الكنَاوَة بين الفن والطقوس الدينية
منذ أنْ سافر كل من الفنانين راندي ويستون، جيمي هندريكس وكات ستيفنس إلى جنوبي المغرب للحج عند الإخوان الكنَاوَة، ومنذ أنْ اشترك كل من الفنانين بوب مارلي، بيتر غابرييل وكارلوس سانتانا بعزف الموسيقى مع الإخوان الكنَاوَة، مذذاك تعرَّف العالم المهتم بالموسيقى على الأسلوب الساحر لهارمونيات الباص والطبول المتعددة الإيقاعات التي يستخدمونها. بالمقابل فإنَّ الطقوس والأساليب العلاجية للإخوان الكنَاوَة المنحدرين من غربي السودان تكاد تكون غير معروفة.
وعلى الرغم من ربط كل مغربي لكلمة "كنَاوَة" بـ الأسود" في البداية، إلا أنَّه لم يعد كل الكنَاوَة من السود منذ زمن. ففي هذه الأيام، وبسبب الاختلاط والاندماج، يمكننا أنْ نقابل كنَاوَة ذوي بشرة بيضاء إلى جانب الكناوة السود.
فالكناوة ليست مجموعة إثنية، بل شهادة على تأثير ثقافة غربي إفريقيا على المغرب. ولا يوجد أي مكان في المغرب تتمثل فيه ما يسمى "بالأفرَقَة""Afrikanism" بشدة كما هو الحال في مدينة الصويرة على الساحل الجنوبي للمغرب.
الصويرة بوتقة الانصهار
حوالي العام 1770 الميلادي، كلّف السلطان محمد بن عبد الله المهندسَ المعماري الفرنسي تيودور كورنو Théodore Cornut بإعداد مخططٍ لمدينة الصويرة على غرار المدن الأوروبية. وكان كورنو قد أُسِرَ في إحدى الرحلات من قِبَلِ قراصنة البحار، الذين سلموه غنيمةً للسلطان.
وبمساعدة كورنو وسّع السلطان مدينة الصويرة لتصبح أكبر المدن التجارية في مملكته، ورَبَطَ القوافل القادمة من تيمبوكتو مع خطوط التجارة البحرية المؤدية إلى أوروبا وإلى العالم الجديد. ولم يأتِ من إفريقيا العاج، وغبار الذهب، وريش النعام وحسب، بل العبيد أيضًا.
استضافت مدينة الصويرة في عصرها الذهبي وكالات تجارية من كل أنحاء أوروبا، وسبع عشرة قنصليةً وآلاف اليهود، الذين كانوا يضمنون أفضل العلاقات التجارية في كل العالم. وفي بوتقة الانصهار هذه، نَظَّمَ العبيد السود أنفسهم في الإخوان الكناوة ومزجوا طقوسهم الدينية بتأثيرات أمازيغية وبالتقاليد العربية الصوفية.
الحضْرَةَ، ليلة التجلي
نبحث عن المعلِّم عبد الله غينيا Abdellah Guinea لنحصل منه على مزيدٍ من المعرفة. نتلمس طريقنا في الظلام إلى منزله، صاعدين درجًا شديد الانحدار، نتكئ على طول جدارٍ مجاورٍ له. لدى وصولنا إلى أعلى نقف على دماء. ثمة عنزة كبيرة مذبوحة ومعلقة على الباب. كانوا قد أراقوا دمها على الأرض، وشربوا منه جرعة. يُعتَبَرُ هذا في الإسلام من المحرمات.
إلا أنَّه لا بد للكناوة من كسر بعض المحرمات، ليتسنى لهم الاتصال بالأرواح. في الليلة التالية نَحضَر إحدى مراسمهم الشعائرية التي تستغرق اثنتي عشرة ساعة، والتي يُسمُّونها " الحضْرَةَ" أو "الليلة". ألقى غينيا وبقية الكناوة بأرديةٍ ملونةٍ مزركشةٍ على أجسادهم. ومضوا في موكب ديني إلى منزلٍ استأجروه خصيصًا لهذه الغاية، يرافقه إيقاع "الطبل" الذي يطرد الأرواح الشريرة، ويفسح مكانًا لوصول الملائكة.
يتصدر الموكب نساءٌ وأطفالٌ حاملين الشموع، والتمور، والحليب. عطايا للأرواح. نجلس بعدها متلاصقين في باحة المنزل الداخلية. يجلس غينيا مع آلة "الكمبري" الموسيقية الكبيرة، ذات الأوتار الغليظة الثلاث، وهي عبارة عن عود رخيم الرنات. غينيا هو قائد الحدث بلا منازع. يبدأ بترنيم "الذكريات"، "أولاد بامبارا".
ويرقص مرافقوه على أنغام الترانيم مستعيدين حياة أسلافهم السود. ويعرضون ببندقية زائفة عملية الصيد، والتجميع، والوقوع في الأسر أيضًا. وفي آخر الليل يضعون على المائدة أطباقًا كبيرةً مليئةً بالزيتون ولحم الماعز وأرغفة الخبز.
رحلة إلى عالم الأرواح
بعد استعادة القوى تبدأ النزهة، وهي الرحلة الفعلية إلى الأرواح. يرافق الصلوات إشعال االبخور وأطايب الأعشاب. في الوسط ترقص نساءٌ منحنياتٌ إلى الأمام. حيث يكون المُقَدِّم، قائد الشعائر، قد وضع على أجسادهن ملاءات بيضاء. إنَّّّّّها ملاءات الملاك عبد القادر الكيلاني، الذي يفتح البوابات إلى عالم الأرواح. تتبعها ملاءات سوداء، لون مأمون، الأفريقي الأسود.
وتظهر من ثم راقصات جديدات، وبعض الشبان من وقت لآخر. بعدها يأتي الأزرق، لون السماء ولون النبي موسى. يسقط الراقص الأول. يتم حمله إلى البهو ورشه بماء الورد. تبدأ أغنية جديدة. لون جديد. الأحمر. سيدي حمّو الجزّار. يعبث المُقَدِّم أثناء الرقص بسكينٍ في يده. من الصعب أنْ ترى ما إذا كان يجرح نفسه بالفعل.
قائد جوقة المرتلين يتبادل مع الجوقة الغناء بلا انقطاع. آلة الكمبري تعطي النغمة الرخيمة. يرافقها صليل الصنج المعدني. الأخضر، لون النبي وذريّته. بعدها يعود اللون الأسود، لونُ "قوم" الغابة. الإيقاعات تجذب الجمهور إليها.
علاج للنساء
باتت النساء مسيطرات على ساحة الرقص الصغيرة حصرًا. اللون الأصفر. تذوي الأضواء. تتساقط الملاءات. شعور النساء الطويلة تتطاير إلى الأمام وإلى الخلف. لا ضوء إلا ضوء الشموع. لالا عايشة والأرواح الشيطانية حاضرة. تسقط امرأةٌ. يحملها المُقَدِّم إلى الخارج. تسقط امرأةٌ ثانيةٌ. الشَعرُ يتطاير، الحركات منتشية، الصيحات، كل هذا مفعمٌ بإثارة محمومة. حول المكان تستلقي نساءٌ على الفرش. في هذا الانخطاف يتم الاتحاد بالله، حيث يتعافى المريض وتحلُّ بركة الله.
على خلاف الإسلام "الرسمي"، الذي يمارس السلطة السياسية-الدينية، ويسوده الرجال، تدور عبادات الكناوة حول تذليل المشاكل اليومية. ويستعين أتباع الكناوة بأساليب السحر، من أجل تهدئة روع الأرواح والشياطين، التي يعتبرونها مسؤولة عن معاناتهم. هكذا تغدو الممارسة الدينية فعلاً علاجيًا بالنسبة لهم ذا وظيفةٍ تنفيسيةٍ قويةٍ. والجدير بالذكر أنَّ أكثر من 90% من أتباع الكناوة هم من النساء.
نقد إسلاموي
على الرغم من أنَّ الكناوة يعتبرون أنفسهم مسلمين ورِعِين، ويتلون في أغانيهم آيات من القرآن باستمرار، إلا أنَّهم يتعرضون إلى نقد "الإسلام السياسي" بازدياد، حتى أنَّ الشاب الإسلاموي سعيد ادعى لي في إحدى المقابلات أنَّ الكناوة قد تمَّ جلبها إلى الصويرة من قِبَلِ اليهود. وبالفعل يعرف الكناوة أرواحًا إفريقية سوداء، وبربرية، وإسلامية، ويهودية، وحتى بعض الأرواح المسيحية.
ويشعر سعيد بالخطر إزاء تعاملهم الواثق مع هذه الطقوس "الغريبة". ويتساءل "هل يذكُر القرآن أنَّ الصلاة يمكن أنْ تترافق مع الغناء أو الموسيقى أو حتى الرقص؟". ويشكو في الختام من انحطاط الأخلاق، عندما يأتي النشء الجديد المغربي والأوروبي، بسراويل الجينز الضيقة والتنانير القصيرة، إلى مدينة الصويرة، من أجل سماع الكناوة.
اندرياس كيرشغِسنر
ترجمة يوسف حجازي
حقوق الطبع قنطرة 2007
قنطرة
نجوم الموسيقى الغربية في المغرب
أجيال من الموسيقيين الغربيين ابتداء من الستينات توافدوا على المغرب للتعلم من موسيقيي الكناوة، الذين تعود جذورهم إلى عبيد كانوا يعملون في حقول قصب السكر.
عوالنم الموسيقى
الموسيقى بوتقة يمتزج فيها الشرق والغرب والشمال والجنوب والحاضر والماضي. في الملف التالي نتناول تأثير السياسة والعولمة على الإبداع الموسيقي كما نقدم تجارب موسيقية من بلاد عربية وإفريقية وأوربية