا، الاتحاد الروسي) والحرب المستمرة في الشيشان تجعل منطقة القوقاز في محور الاهتمام. ولكن ما يبدو كما لو كان نزاعا دينيا لا يعود في حقيقة الأمر لأسباب دينية بل إقليمية. تحليل غسان غوزينوف
بناء على رأي بعض المراقبين وحسب مقولة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فإن بمقدور النزاع القائم بين المسيحيين والمسلمين في تلك المنطقة (في هذه الحالة بين سكان أوسيتسيا ذوي الأغلبية المسيحية وسكان الشيشان وإنغوشيا الذين يشكلون مع بعضهم شعبا مسلما يطلق عليه "الفاجناخن") أن "يفجر" الأوضاع في كامل منطقة شمال القوقاز التابعة لروسيا.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في الفترة الواقعة بين 1990 و1991 وبعد تأسيس ثلاث دول مستقلة واقعة في جنوب القوقاز وهي أرمينيا وأذربيجان وجيورجيا، تحول شمال القوقاز إلى منطقة حدودية تابعة للاتحاد الروسي. وفد غذى ذلك التوجهات الانفصالية لدى طرفي ما يسمى بالحافة القوقازية الكبيرة وأحيى مجددا الصراعات الإقليمية الكامنة بين شعوب شمال القوقاز المختلفة.
وكانت جيورجيا قد فقدت في بداية التسعينات سيطرتها على مناطقها الحدودية الملاصقة لروسيا ومن ضمن ذلك منطقة جنوب أوسيتسيا ذات الأغلبية السكانية المسيحية ومنطقة أبخاسين ذات الأغلبية المسلمة. في نفس الوقت اندلع في المنطقة الواقعة في شمال القوقاز والتابعة للاتحاد الروسي نزاعان لا علاقة بينهما.
النزاعان المندلعان في شمال القوقاز
جاء النزاع الأول نابعا من الخلافات المحتدمة القائمة بين الإنغوش وجمهورية شمال أوسيتسيا المجاورة أما النزاع الثاني فقد اندلع بين الشيشان وموسكو.
طالب الإنغوش حكومة جمهورية شمال أوسيتسيا باستعادة مناطق سكناهم ومنازلهم الواقعة في المناطق المحيطة من العاصمة فلاديكافكاس والتي شردوا منها في إطار إجراءات إبعادهم عنها في الفترة الواقعة بين 1944 و1957. لكن جمهورية شمال أوسيتسيا امتنعت عن تلبية هذه المطالب بحجة أن آلافا من السكان الجدد قد استوطنوا في هذه الأثناء هناك.
نجمت عن ذلك موجات من الهجرة من شمال أوسيتسيا إلى إنغوشيا حيث نشأت أول مخيمات للاجئين هناك. وفقد المعنيون الأمل بإمكانية تحقيق مطالبهم على نحو سهل داخل الاتحاد الروسي. في نفس الوقت اشتعلت نيران الصراع المسلح بين الاتحاد الروسي والشيشان.
أهمية دور الدين في شمال القوقاز
شمال أوسيتسيا هي الجمهورية الوحيدة في شمال القوقاز التي يشكل فيها المسيحيون أغلبية السكان. لكن الصراع بين سكان أوسيتسيا وإنغوشيا لم يتسم بتاتا بطابع ديني، بل كان على الدوام صراعا من أجل نيل مناطق معينة وبغية في الحصول على وضع إداري وسياسي معين.
على الرغم من ذلك فقد تمت في الآونة الأخيرة مرارا الإشارة إلى العامل الديني كسبب أساسي لظهور المشاكل القائمة في القوقاز، سواء كان ذلك في حالة النزاعات القائمة بين أذربيجان وأرمينيا أو حول قضية بيرغ كاراباخ أو فيما يتعلق بالنزاعات القائمة بين جيورجيا والانفصاليين سواء في أبخاسيا أو أدخاريا.
المطالب الإقليمية هي صلب الموضوع
لكن ضعف "التفسير الطائفي" سرعان ما يتضح عندما يدرك المرء بأن إيران التي هي دولة إسلامية دعمت الجانب الأرميني في نزاعه مع أذربيجان كما أن جيورجيا المسيحية تتعاطف في هذا الصدد مع جارتها "المسلمة" أذربيجان أكثر من تعاطفها مع أرمينيا.
كما يتساوى الموقف البعيد عن روح المصالحة في حالتي كل من مسيحيي جنوب أوسيتسيا ومسلمي أبخاسيا فيما يختص بكفاحهم من أجل نيل الاستقلال من جمهورية جيورجيا المسيحية. إن ما يبدو من الرؤية الخارجية كما لو كان نزاعا دينيا لا يعود في حقيقة الأمر لأسباب دينية بل إقليمية.
الإسلام في شمال القوقاز
لوحظ على مر التاريخ بأن التيارات الإسلامية في شمال القوقاز قويت وتعززت كلما ازدادت حدة ضغط روسيا على المنطقة. وكان هدف روسيا دمج تلك المنطقة في إمبراطوريتها التي توسعت أطرافها على نحو قاري سريع. وهذا لم يتحقق إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ورافق ذلك إجبار جانب كبير من السكان المسلمين لشمال القوقاز بالقوة على الهجرة إلى الإمبراطورية العثمانية.
هذا ولم يتعرض الإسلام في تلك المنطقة بعد ضم شمال القوقاز إلى الإمبراطورية الروسية وحتى انطلاق الثورة فيها عام 1917 للاضطهاد إلا بصورة عابرة وغير منتظمة. أما في عهد الاتحاد السوفيتي (1922- 1990) فقد حظرت ممارسة كافة الأديان، الأمر الذي أدى إلى إضعاف الكنيسة المسيحية في شمال القوقاز على نحو أكثر من الإسلام. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي حل محل أيديولوجية الإلحاد تحالف جديد بين الدولة الروسية والكنيسة الأرثوذكسية.
النهوض الإسلامي
بالنسبة للأغلبية المسلمة لسكان شمال القوقاز أخذ الإسلام يحتل مركز قوة جديد من حيث كونه عاملا من عوامل التعبئة السياسية ضد الأطماع الإمبريالية الجديدة لموسكو.وكلما قلت درجة دعم الغرب الديموقراطي للمكافحين من أجل الاستقلال كلما اتسع نفوذ الإسلاميين في المنطقة. وبدأ مسلمو شمال القوقاز المقيمون في "الشتات الشركسي " وتحديدا في تركيا والبلدان العربية التي كانت في السابق تابعة للإمبراطورية العثمانية يلتحمون في هذا الصراع بجانب الانفصاليين الشيشان.
الانتماء الديني ليس المقياس
يمر سكان شمال أوسيتسيا المسيحيون الذين شكّلوا منذ القرن التاسع عشر أحد أعمدة الاستعمار الروسي في المنطقة، في مرحلة صعبة. فبناء على المعطيات الإلحادية التي كانت قائمة إبان النظام السوفيتي تعاملوا مع هوية نابعة من وحدة القوقاز.
ولم يشكل الانتماء الديني (أغلبية سكان أوسيتسيا مسيحية مع وجود أقلية مسلمة تسمى ديغور أوسيتسيا) إلا أحد جوانب الانتماء.أما على ضوء الصراعات التي اندلعت في غضون التسعينات ولا سيما بعد أحداث بيسلان بدأ العامل الديني يحتل دورا متناميا في الأهمية.
من هذه الأرضية لم يتم فقط اللجوء إلى تبرير إبعاد السكان الإنغوشيين من شمال أوسيتسيا في بداية التسعينات بل تم أيضا التشديد على الاتهامات القائلة إن مسلمي شمال القوقاز قد تعاونوا أثناء الحرب العالمية الثانية مع المحتلين الألمان.
مواقف مختلفة
يشكل إكساب الشرعية الدينية على بنية الدول الجديدة للمنطقة في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفيتي مسألة خطيرة نظرا لعدوانية الطرح الديني الذي يقوم به الحكام.
أسلان ماسخادوف الذي كان ضابطا سابقا في الجيش السوفيتي والرئيس المنتخب لجمهورية الشيشان إتشيكيريا أعلنا في الفترة القصيرة للاستقلال (1996- 1998) بأنهما يتبنيان الشريعة. كما أن الضابط السوفيتي السابق فلاديمير يوتين يقدم نفسه كما لو كان ملكا أرثوذكسيا.
لكنه غير معلوم عما إذا كانت أغلبية الشيشان ترى ثمة قواسم مشتركة بينها وبين التيارات الإسلامية المتطرفة التي يتبناها المقاتلون. من ناحية أخرى ليست الكنيسة الروسية الأرثوذكسية بتلك القاعدة المناسبة لتكريس وحدة الدولة المتعددة الشعوب كما هو الحال بالنسبة للاتحاد الروسي المتعدد الطوائف.
أرضية خصبة للنزاعات الدينية
بالإضافة إلى منطقة القوقاز الحدودية هناك ملايين من المسلمين ممن يعيشون في وسط روسيا وتحديدا في المناطق الواقعة على الفولغا. ليس هناك تضارب بينهم وبين الدولة الروسية ولكن مثل هذا التضارب قائم بين روسيا وجمهورية جيورجيا "المسيحية" الواقعة في الطرف الجنوبي من القوقاز.
هذا يعكس عجز روسيا عن توظيف الاختلافات الطائفية على وجه مطلق بغرض إكساب الشرعية على نزاعاتها الإقليمية في مرحلة ما بعد الاستعمار، تلك النزاعات التي اندلعت في أقاليمها الجنوبية الشاسعة الواقعة في أطراف البلاد.هذا وإن لم يتم بعد استغلال كل الطاقات الكفيلة بتحقيق التعبئة الطائفية.
غسان غوزينوف، صحفي يعمل في القسم الروسي من DW-Online
ترجمة عارف حجاج