دعوة لإقامة "فضاء متوسطي للمعرفة "
بعد عام واحد على تأسيسه في باريس، تعرضت المؤسسات السياسية لـ"الاتحاد من اجل المتوسط" إلى شلل شبه تام بسبب تداعيات حرب غزة، بينما تمكنت مؤسساته الثقافية من مواصلة رسالتها. وكسبيل للنهوض بمشروع الاتحاد المتوسطي بشكل عام، دعا المشاركون في ندوة بون إلى اعتماد إستراتيجية ثقافية موحدة للبلدان الأعضاء في "الإتحاد" تعتمد على مبدأ الحوار بين الثقافات.
وبرأي رونالد غراتس أمين عام معهد العلاقات الخارجية الألماني، فإن الإتحاد من أجل المتوسط يشكل منتدى ملائماً للحوار بين الثقافات. وأوضح الخبير الألماني بالقول إن الاتحاد وضع منذ انطلاقته التبادل العلمي والثقافي كركيزة أساسية لإستراتيجيته القائمة على ستة مجالات تشمل السياسات الأمنية والاجتماعية والبنيات التحتية وحماية البيئة.
حوار الثقافات - "مهمة صعبة"
بيد أن طرح البعد الثقافي كسبيل للنهوض بالمشروع المتوسطي ينطوي بدوره على عدة عوائق، إذ يثير النقاش حول الإسلام جدلا حاداً في أوساط المثقفين والسياسيين في بلدان ضفتي المتوسط وداخل كيان الإتحاد الأوروبي نفسه. ويعترف الايطالي غيان لوكا سوليرو رئيس فرع الإسكندرية لمؤسسة "آنا ليند" الأوروبية المتوسطية لحوار الثقافات، بـ"صعوبة مهمة الحوار بين الثقافات" في ظل مناخ الأزمات السياسية الحادة بدءاً بأحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول ووصولا إلى حرب غزة، إضافة إلى أوضاع كبت الحريات في بعض دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط.
ولتجاوز هذه الصعوبات تعمل مؤسسة "آنا ليند" على بناء شبكة تضم أكثر من 2500 من هيئات المجتمع المدني والهيئات الثقافية من البلدان الأعضاء في الاتحاد، وتسعى لبلورة إستراتيجية مشتركة لتفعيل الحوار في ميادين التربية والتعليم والإعلام والمؤسسات المدنية.
أما الدكتور منير الفندري، رئيس قسم الدراسات الجرمانية بجامعة منوبة في تونس، فقد شدد على ضرورة تعميق فكرة التقارب بين شعوب بلدان المتوسط، وعدم اقتصارها على الإطار النخبوي. من جهته لاحظ الباحث الألماني بجامعة كارلسروه الدكتور بيرند توم رئيس "المبادرة العلمية للثقافة والسياسة الخارجية" أنه يتعين البحث عن العوامل الثقافية المشتركة والبناءة التي تساعد على تقارب أوروبا مع جيرانها في جنوب وشرق المتوسط، وعدم التركيز على عناصر
الخلاف بين الثقافات والهويات الدينية.
تجارب ألمانية للحوار مع العالم الإسلامي
وخلال ندوة جامعة بون، طرحت مؤسسات ألمانية ثقافية وعلمية تجاربها للحوار مع العالم الإسلامي، ومن ضمنها معهد
العلاقات الخارجية الذي أوضح أمينه العام أن الحوار مع العالم الإسلامي يشكل محوراً رئيسياً في إستراتيجية المعهد. ويعمل المعهد في هذا الاتجاه بالتعاون مع شريكه "معهد غوته"، الذي يمتلك شبكة من المراكز والفروع في شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
ومن خلال تجربة المعهد الألماني في مجالات التعاون الثقافي والفني مع بلدان إفريقية وعربية، فإن أنجع سبيل لتحقيق التفاعل الثقافي الايجابي، برأي رونالد غراتس، يمر عبر التركيز "أولا على جودة العمل الفني والثقافي، وثانيا على مبدأ التفاهم في إطار احترام الهويات والخلفيات الدينية المختلفة للمتحاورين".
اختلاف النظرة للإسلام ودوره في أوروبا
وناقش المشاركون في الندوة الإشكالات التي يثيرها موضوع دور الإسلام في أوروبا، فبالنسبة للدكتور غراتس يدعو إلى عدم الخلط بين الإسلام وهويات الأفراد والمجموعات المنتمية للبلدان الإسلامية، موضحاً أن الهوية الحديثة تتشكل من خلال عمليات تحول وتأقلم مستمرة وهي تتشكل من عناصر مركبة يتداخل فيها الدين واللغة ومكونات ثقافية محلية. ومن جهته لاحظ المسشترق الفرنسي الدكتور كريستيان لوشان رئيس "جامعة بلا حدود" في باريس، أن النظرة إلى الإسلام في أوروبا تختلف ليس فقط بين الأوروبيين، بل بين المسلمين أنفسهم. وأوضح المستشرق الفرنسي أن الاختلاف في النظر للإسلام داخل أوروبا مرده إلى وجود خلفيات تاريخية واجتماعية متباينة، ففي فرنسا يرتبط الإسلام فيها بوجود جاليات مغاربية ومن غرب إفريقية، بينما يغلب الوجود التركي على الجاليات المسلمة في ألمانيا وبلجيكا الفلمنكية ودول شمال أوروبا. أما في بريطانيا فيغلب العنصر الباكستاني والهندي.
وأضاف لوشان أن وجود الإسلام في دول البلقان له خصوصية كونه تاريخيا أكثر تجذراً. كما يوجد اختلاف بين "الإسلام التركي" الذي يعتمد على كونه إسلام دولة تشرف عليه رسميا الحكومة التركية، و"الإسلام المغربي " و"الإفريقي" الذي تحظى داخله الطرق الصوفية بنفوذ كبير. كما يخضع المسلمون داخل أوروبا لتأثيرات مختلفة سواء من سياسات بلدانهم الأصلية أو نزعات صوفية، أو جماعات سلفية أو جهادية أو شيعية ، الأمر الذي يثير صعوبات وانقسامات.
ولمعالجة الإشكالات التي تنتج عن سوء التفاهم حول الإسلام داخل الدول الأوروبية ، يقترح الدكتور لوشان التركيز على برامج التربية والتكوين وخصوصا للأجيال الشابة في المجتمعات الأوروبية لتعميق المعرفة والفهم للأديان والثقافات المختلفة. وأشار إلى أن الإشكالات التي تواجهها فرنسا أملت على الدولة المساهمة في تمويل بناء المساجد ومراكز تعليم اللغة والدين، وأن هذه الوظيفة الجديدة للدولة ستفرض تعديلا للقانون الذي يمنعها من التدخل في الشؤون الدينية باعتبارها
دولة علمانية.
وأظهرت مداولات ندوة جامعة بون اهتماماً خاصاً بالتعليم والتبادل العلمي والتكنولوجي، ودعا الدكتور بيرند توم من جانبه إلى تطوير مشروع الجامعة المتوسطية التي تسعى مؤسسة "آنا ليند" لإقامتها، عبر نسج منظومة متوسطية تضم جامعات الدول الأعضاء في "الاتحاد" وإقامة "فضاء متوسطي للمعرفة". ورأى الباحث التونسي الدكتور منير الفندري أن تكوين الشباب وتنشئة الأجيال الجديدة على فكرة التقارب بين شعوب وبلدان البحر الأبيض المتوسط ، يتعين أن يكون في صلب أولويات الاتحاد المتوسطي، من خلال اعتماد برامج للتعاون في ميادين التعليم والتربية. وحذر الدكتور فندري من فشل مشروع الاتحاد المتوسطي وقال إن عواقبه ستكون وخيمة على الجيل الحاضر والأجيال المقبلة، وسيتولد عنه انعدام الأمل في إقامة تعاون وتقارب بين بلدان ضفتي المتوسط.
منصف السليمي
حقوق الطبع محفوظة: دويتشه فيله 2009