نظام 30 يونيو يدشن عاصمته الجديدة
تظل الثورة المضادة، ثورة، بمعنى من المعاني. هي ليست بالضرورة مقاومة تسعى إلى إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه، بل تتفق مع الثورة المهزومة على أن ثمة جديداً ينبغي تشييده على القديم المنهار، وإن بوسائل مختلفة، وعلى الأغلب في الاتجاه المعاكس.
كَون نظام 30 يونيو في مصر مؤسَّساً على ثورة مضادة، فليس من المستغرب هوسه بشعار "الجديد"، ممثلاً في قناة السويس الجديدة والجمهورية الجديدة والعاصمة الإدارية الجديدة، وسلسلة المدن التي تُضاف إلى اسمها صفة الجديد، على مثال استحداث عاصمة صيفية، باسم "العلمين الجديدة". وتتأرجح دوافع حمى الجِدّة هذه بين إدراك ذاتي بخواء أيديولوجي يسم منظومة الحكم وينبغي التغطية عليه، وبين طاقات جذرية عمياء تحتاج إلى تفريغ.
بعد أكثر من عقد في الحكم، يفتتح عبد الفتاح السيسي فترته الرئاسية الثالثة بمراسم التنصيب في العاصمة الإدارية الجديدة، وبأداء اليمين الدستورية أمام مجلس النواب في مقره الجديد هناك، ليكون ذلك بمثابة تدشين رسمي لانتقال هيئة الحكم ومؤسساتها إلى العاصمة المحرومة من الاسم، والمكتفية بتوصيفها الوظيفي.
القاهرة المكتظة، مدينة الثورة المهزومة، تلك التي دارت فيها معركة شوارع وأجساد من أجل اختراق الساحات العامة، شبراً شبراً، وتحريرها وامتلاكها، بثمن فادح من دم. وفي مقابلها، العاصمة الجديدة هي مدينة الثورة المضادة، المتحصنة بأسوارها بعيداً من الجماهير.
وكما نراها، بالموكب الرئاسي المكون من تشكيلات دراجات الشرطة البخارية وقافلة السيارات المصفحة السوداء، هي مدينة خالية معقمة بلا مارة، وشبه مهجورة من دون سكان. تلك الجنة الإسمنتية الملونة بأصفر الصحراء وبسواد الأسفلت، تبدو وكأنها نقطة تلاقي طرق سريعة، وغير مؤهلة للمشاة عمداً. حقاً، هي عاصمة تليق بجمهورية جديدة بلا جمهور.
مشاريع السيسي “العظيمة" تثقل كاهل فقراء مصر
يعمل النظام المصري العسكري بنشاط على تحديث الطرقات والمواصلات والصناعة وبناء عاصمة إدارية فاخرة للطبقة العليا. طفرة بناء ممولة بقروض تدفع مصر إلى فخ الديون؟ تعليق سفيان فيليب نصر لموقع قنطرة.
العاصمة الجديدة هي مدينة الثورة المضادة
قبل خمسة أعوام، افتتح السيسي مسجد الفتاح العليم، والكاتدرائية الأكبر في الشرق الأوسط، ولم يعد هناك المزيد لافتتاحه في العاصمة الجديدة، لذا اكتفى الرئيس بالإنجاز الوحيد الممكن، أي رفع العلم المصري على أكبر سارية في العالم. لم تكن هذه المرة الأولى، فبعد ثورة يناير، وفي شهر أكتوبر من العام 2011، رفع المجلس العسكري العلم على أعلى سارية في العالم أيضاً، وكانت الدعاية الحكومية قد وعدت بدخول مصر موسوعة غينيس للأرقام. إلا أن العلَم اختفى بعد بضعة شهور، من دون تفسير، والهيكل المعدني الذي شكل ساريته بقي كواحد من أكبر أبراج الاتصالات في القاهرة.
في المرة الأولى، رُوّج للعلم الأطول على أنه تخليد لثورة يناير، أو بالأحرى تفريغها من معناها، وفي المرة الثانية، يمكن التخمين أنه ختم على انتصار ثورتها المضادة. وفي الحالتين، تغطية على إفلاس سياسي، يلجأ إلى البلاغة الفقيرة لصيغة أفعل التفضيل، المصنوع في حالتنا من قضبان معدنية وخيال مجدب.
أمام نواب البرلمان، يلقي الرئيس كلمة باهتة، لها وقع فصاحة المدارس الإعدادية، سارداً برنامجه للأعوام الستة المقبلة في سبع نقاط، هي تكرار حرفي للخطاب الرسمي في الفترتين السابقتين. لا وعود ولا أعذار ولا اعتذار عن التأزم الاقتصادي المتتابع. بشكل موجز، تشير الكلمة إلى الظروف الدولية والإقليمية المضطربة، ومن ثم إلى عالم موصوف بالجديد، قيد التشكل. لا يجانب الرئيس الصواب، في إشارته تلك. بالفعل، ثمة نظام إقليمي جديد يتكون، هو أيضاً ثمرة الثورات المضادة، أو بالأحرى حاصل جمعها، نظام ما بعد الربيع العربي.
حين تتعين الأيديولوجيا في صورة مادية، أي في مبانٍ وعمران، فإنها تصل إلى أقصى درجات تصلبها، وأقصى درجات حيويتها أيضاً. تصير مكاناً وروتيناً يومياً. وبانتقال الرئيس، أمس، إلى قصره الرئاسي الجديد، تكون الثورة المضادة قد أكملت دورتها، لكن بلا أيديولوجيا تسكن مباني عاصمتها الجديدة.
شادي لويس
حقوق النشر: المدن 2024
هذا المقال نشر أولا في صحيفة المدن.
موقع قنطرة ينشر المقال بالاتفاق مع الكاتب.
شادي لويس، كاتب وأخصّائي نفسي مصري، مقيم في لندن، مهتمّ بتحليل البنية السيكولوجية للخطاب السياسي في المنطقة العربية.