صراع الأفكار بعد ربيع العرب...نحو علمانية عربية أصيلة
بعد مرور عامين على بداية الربيع العربي أكدت سلسلةٌ من التطورات السياسية فرضيةً طرحتُها في كتابي "الإسلام والعلمانية والديمقراطية الليبرالية" (صدر عام 2012)، حيث قلت بأنَّ طريق المجتمعات الإسلامية إلى الديمقراطية "لا يسعه إلا أنْ يمر عبر بوابات السياسة الدينية" بغض النظر عن التعرجات والمنعطفات التي يسير بها، وكنت قد قصدت بذلك مسألتين:
المسألة الأولى تقول بضرورة التباحث الديمقراطي بشأن دور الدين في سياسة الدول الإسلامية الناشئة في الوقت الراهن، ووجوب النضال من أجل العلمانية السياسة لا اعتبارها أمرًا مفروغًا منه. وقد تبين أنَّ هناك مغالطة في الانطلاق من أنَّ المجتمعات الإسلامية قد بحثت منذ وقت طويل بموضوع مرجعية الدين في السياسة، وهو موضوعٌ عاطفيٌ ومثيرٌ للجدل، وفي أنَّ هناك توافقًا ديمقراطيًا عريضًا قائماً حوله. أو لنقل بشكلٍ آخر: تاريخ الغرب لا يُمثِّل نموذجًا كونيًا لتطور التاريخ، والافتراض بأن العالم الإسلامي خاض التجربة التاريخية نفسها بما يخص دور الدين في السياسة كما فعل الغرب هو أمرٌ خاطئٌ ببساطة.
الدين والسياسة
أما في المسألة الثانية فأقول بأنَّ الأحزاب القائمة على أساسٍ دينيٍ والمثقفين المتدينين على حدٍّ سواء يمكنهم أن يلعبوا دورًا مهمًا بامتياز في التحوُّل الديمقراطي لبلدانهم، شريطة أن يجعلوا أحكامهم الدينية السياسية متناغمةً مع معايير حقوق الإنسان الكونية ومع متطلبات الديمقراطية الحديثة، ونحن نلاحظ مؤخرًا تطورًا على هذا الصعيد وإنْ كان بطيئًا، لكن لا أحد يسعه إنكار وجوده.
على سبيل المثال يُبيِّن الدور الريادي الذي يلعبه حزب النهضة في الانتقال الديمقراطي في تونس أنَّ هنالك أشكالاً من السياسة الدينية التي يمكنها بالفعل أنْ تتوافق مع التطور الديمقراطي. وحتى وإنْ كانت أوضاع الأحزاب الدينية في مصر شائكة أكثر إلا أنَّه يمكننا أيضًا أنْ نلاحظ وجود توجهاتٍ مشابهةٍ للتطورات الجارية في تونس.
وإذا ألقينا نظرة تستشرف المستقبل سيتبين لنا أنَّ التحول الديمقراطي في المجتمعات الإسلامية سيظل أيضًا متشابكًا بعمق مع قدرة الفاعلين السياسيين ذوي التوجهات الإسلامية على تطوير شكلٍ من أشكال العلمانية السياسية يتوافق مع التقاليد الثقافية الخاصة بتلك البلدان.
إرث ما بعد الاستعمار
ومن أجل تحقيق الديمقراطية وتعزيزها لا بدَّ من اقتراب تجذير هذه "العلمانية الإسلامية" الأصيلة مما وصفه عالم الدين ألفرد ستيبان Alfred Stepan بـ "توأم التسامح" Twin Tolerations، وكان يقصد بذلك أنَّ التمييز الواضح بين السلطة السياسية والهيئات الدينية مسألةٌ أساسيةٌ تمامًا مثلها مثل الاحترام المتبادل بين الطرفين. وهذا لن يتحقق إلا بصعوبةٍ لأنَّ هذه العملية بطبيعتها محكومةٌ بالنزاعات ولكن أيضًا بسبب إرث الدول العلمانية الثقيل لمرحلة ما بعد الاستعمار في العالم العربي الإسلامي، وبسبب الأيديولوجيات القومية العلمانية التي تأسست عليها هذه الدول.
اتضحت التحديات التي تقف أمام العلمانية السياسية في العالم العربي الإسلامي في أيلول/سبتمبر 2011 أثناء زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان لمصر. وبلده يعتبرُه معظم الإسلاميين نموذجًا سياسيًا محترمًا. وقد تم الاحتفاء بإردوغان بدايةً كبطل، حيث خرج آلاف المواطنين المصريين ومعظمهم من مؤيدي الإخوان المسلمين لمشاهدة القائد التركي، وهتفوا عندما رأوه: "إردوغان! إردوغان! مسلم بجد مش جبان!".
وضمن حملته الإعلامية شارك رجب طيب إردوغان في البرنامج الحواري المصري الشهير "برنامج العاشرة مساءً" دافع خلاله عن مفهوم العلمانية قائلاً: "لا تشككوا بالعلمانية، وأتمنى أنْ تصبح في مصر دولة علمانية" وتابع شارحًا: "المصريون الذين يظنون أنَّ العلمانية تقصي الدين عن الدولة أو أنها نظام دولة كافرة هم على خطأ. العلمانية تعني احترام كافة الأديان، وإذا تم تطبيق ذلك يمكن للمجتمع كله أن يعيش بسلام".
جاءت ردود أفعال الإخوان المسلمين بالغة الوضوح على هذه الكلمات، فالإعجاب والحماسة التي قوبل بها رئيس الوزراء التركي والتي تجلت في البداية انقلبت إلى ضدها، وفجأةً وُجِّهت له تهمة التدخل بالشؤون المصرية الداخلية وبأنَّ طموحه غايته الهيمنة على الإقليم ليس إلا. إذن، وُضعت مكانة إردوغان البطل موضع السؤال وكذلك دور تركيا كنموذجٍ يمكن أن يحتذي به العالم العربي.
من الدولة العلمانية إلى الدولة المدنية
يمكن تفسير هذا من خلال إرث عملية التحديث التي خاضتها المجتمعات الإسلامية في القرن العشرين. والتجارب التركية مع العلمانية والديمقراطية تختلف عن تجارب العالم العربي حيث تـُخرِسُ كلمة علمانية أيَّ نقاش قائم. وحاليًا نلاحظ تبلوُر مصطلحٍ جديدٍ يصف مفهومًا يختلف عن مفهوم الدولة العلمانية أو الدولة الإسلامية. إنها فكرة الدولة المدنية، وهي الدولة التي تصبوا إليها أكثرية الأحزاب الإسلامية بحسب تصريحاتها.
لكن لم يسُد حتى الآن اتفاق على معنى هذا المفهوم بخصوص المواضيع الجوهرية مثل حقوق الأقليات ودور المرأة والرجل في المجتمع وطبيعة النظام القانوني والفصل بين السلطات. الموضوع يناقَش بحيوية في العالم العربي وانفتاح الفضاء السياسي وازدهار سياسة تعتمد تعدد الأحزاب ستفضي حتمًا إلى وضوحٍ على هذه الصعد. وحقيقة أنَّ تونس يمكن أنْ تكون السباقة لما يمكن أن تكون عليه صورة الدولة المدنية التي يقودها الإسلاميون أمرٌ يدعوا للتفاؤل.
إذ تـُعتبر تونس ضمن الربيع العربي منارةً من عدة جوانب وبخاصةٍ فيما يتعلق بالمصالحة بين الإسلام والعلمانية والديمقراطية. راشد الغنوشي الأب الروحي لحركة النهضة ومؤسسها يلعب دورًا طليعيًا في هذا السياق، فقد بدأ عبر سلسلة من المقابلات والمحاضرات بفك حدة التوتر بين العلمانية والفكر السياسي الإسلامي.
هذه النقاشات والتحولات السياسية تـُذكـِّر بمفهوم "الحداثات المتعددة" لدى عالم الاجتماع صموئيل أيزنشتت Shmuel Eisenstadt الذي طرح حججًا تقول إنَّ برنامج التحول الثقافي والقواعد المؤسسية التي نشأت في أوروبا ليست السبيل الوحيد نحو الحداثة، إنما الثقافات والمناطق المختلفة يمكنها أنْ تسلك دروبًا أخرى ويمكنها أن تخوض تجارب متنوعة في سياق عملية التحديث. بكلماتٍ أخرى، لا يمكن تطبيق نموذجٍ واحدٍ على كل العالم وبخاصةٍ عندما يتعلق الأمر بتسوية التوتر العميق القائم بين الدين والعلمانية والديمقراطية.
هذه الملاحظة لها أهميتها الكبرى في ظل وضع العالم العربي الإسلامي الراهن. وعلينا أن نضعها دائمًا وأبدًا بعين الاعتبار لكي نفهم مجريات أحداث الربيع العربي ولنفهم مسار التطور الديمقراطي الذي تسلكه المجتمعات الإسلامية في وقتنا هذا.
نادر هاشمي
ترجمة: يوسف حجازي
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013