دراسات الشرق الأوسط في مفترق طرق - رسالة احتجاج
تواجه دراسات الشرق الأوسط تحديات كبيرة، ربما أكثر من الاختصاصات الأخرى. ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تعرّض الانضباط العلمي إلى "عقلية التحزب والضغوط لاتخاذ موقف معيّن"، مما يعكس مدى انخراط هذا الاختصاص في النقاشات السياسية.
يساء فهم الباحثين الذين يعبرون عن انتقادهم للحرب الإسرائيلية على غزة بشكل متزايد على أنهم فاعلون لديهم أجندة سياسية، ويتم التقليل من قيمة تحليلاتهم المستندة على أسس سليمة من خلال اعتبارها ذات صبغة أيديولوجية. كما تتزايد حملات التشهير والهجمات الشخصية، ويؤدي ذلك غالبًا إلى محاولات الإضرار بالمسيرة المهنية الأكاديمية؛ كما هو الحال مؤخرًا على سبيل المثال في قضية "فوردرغيت" بالوزارة الاتحادية للبحث العلمي.
وهذا ما يجعل النقص الواضح والمتزايد بالتمثيل في الأبحاث الألمانية بالشرق الأوسط أكثر جدية. شكلت، على مدى ثلاثة عقود حتى الآن، "Deutsche Arbeitsgemeinschaft Vorderer Orient (DAVO)" أيّ الرابطة الألمانية لدراسات الشرق الأوسط للبحوث المعاصرة والتوثيق التي تُعرف اختصارًا باسم "دافو"، جسرًا بين الأبحاث حول "الشرق الأوسط" والجمهور الألماني. وخلال هذه الفترة، كانت الرابطة موطنًا أكاديميًا للعديد من الذين يقودون مناقشات حول الاضطرابات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لقد كان هؤلاء من حملة الجوائز، ومن الذين نظموا لجان وحلقات نقاش في المؤتمرات العلمية والسياسية، وتمكنوا من خلال التزامهم الشخصي وبدون كلل من استقطاب العلماء الشباب من أجل إنعاش المنظمة.
لكن العديد من هذه الأصوات تبتعد الآن عن رابطة "دافو"، بما في ذلك بعض كاتبي هذه الرسالة. ليس لأننا لم نعد نرى هدفًا في مجتمع مهني قوي. ولكن لأن آمالنا في إمكانية تحقيق التحولات المطلوبة داخل الهياكل القائمة آخذة في التلاشي. بل يبدو أن الأحداث التي شهدتها الأشهر الأخيرة أثبتت ذلك لهؤلاء الذين لم تقدم لهم الرابطة المتخصصة في "البحوث المعاصرة حول الشرق الأوسط" مجتمعًا فكريًا ملهمًا وشاملًا، بسبب اسمها وهياكلها وتراتبيها.
الجمود في زمن التغيير
إنها لمفارقة: بينما تعمل الجمعيات العلمية في جميع أنحاء العالم على جعل منظماتها أكثر شمولاً وشفافية وتعددية في التخصصات، يبدو أن منظمة "دافو" لاتزال متشبثة بنموذج لا يتماشى مع العلوم المعاصرة.
ويتعلق هذا الأمر بقضايا أساسية: مسمى الرابطة الذي يتضمن كلمة "Orient" أي الشرق التي عفا عليها الزمن، على سبيل المثال، ويتم انتقادها على مستوى دولي وتنفّر العديد من الأكاديميين الشباب والشابات الذين لا يريدون ربط أنفسهم بتسمية استعمارية واستشراقية، كذلك توجه البرنامج متعدد التخصصات، الذي يتم التأكيد عليه كلاميٍا، ولكن بالكاد يتم تطويره عمليًا. وأخيرًا، هياكل المنظمة قليلة التنوع وقائمة على عمليات صنع قرار شديدة المركزية وقليلة الديمقراطية.
إن الأزمة التي أدت إلى كتابة هذا المقال تدور حول صراع ثقافي وسياسي في آنٍ واحد. بيد أن السؤال المطروح هو: "من بإمكانه تمثيل البحوث الألمانية في الشرق الأوسط بشكل مناسب في تنوعها التخصصي والمرتبط بتنوع السير الذاتية من جهة، ومصالحها العلمية والسياسية من جهة أخرى؛ وما ينبغي أن يبدو عليه هذا التمثيل في المستقبل؟".
في دائرة الاشتباه: نقد تسييس الدراسات حول المسلمين في أوروبا
المسلمون في بلاد الغرب يتعرضون لرصد مكثف من قبل الباحثين الغربيين. يعتقد باحثون غربيون -من مختلف التخصصات- مشاركون في مراقبة حياة المسلمين في الغرب بأنهم قادرون على سبر أغوار المسلمين وكشف حقيقتهم الكامنة، رغم عدم وجود علاقة مباشرة بين مجالات بحث معظمهم والإسلام. ولكن هل يتم التعامل مع أُطر ونتائج تلك الأبحاث بالحد الأدنى من النقد؟ الصحفي الألماني جوزيف كرواتورو والتفاصيل لموقع قنطرة.
يتطلب الاستقطاب السياسي واستغلال العلوم كأداة والهجمات المتزايدة على الحرية الأكاديمية إعادة التفكير في المجتمعات العلمية المتخصصة. إن الانكفاء إلى موقف أكاديمي "موضوعي" مفترض يعكس الفشل في إدراك حقيقة أن التخصصات ذاتها التي تمثلها منظمة "دافو" قد أصبحت منذ فترة طويلة بيادق في المعارك الثقافية وصراعات الهوية السياسية.
وفي هذا المناخ المتوتر، يُعتبر قرار عدم الظهور علنًا كصوت أكاديمي قوي للمساهمة في تشكيل الخطاب الاجتماعي ودعمه مهنيًا، في نهاية المطاف، موقفًا سياسيًا أيضًا. ومع ذلك، تجد منظمة "دافو" نفسها، في هذا السياق تحديدًا، في موقف مقاوم للتغيير. فالرغبة في المزيد من المشاركة والشفافية والانفتاح تُواجَه بالمنع. ولا يُنظر إلى أولئك الذين يطالبون بالتغيير كقوى دافعة، بل كمثيري مشاكل – وذلك على مدار سنوات عديدة.
الخوف من فقدان السيطرة
تشير الأحداث الأخيرة إلى هذا الأمر بشكل خاص، منها؛ محاولة إنشاء لجنة للحرية العلمية (GfW) داخل رابطة "دافو"، على غرار الجمعية البريطانية لدراسات الشرق الأوسط أو جمعية دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة، مما أدى إلى انقسام أبحاث الشرق الأوسط الألمانية. وقد بذلت مجموعة من الأكاديميين/ات الشباب، من ضمنهم الموقعون على هذه الرسالة، جهدًا شخصيًا كبيرًا في دعم إنشاء مثل هذه اللجنة.
وبدعم من الزملاء والزميلات في الولايات المتحدة الأمريكية، حصل اقتراحهم على ترحيب كبير داخل الجمعية قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، خاصة من الشباب المختصين/ات في دراسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية الذين يعملون بشكل غير مستقر، وكذلك الأشخاص من ذوي البشرة الملونة (BPoC)، الذين غالبًا ما يجدون أنفسهم في مرمى حملات التشهير وتسريب بياناتهم الشخصية بشكل خاص. وفي الوقت الذي يتعرّض فيه باحثو الشرق الأوسط للاستهداف بالكراهية، رأى الكثيرون في هذه المبادرة إشارة مهمة كمساحة آمنة محتملة لتضامن الزملاء معًا والوقوف بفاعلية ضد تقييد العمل الأكاديمي.
وقد تركت المبادرة تأثيرًا محفزًا على العديد من الباحثين الشباب، بينما عارضها مجلس النادي من العلماء المرموقين معتبرين لجنة الحرية العلمية (GfW) وسيلة لنزع السلطة منهم. وبدلاً من الدعم المبدئي لإنشائها، كما تقرر في الاجتماع العام لعام 2023 في فيينا، ركز المجتمع المهني قبل كل شيء على العقبات البيروقراطية؛ من خلال الآراء القانونية المثيرة للجدل، واللعب على عامل الوقت، وبروتوكولات الاجتماعات الانتقائية والمنحازة، فضلاً عن سياسة المعلومات تجاه الأعضاء التي تلونت بقوة بمصالح مجلس الإدارة.
يجب بقاء جامعات ألمانيا ساحات حوار بلا تحيز
نقاشات صراع الشرق الأوسط بجامعات الغرب معقَّدة وخاصةً بألمانيا يُضطَر المتناقِشون لإجراء عملية موازنة حساسة بين التعاطف مع ضحايا المعاناة في كل من فلسطين وإسرائيل. تَتَبُّع الباحث يانيس يولين غريم لموقع قنطرة.
في صيف عام 2024، تصاعد الصراع في مؤتمر "دافو". وأصبح اجتماع الأعضاء مسرحًا لنقاش حاد حول استقلالية اللجنة المقترحة. ومن أجل إعاقة استقلالية لجنة الحرية العلمية (GfW)، حاول المجلس التنفيذي لـ"دافو" مسبقًا تفادي مناقشة الاقتراح مستخدمًا حيلة تعتمد على مراوغة قانونية، ووصل الأمر إلى أن المجلس هدد بالاستقالة مما قد يجعل "دافو" عاجزة عن العمل.
ولم يتم التوصل في نهاية المطاف إلى تصويت إلا تحت ضغط من الزملاء والزميلات بعد اجتماع استمر عدة ساعات. ومع ذلك، نتيجة هذا التصويت لم تتمكن من إنهاء حالة الشد والجذب. ففي حين انتهى الاجتماع العام في البداية باعتقاد خاطئ بأن التصويت على تأسيس لجنة الحرية العلمية (GfW) قد فشل، اتضح فيما بعد أن النصاب القانوني اللازم لذلك قد تحقق، على عكس تأكيدات مجلس الإدارة. ومع ذلك، لم يتم الاعتراف بهذه النتيجة الديمقراطية رسميًا إلى الآن.
يعكس بروتوكول الاجتماع العام دعمًا لوجهة نظر مجلس الإدارة فقط، في حين يتم تقويض نتيجة التصويت من خلال رأي قانوني جديد. وتعتمد الاستراتيجية ذاتها منذ سنوات، إذ تُعرقل المقترحات أو تُؤجل، بينما تُتخذ القرارات الحاسمة في نطاق محدود بين دائرة صغيرة من الأعضاء، مما يترك غالبية الأعضاء غير مدركين غالبًا لما يجري بالفعل.
قصور في التمثيل والديمقراطية
في نهاية المطاف، يُعد الخلاف حول إنشاء لجنة للحرية الأكاديمية عرضًا من أعراض الأزمة الأعمق، والافتقار الواضح للهياكل الشاملة والثقافة الديمقراطية في البحوث الألمانية للشرق الأوسط. إذ يواجه الباحثون المخضرمون، الذين يعملون في مناصب قيادية، ويُنظر إلى دورهم الأكاديمي في المقام الأول من حيث الخبرة المتخصصة، جيلًا شابًا يرى نفسه مسؤولاً عن المشاركة والتفاعل مع الحراك الاجتماعي.
لذا، يجب فهم الجدل الدائر حول لجنة الحرية العلمية (GfW) من هذا المنظور. فبدلاً من النظر إلى اللجنة كجهد بنّاء لمعالجة إحدى أكثر القضايا إلحاحًا في عصرنا، يتم التعامل معها كتهديد لسلطة مجلس إدارة "دافو"، دون الاعتراف بالدور الديناميكي والمسيّس الذي يمكن أن تقدمه اللجنة كحل عملي.
كما أن مجلس الإدارة يدعم حرية العلم، ولكن بشرط ألا يؤدي ذلك إلى إعادة تنظيم الرابطة. ومع ذلك، كان من الممكن اعتبار التزام الأعضاء بمثابة إشارة إيجابية تُظهر أن العديد من الباحثين لا يزالون يرون في هذه اللجنة ممثلة لمصالحهم، ويرغبون في المساهمة في تشكيلها.
من يتحدث باسم دراسات الشرق الأوسط؟
يعكس الحصار الذي يفرضه مجلس إدارة "دافو" خوفًا واضحًا من التغييرات التي طال انتظارها. فالهياكل الإدارية التي تعتمد على اتخاذ القرارات بشكل مركزي وبقدر ضئيل من الشفافية لا تخدم مصلحة العلم. لقد تغيرت الصورة النمطية لدراسات الشرق الأوسط، ويجب على المنظمات المتخصصة مثل "دافو" أن تتصالح مع هذا الأمر.
يقدم الصراع في "دافو" مثالًا حول الأسئلة الأشمل التي يجب على الأوساط الأكاديمية أن تطرحها على نفسها في وقت تتضاءل فيه مساحات النقاش: هل تريد أن تكون مساحة لا تتسامح فقط مع التنوع وتعدد التخصصات، بل تعززهما بنشاط؟ هل تريد أن تصبح نموذجًا للإبداع الديمقراطي المشترك الذي يلهم المجتمعات المهنية الأخرى؟ هل تريد أن تُضفي عمقًا على الخطاب الاجتماعي من خلال الخبرة المهنية والتدخل حيث تُقيد القوى الرجعية بشكل متزايد مساحة العلوم النقدية؟.
لقد شكلّت الحرب في غزة حافزًا لهذا الصراع؛ إن عدم قدرة أو عدم رغبة قطاعات واسعة من باحثي الشرق الأوسط في التدّخل في الخطاب الألماني أحادي الجانب وانتقاد النظرة المشوهة لواقع الصراع قد خيب آمال الكثيرين، لا سيما بين الأكاديميين الشباب. وعلى هذه الخلفية، فإن الجدل الدائر حول اللجنة هو القشة التي قصمت ظهر البعير.
الحاجة إلى نماذج جديدة
تشهد المراكز البحثية المتعلقة بالشرق الأوسط في ألمانيا انقسامًا أكثر مما كانت عليه منذ فترة طويلة. يشعر البعض أن وجهة نظرهم عن "دافو" كمنظمة غير ديمقراطية واقصائية قد تأكدت. والبعض الآخر لم يعد يرى أي احتمال لتغيير الاتجاه داخل الهياكل الحالية ويغادرون المنظمة، فيما يزال آخرون، حتى بعد المعارك المؤلمة في الأشهر الأخيرة، يواصلون حملتهم من أجل التغيير داخل "دافو" ويركزون على إصلاح الجمعية بدلاً من مغادرتها.
هناك شيء واحد واضح؛ سيكون من الصعوبة بما كان العودة إلى الوضع السابق. هناك حاجة إلى مقاربات وهياكل ونماذج جديدة قادرة على مواجهة تحديات عالم العلوم الآخذ في العولمة، الذي يزداد استقطابًا وتهديدًا سواء داخل رابطة "دافو" بعد إصلاحها أو في صورة مختلفة.
يانيس يولين جريم، ينس هانسن، سيفيل شاكير-كيلينتشاوغلو، كوثر القاسم، نيلس ريكن، رالف رودولف، إلياس صاليبا، هدى صلاح، بينيامين شوتسه، كلارا اوغوسته زوس، سارة فيسل، يان فيلكنز.
هذا المقال تمت ترجمته من النص الأصلي باللغة الألمانية.