انتقام العسكر من التاريخ - الياس خوري
استطاع الطيب الصالح أن يختصر السودان في الوعي العربي من خلال رواياته، وخصوصاً في عمليه الكبيرين: «موسم الهجرة إلى الشمال»، «وعرس الزين». مأساة مصطفى سعيد ونهايته الفاجعة غريقاً في النيل، شكلت مرآة لمجنون القرية «الزين» وحكايات عرسه، بحيث أدخل الروائي بلاده في متن الثقافة العربية، مفتتحاً أفقاً جديداً للرواية.
لكن السودان الجديد لم يكتمل في وعينا إلا بصورتي عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ، القائدين الفذين اللذين توجا بإعدامهما شنقاً على يد الديكتاتور جعفر النميري، المسيرة الناصعة التي كتبت بدماء فهد (العراق) وشهدي عطية الشافعي (مصر) وفرج الله الحلو لبنان وسوريا.
صورة عبد الخالق محجوب انحفرت في الوجدان عبر الرائعة الرثائية التي كتبها محمد الفيتوري:
«لاتحفروا لي قبراً/سأصعد مشنقتي، وسأغلق نافذة العصر خلفي/ وأغسل بالدم رأسي/ وأقطع كفي وأطبعها نجمةً فوق واجهة العصرِ/ فوق حوائط تاريخه المائلةْ/ وسأبذر قمحيَ للطير والسابلةْ/ قتلوني.. وأنكرني قاتلي/ وهو يلتفُّ بردانَ في كفني/ وأنا من؟ سوى رجلٍ/ واقفٍ خارج الزمن/ كلما زيفوا بطلا/ قلت: قلبي على وطني».
كاد الفيتوري أن يكمل الصورة السودانية التي رسمها الطيب الصالح، بشعره الحامل معه النكهة الإفريقية، لكن الشاعر هرب من ديكتاتور بلاده كي يلجأ إلى ديكتاتور آخر ونسي الشعر في غمرة انشغاله بمهمات دبلوماسية هامشية كانت أشبه بالتقاعد.
غبار الاستبداد والقمع ومذبحة دارفور غطت السودان، وبدا هذا البلد الجميل بنيليه الأزرق والأبيض وكأنه خرج من خريطة الوعي ودخل في النسيان.
غير أن السودان فاجأنا عندما أيقظ العرب في الموجة الثانية من الربيع العربي، بعد سقوط الموجة الأولى وغرقها في الدم والاستبداد، فبدت التجربة السودانية بِنُضج حركتها الشعبية، وجمالياتها، وكأنها تختزن روح الحرية.
لكن السودان يواجه اليوم انتقام العسكر من التاريخ، في هذا الصراع المسلح بين الجيش و»الدعم السريع»، أي بين القوتين المسلحتين اللتين لم تتوقفا عن محاولة خنق الثورة الشعبية السودانية.
البرهان وحميدتي، جنرالان آتيان من زمن ديكتاتورية عمر البشير، الأول يحلم بانفراد الجيش بالسلطة، والثاني ينام على أمجاد ميليشيات «الجنجويد» عبر المذابح التي ارتكبتها في دارفور.
الجنرالان اللذان تحالفا ضد استعادة المدنيين للسلطة، وارتميا في أحضان التطبيع «الإبراهيمي» مع إسرائيل كوسيلة لنيل الرضى الأمريكي، وغرقا في الفساد والإفساد، يملآن شوارع الخرطوم والمدن السودانية دماً.
في هذه الحرب يبدو السودانيات والسودانيون وكأنهم مجرد ضحايا، ويتحول السودان إلى ملعب للموت، ويصير السلاح أداة التحكّم والحكم.
يدور الصراع على السلطة فقط، والخلافات محض تعبيرات شكلية تحمل مخزوناً عشائرياً، بحيث احتار حلفاء الطغمة العسكرية في تحديد مواقفهم. حتى إسرائيل، وجدت نفسها في موقع من يناشد الجنرالين المتفقين على كسب رضاها.
جنرالان سودانيان يقومان بكشف لعبة الجيوش الطامحة إلى السلطة، لقد تحولت هذه اللعبة إلى طاعون العالم العربي. كأن الجيوش الحديثة التي بنيت وأُعيد بناؤها، هي مرض السلطة العربية.
فالسودان الذي تعرض للتقسيم في الماضي القريب، يشكّل اليوم النافذة التي نطل من خلالها على تاريخنا الذي يختنق تحت بساطير العسكر.
في الماضي، أي مع صعود الحركة القومية محمولة على الانقلاب، نُظر إلى الجيوش بصفتها أدوات لتحديث المجتمعات العربية، وتخليصها من الاقطاع وفتحها على آفاق المستقبل. هذا ما قام به الجيش المصري بعد ثورة 23 يوليو في ظل القيادة الاستثنائية لجمال عبد الناصر. غير أن هذا الدور سرعان ما خبا بعد الهزيمة الحزيرانية المروعة، التي كشفت أن الجيش كان وسيلة حكم ولم يكن أداة فعالة للدفاع عن الوطن، كما كشفت أيضاً أن أجهزة المخابرات والتحكم والسيطرة ابتلعت المجتمع وحطمته. فصار التحديث مجرد قشرة خارجية ما لبثت أن تهاوت، لتفتح الأبواب أمام عودة الأشكال الاجتماعية القديمة بعدما لبست البدلة العسكرية.
ولقد تم استنساخ التجربة المصرية بصورة كاريكاتيرية في السودان وليبيا وسوريا والعراق، فصار الاستبداد عارياً، لا تغطيه سوى قشرة اللجوء إلى البنى المناطقية والعشائرية والطائفية.
غير أن الاستبداد كان يقتات من فتات خطاب قومي لجأ إليه كي يخفي طبيعته الوحشية، أو كي يعطي تسلطه شيئاً من المعنى. لقد نجح الاستبداد في تفريغ الكلمات من معانيها، وفي تحويل الشعارات الوطنية إلى ممسحة، وهذا هو «إنجازه» الوحيد.
أهمية المأساة التي تدور اليوم في السودان أنها تعلن فضيحة النظام العربي.
إحدى ميزات اسم السودان أنه في علم الصرف جمع لكلمة أسود، وتقول العرب إنه سمي أسود لأنه يسود على جميع الألوان. وجمعها سود وسودان، وهما جمع تكسير، وهناك احتمال، حسب بعض علماء الصرف، بأن تكون كلمة سودان هي جمع للجمع، أي أنها جمع سود.
وبصرف النظر عن جدل جمع التكسير أو جمع الجمع، فإن اسم البلاد المشتقة من اللون، ليست حكراً على السودان، فإثيوبيا تعني في الأصل الوجوه التي دبغتها الشمس، كما أن الاسم الذي أطلقه الإغريق على سكان مدن الساحل الكنعاني، أي الفينيقيين، يعني الشعب الأرجواني.
ما يهمني من هذه العودة إلى الدلالة اللغوية للاسم، هو الجمع. فالسودان اليوم هو جمع تكسير، بالمعنى الحرفي للكلمة، وليس فقط بالمعني الصّرْفي. فالعرب يُجمعون تكسيراً وحطاماً. وهو أيضاً جمع للجمع الاستبدادي العربي، الذي يمعن في البطش، ويتفنن في قهر الشعوب، ويتابع رقصته الهمجية فوق حطام المجتمعات العربية.
يعبّر جمع الجمع الاستبدادي العربي عن مرض جيوش النظام العربي وعروشه بالاستبداد. ويشير إلى محاولة اغتيال الحاضر العربي عبر اغتيال حريته.
النهضة الأولى التي أسسها الرواد في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين حققت إنجازاتها اللغوية والثقافية، أما النهضة الثانية مع بدايات الحداثة الأدبية فقد اصطدمت بحاجز الاستبداد الذي قام بتهميش وتحطيم منجزاتها الثقافية والفكرية.
يحتاج العرب اليوم إلى نهضة ثالثة لها اسمان: الديموقراطية والعدالة الاجتماعية.
هذه النهضة التي بدأت بذورها في الثورات الشعبية العربية، هي ما حاول النظام العربي وأده في مهده.
وهي نهضة تحتاج إلى مقتربات جذرية جديدة، علينا جميعاً أن نبحث عنها، كي لا نسمح للعسكر باغتيال تاريخنا.