من ثقافة الحرب الى ثقافة السلام
تؤكد أعمال العنف الأخيرة في أفغانستان أن نشوب صراع جديد بعد فترة سلام قصيرة في البلدان التي أنهكتها الحروب يعود الى حد ما إلى عدم معالجة ماضي الحروب. أفغانستان بدأت تتخذ خطوات ذاتية لمعالجة هذه المشكلة بمساعدة الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي. تقرير كتبته سيتا ماس
أدى اندلاع العنف الذي استمر عدة ساعات وهز مدينة كابول في التاسع والعشرين من مايو / أيار 2006 إلى تحطيم الصورة الوهمية التي كانت الأسرة الدولية قد رسمتها عن عاصمة أفغانستان الآمنة. وكانت وراء هذا العمل الغاشم حادثة سير سببتها قافلة من المركبات العسكرية الأمريكية في ضاحية من ضواحي كابول وراح ضحيتها العديد من الناس.
تعتبر هذه الحادثة نقطة تحول جديدة لأسباب عدة، منها أن أعمال العنف انصبت هذه المرة على المنظمات العالمية. كما لاقت حكومة الرئيس كرزاي لأول مرة نقدا مباشرا على عدم كفاءتها. وإصابة سكان مدينة كابول بصدمة أيقظت أهوال الحرب عندهم فجأة بعد أن كانوا قد نسوها.
وعلى الرغم من أن درجة العنف كانت جديدة، إلا أن نماذج أعمال العنف في الماضي تكررت مرة أخرى. وهنا يطرح السؤال نفسه: لماذا تؤدي الإضطرابات المحلية بهذه السرعة إلى أعمال عنف قوية؟ ولماذا لا يزال الشعب الأفغاني - الذي سئم الحرب - يميل إلى العنف؟
دعم "العدالة الانتقالية" عالميا
أثبتت التجارب أن البلاد التي خرجت لتوها من حرب تظل مهددة بالوقوع من جديد في صراعات ما لم تنقطع بالفعل "الدورة الحربية المتكررة"، أي ما يسمى بـ"شرَك الصراع". ومن هذه التجارب نتعلم أن معالجة ماضي الحروب ضرورية حتى يتحقق السلام الدائم. ولذلك ينبغي تحديد أسباب الصراع الذي أدى إلى اندلاع الحرب بقصد استبدال "ثقافة الحرب" الحالية بـ"ثقافة السلام".
لقد استخدمت الأمم المتحدة عام 2004 مصطلح "العدالة الإنتقالية" كآلة لعلاج أحداث الحرب داخل المجتمع، وهي قضية معقدة تتضمن معالجة الماضي وتقصي الحقائق وتوثيق الانتهاكات وتقديم الجناة للمحاكمة وتعزيز المصالحة الوطنية.
ولهذا الغرض خصيصا أُنشئت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لتقصي جرائم الحرب والفظائع الجماعية أو انتهاكات حقوق الإنسان. وتولت هذه المحكمة التي تعرف عالميا بـ"ICC" مهامها في أول يوليو / تموز عام 2002. وينحصر اختصاص هذا الجهاز القضائي على جرائم الحرب التي حدثت بدءا من هذا التاريخ.
أما الجرائم التي ارتكبت قبل ذلك فليست من اختصاص هذه المحكمة، الأمر الذي يجعل المحاولات الجنائية في أفغانستان في موقف حرج. ذلك لأن قضاء المحكمة الجنائية الدولية الذي انضمت إليه أفغانستان لا يمتد إلى الأعمال الإجرامية التي اقتُرفت أثناء الحرب الأفغانية الطويلة ما بين عامي 1978 وحتى 2001.
وتساند الأمم المتحدة والمجموعة الدولية اللجنة الأفغانية المستقلة لحقوق الإنسان (AIHRC) في الوصول إلى مخرج من هذه الورطة، وقد أقرت الحكومة الأفغانية واللجنة الأفغانية المستقلة لحقوق الإنسان أثناء مؤتمر عٌقد في يونيو / حزيران 2005 في لاهاي تحت رعاية الإتحاد الأوروبي وبساطة من الأمم المتحدة على خطة عمل "للسلام والمصالحة والعدالة في أفغانستان".
ميثاق أفغانستان
وتنص خطة العمل هذه على إعداد قضية أفغانية خاصة للعدالة الإنتقالية خلال فترة تأهيلية لمدة ثلاث سنوات. وكانت حكومة كرزاي قد وافقت على خطة العمل في ديسمبر / كانون الأول 2005.
وفي إطار مؤتمر لندن الخاص بأفغانستان 31 يناير / كانون الثاني 2006 تم التوقيع على خطة عامة لمدة خمس سنوات لتنفيذ المرحلة الثانية لإعادة إعمار أفغانستان، وهذه الخطة تعرف بـ"ميثاق أفغانستان". وقد نص هذا "الميثاق" على أن خطة العمل هي أحد المعايير الهامة لتنفيذ خطة الإعمار.
ولكن الإعلان الرسمي من قبل الرئيس كرزاي لخطة العمل والذي كان متوقعا في ربيع 2006 لم يتم بعد. وهذا الإعلان الرسمي يعتبر من الضروريات ليفرض على الوزارات المهمة (مثل وزارة العدل) والسلطات المحلية التعاون من أجل هذا العمل. وبدلا من ذلك تشكلت مقاومة سياسية من رؤساء المجاهدين القدامى الذي يحتلون مراكز سياسية رفيعة ويخشون أن يمثلوا كجناة أمام محكمة استثنائية. ولأن الرئيس كرزاي في حاجة إلى دعم بعض هؤلاء الساسة من المجاهدين كان الوضع الأمني الذي ساء في أفغانستان ذريعة له على تأخيير إعلان خطة العمل رسميا.
تردد الرئيس كرزاي يرتبط بالجدل الأساسي حول الأولويات التي تحدد عملية إعادة الإعمار منذ عام 2002. فهل يعطي الإستقرار السياسي أولوية على العدالة، أي ملاحقة مجرمي الحرب؟
فقد حدث مؤخرا تغيير في الرأي لدى بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة في أفغانستان "أوناما"، حيث كان المفوض السابق لدى الأمم المتحدة الأخضر الإبراهيمي يتفق مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي على أولوية الإستقرار ثم العدالة. أما السيد توم كونجز المبعوث الألماني الخاص لدى الأمم المتحدة منذ مارس / آذار 2006 فيتفق مع مطالب منظمة حقوق الإنسان العالمية التي تقول بـ"الإستقرار والعدالة في آن واحد".
وزادت اللجنة الأفغانية المستقلة لحقوق الإنسان من حدة الجدل بمطلبها الذي ينص على أن "لا سلام بدون عدالة". وتحت قيادة السيدة سيما سمار وعضوية السيد أحمد نادر نادري أعطت اللجنة الأولية القصوى لملاحقة مجرمي الحرب.
كما رفضت اللجنة العفو وعدم الملاحقة لمتهمين بعينهم رفضا باتا، وهما مطلبان كان يروج لهما معسكر المجاهدين. وتحاول اللجنة بهذا الموقف المتصلب الضغط على الرئيس كرزاي المتردد. وبررت موقفها المتشدد بالأحداث العالمية التي أثبتت أن السلام الدائم لا يتم إلا بمعاقبة مجرمي الحرب. ولهذا ترى اللجنة ضرورة في معرفة كيفية تشكيل المحكمة الإستثنائية في المستقبل ومتى ستبدأ عملها بالفعل.
ظروف غير ملائمة لـ"العدالة الانتقالية"
وينصب الجدل حول الأولويات على المسألة الأساسية، ألا وهي إقامة التوازن بين العنصرين الجوهريين لقضايا العدالة الإنتقالية، وهما المعاقبة القانونية والمصالحة، ولا بد من تهيئة الظروف الأساسية لهذه القضايا في أفغانستان أولا. إن معالجة الصدمات النفسية بسبب الحرب قد يسهم في الحد من تفاقم أعمال العنف سابقة الذكر. ولأن كل أسرة أفغانية تعاني من عواقب الحرب فإنه ينبغي السعي إلى خلق مجال يساعد على معالجة تلك الصدمات.
وتتطلب هذه المعالجة تغييرات أساسية ورد ذكرها في خطة العمل، ألا وهي إصلاح قطاع القضاء بأكمله وأن تصبح المؤسسات الحكومية خاضعة للرقابة وتتمتع بالثقة والكفاءة والشفافية. وهذا يعني أن النظام السياسي لا بد أن يتخلص من الرشوة والمحسوبية والعجز وأن يكون محميا من تدخل ذوي السلطان حتى الآن. وبقدر أهمية وصواب هذا الإصلاح يظل هناك قدر من الشك في إمكانية تنفيذه سياسيا.
جهاز قضائي فاسد
وفي هذه التغييرات ظهرت مشكلة جوهرية مؤسساتية بصورة واضحة وهي أن المواطنين لا يثقون في الجهاز القضائي الفاسد ويطالبون بمعاقبة مجرمي الحرب. وإذا ما تساءل المرء عن كيفية ملاحقتهم جنائيا في مثل هذه الظروف، فسوف يكون الجواب أن المحاكم الحالية عاجزة ولا بد من تأهيل جيل قضائي جديد. وحتى يتم ذلك فقد تتأخر تلك القضايا الجنائية إلى أجل غير مسمى، وهو أمر غير محمود العواقب فقد يموت الضحايا أو الشهود أو المجرمون.
مشكلة القانون المعمول به تتسم بمثل هذا التعقيد، ولذلك فإنها لا تكاد تناقش علنا. أما في خطة العمل فقد تم الإتفاق على تسوية سياسية، ألا وهي مقاضاة مجرمي الحرب بما يتفق مع "مبادئ الإسلام والقانون الدولي والعدالة الإنتقالية". ولا يزال هناك خلاف حول إمكانية توافق هذه المعايير مع بعضها البعض.
وفي حوار مع ممثلي اللجنة الأفغانية المستقلة لحقوق الإنسان تبين أنهم يتعاملون فقط وفقا للقانون "الوضعي" الدولي. ولكن معظم المواطنين المتعصبين يطالبون بمقاضاتهم طبقا للشريعة الإسلامية التي تطبق عقوبة الإعدام. وبقية المواطنين الليبراليين يطالبون بمعاقبتهم طبقا للقانون الوضعي والشريعة الإسلامية معا على الرغم من أنهم لا يدرون كيفية تطبيق ذلك. أما في الأرياف فينتشر تقليد قضائي ثالث وهو عبارة عن أعراف عديدة غير مكتوبة. وهذه الأعراف قد تصبح ذات أهمية إذا أريد التكفير عن جرم حربي قليل الأهمية أو كانت هناك محاولة صلح بين المجرم والمجني عليه.
وهكذا يتضح أنه لا تكاد توجد مشكلة يمكن البت فيها أمام المحكمة الإستثنائية التي تطالب بها اللجنة الأفغانية المستقلة لحقوق الإنسان. وهنا يتساءل المرء: على أي تشريع ستعتمد المحكمة في عملها؟ وكيف يكون تأثير هذا التشريع على اختيار هيئة المحكمة الإستثنائية؟
وهل ينبغي أن تكون المحكمة مكونة من قضاة أفغان (لا يزالون في طور التدريب) أم من خليط عالمي؟ وفي الحالة الأخيرة لن تستطيع المحكمة البت في القضايا طبقا للشريعة الإسلامية. وأخيرا هل يمكن للمواطنين تقبل هذه الأحكام على أنها أحكام عادلة أم أنهم سيرفضونها على أنها متحيزة من قبل "قضاء أصحاب السلطة"؟
مشكلة تقصي الحقائق
إن الحصول على أدلة إثبات جنائية تهم القضاء يعد أيضا مشكلة من المشاكل الأساسية، ولذا فإن خطة العمل تتضمن بندا للبحث عن الأدلة و"تقصي الحقائق" وفي البند يتم تسجل الجرائم وأسماء الضحايا والشهود والمجرمين ومن ثم تحفظ هذه المعلومات في أحد المراكز. ولكن الظروف ليست ملائمة في أفغانستان لهذا الموضوع، حيث تقل الوثائق المكتوبة بسبب الحرب.
وبهذا يصبح الإعتماد على أقوال الشهود أمرا حتميا، مع أن هذه الأقوال لن تساعد على إثبات كل شيئ. وعلى سبيل المثال توجد هناك صعوبة في إعادة سلسلة الأوامر التي تلقاها المقاتلون من القادة أثناء بعض مراحل الحرب. وهذا يزيد من احتمال تبرئة بعض المجرمين المعروفين لقلة الأدلة الواضحة.
كما أن هناك عوائق سياسية اجتماعية تهدد نجاح المشروع برمته، ألا وهي أن الوحدة التي أُكد عليها في خطب الأعياد ليست موجودة بالفعل. كما أن المجتمع الأفغاني يعتبر منقسما من الناحية العرقية ومنقسما أيضا من الناحية السياسية إلى أنصار حكومات حربية متعددة سابقة. وهذه الحكومات كانت تحارب بعضها البعض على مدى ثلاثة وعشرين عاما.
وعلاوة على ذلك فإن المجتمع منقسم من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والفكرية بين الذين بقوا في البلاد وبين الذين عادوا من المنفى ويمتلكون مستوى تعليميا أفضل.
هذه الإنقسامات تعكس نفسها على الإدراك الحسي لماضي الحرب ضمن كل مجموعة، فالطائفة السياسية الإجتماعية خلقت لنفسها "أسطورة جماعية" من أحداث الحرب.
وبناء على الخبرات الشخصية المكتسبة من الحرب تستطيع ألمانيا المساعدة في معالجة المسألة بطريقتين، تقوم إحداهما على دعم الحوار بين المجموعات المبعدة في إطار البحث عن الحقائق والتوثيق، والأخرى على المساعدة في الوصول إلى إجماع إجتماعي بخصوص وقائع الحرب وتقييم ماضيه وذلك بتأييدها لإنشاء لجنة مؤرخين أفغان مستقلين.
بقلم سيتا ماس
ترجمة عبد اللطيف شعيب
حقوق الطبع قنطرة 2006
الدكتورة سيتا ماس مختصة بالشؤون الآسيوية وتعمل حاليا لدى مؤسسة العلوم والسياسة في برلين.
قنطرة
الحاجة إلى المزيد من الشفافية
هناك مؤشرات بأن الدول المانحة والمنظمات الإنسانية قد بدأت تفقد اهتمامها بأفغانستان، وذلك بعد أن تحققت ولو على الورق الأهداف التي وضعتها اتفاقية بيترسبيرغ (تيمنا بهذا الموقع الكائن بالقرب من مدينة بون) في ديسمبر/ كانون الثاني 2001 . ولكن سيحسم في الأشهر المقبلة السؤال حول ما إذا كانت عملية إعادة إعمار البلاد ستتسم بالنجاح على الأجل الطويل أم لا.
الأمل المفقود
يرد من أفغانستان قرابة 80 بالمائة من الحاصل العالمي للأفيون والهيرويين. لهذا السبب تسعى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا لمنع تدفق هذه المخدرات إلى دول الغرب ابتداء من الحدود المشتركة لأفغانستان مع طاجكستان. لكن هذا المشروع كفيل بأن يكبد هذا البلد الذي يرزح تحت طائل فقر مدقع عبئا كبيرا. مقال بقلم توبياس أزموت.
الصراع السياسي على السلطة في أفغانستان
انتخاب السياسي الطاجيكي يونس قانوني رئيسا للبرلمان الأفغاني دخل الصراع السياسي في أفغانستان مرحلة جديدة لم تشهد لها البلاد مثيلا من قبل. سلطة الرئيس حامد كرزاي المطلقة معرضة الآن للتحدي من قبل رجل لا ينتمي فقط الى قبائل الباشتون فحسب وانما يتسم أيضا بالإعتدال. مقال بقلم سعيد موسى صميمي حول هذا التطور الجديد.
www