تركة« داعش» كرديّاً: إحياء ذاكرة العزلة الإيزيديّة
ونحن نتابع إعلانات القضاء على «الدولة الإسلاميّة» في العراق وسورية، تتراءى لنا على الفور أكثر الأيام سواداً في مسيرة صعود وهبوط الدولة المتوحّشة (داعش)، ولا شك في أن محنة الإيزيديين إحدى الصفحات الأكثر إيلاماً في هذه المسيرة الدمويّة الصاخبة.
في ليلة 3/2 آب (أغسطس) 2014 حلّت مأساة جديدة على الأقلية الإيزيديّة، حين اجتاح جنود «الدولة الإسلاميّة» منطقة سنجار العراقيّة، معقل الأقلية الإيزيدية التاريخيّ. قُتل آلاف الرجال على الفور ودفنوا في مقابر جماعية ما زال اكتشافها جارياً حتى اليوم. استُعبدت النساء الصغيرات والكبيرات جنسيّاً، واتُخذن «سبايا» وتم بيعهن في أسواق الموصل والرقة ودير الزور والشدادي علانية، بعضهن فضلن الانتحار على أن يقعن في قبضة رجال «الدولة الإسلامية». فُصل الأطفال الذكور عن ذويهم وألحقوا بمعسكرات جهاديّة. دمّرت بلدة سنجار ونهبت بيوتها ودور العبادة الخاصة بالإيزيديين والمسيحيين والشيعة وأضرحة المسلمين.
بنتيجة الهجوم الداعشيّ أضافت الذاكرة الإيزيديّة المعاصرة حملة إبادة جديدة طاولتها، هي الحملة الرقم 74 وفق الرواية الإيزيديّة الشائعة في سلسلة الجرائم وحملات التنكيل التي ارتكبت بحقهم تاريخيّاً، سيما خلال الحقبة العثمانية حيث صدرت فتاوى دينيّة تُبيح قتلهم وسبي نسائهم، وصولاً إلى الحملة الداعشيّة الأخيرة. وقد صنفت مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة ما جرى بحقهم على يد داعش في 2014 وما بعد قانونيّاً كـ «إبادة جماعية» genocide.
صحيح أن القضية ليست مسألة هوس دينيّ وحسب، فغزوة سنجار كانت مهمة لاعتبارات لوجستيّة جغرافيّة أيضاً، حيث تقع سنجار على الحدود العراقية السورية تماماً والسيطرة عليها أزالت هذه الحدود في منطقة مهمة لاستكمال مشروع بناء الدولة الإسلامية (في العراق والشام) كما هو اسمها، ووضعت منطقة الجزيرة السورية، ومحافظة الحسكة تحديداً تحت التهديد الداعشيّ المباشر، وهذا ما حصل بالفعل حين اقتحم جنود «الدولة» المناطق العربية جنوب القامشلي ومحافظة الحسكة، ولولا المقاومة التي واجهتهم لتمكنوا من الاستيلاء على كامل محافظة الحسكة.
لكن البعد الدينيّ في غزوة سنجار كان ظاهراً أكثر من أي غزوة داعشية أخرى، فبالنسبة إلى المقاتل الداعشيّ، سنجار هي موطن أقلية «كافرة» غير معترف بها كديانة سماوية حتّى، وهي معزولة بلا سند ولا حول ولا قوة. فكانت مسرحاً واسعاً للمخيال الجهاديّ وهو يتلذّذ بقتال «الكفار» وينفّذ أحكام السبي والفيء والغنائم وكل ما ورد في الأدبيات الجهادية المتراكمة والكتب الصفراء التي لطالما كانت مكوناً أساسياً في ربط المجاهد المعاصر بماضي الفتوحات والغزوات الدينيّة المبجّل. وفي سنجار كان كل شيء حلالاً ومشروعاً، بل واجباً دينيّاً على درب الجهاد من أجل إقامة دولة الخلافة الإسلامية المُشتهاة.
بيدَ أن هذه الغزوة الدموية رافقها عاملان سهلا اكتمال نجاحها: من جهة غياب الجيش العراقي بعد انهياره الدرامي أمام داعش في الموصل وانسحاب البيشمركة الكرديّة المفاجئ من سنجار وتركهم أهالي سنجار العزّل يواجهون الموت الداعشيّ الأسود وحدهم من دون حماية، وسط استغراب الناس من الانسحاب ودعواتهم البيشمركه لحمايتهم. من نجا منهم فرّ إلى جبل سنجار حيث مات عشرات الأطفال والكهول لعدم توافر الماء والغذاء، إلى أن تمكنت قوات الحماية الكردية السورية من فتح ممر إنقاذيّ من جبل سنجار إلى داخل الأراضي السورية الخاضعة لسيطرتها، وفتحت معسكرات عاجلة لهم بالقرب من الحدود، وقد عاد قسم كبير منهم إلى كردستان العراق عبر مناطق سيطرة القوات الكردية من طرفي الحدود.
ومن جهة ثانية، تعاون بعض أبناء القرى العربية في سهل سنجار مع مقاتلي الدولة الإسلامية ضد جيرانهم الإيزيديين، فالشهادات الكثيرة التي قدمها الناجون تُدين أبناء قرى مجاورة وعشائر وعوائل محدّدة بالاسم.
وكما أن للإيزيديين خصوصية دينيّة (ديانة غير تبشيرية، انغلاق ثقافي واجتماعيّ، عزلة اجتماعيّة وجهويّة...)، لهم أيضاً خصوصيتهم لجهة علاقتهم بالمجتمع الكرديّ. وإذا ما استخدمنا تحليلاً كالذي يقدمه مارتن فان برونسن، الأنثربولوجي والباحث المتخصص في دراسة المجتمع الكردي، من أن «ثمة وسط الكرد ( كما في أي مجموعة إثنية أخرى) كتلة أساسية تنتمي انتماء إثنياً جازماً لا مراء فيه إلى الكردية، وأن هذه الكتلة الأساسية محوطة بفئات طرفية يتميز انتماؤها إلى الكردية بالتأرجح والغموض، حيث لا تعد الهوية الكردية سوى واحدة من خيارات عدة للانتماء»، أمكننا القول إن الإيزيدييّن (إلى جانب مكونات إثنية ودينية أخرى في الفضاء الكرديّ) كانوا هامش الإثنيّة الكرديّة لوقت مديد، أقلّه حتّى مطلع القرن العشرين.
وهذا يعود إلى واقع العزلة والانغلاق الاجتماعيّ الذي عاشته هذه الأقلية الدينيّة وسط الأكثرية المسلمة، ونظراً إلى عثمانيّة النخب الكردية من الأمراء وشيوخ الطرق الدينيّة المهيمنة على الكتلة الأساسية للمجتمع الكرديّ، أو المتن الكرديّ، خلال الحقبة العثمانية، والذين كانوا على رغم التوترات، عثمانييّن في نهاية المطاف وجزءاً من التركيبة الإدارية والعسكرية في السلطنة بصلاحيات محليّة. وقد مارس بعض هؤلاء جرائم خطيرة في حق الإيزيديين، فضلاً عن الممارسة الاستبعادية والتمييزيّة الممارَسة عامة إزاء الإيزيديين كطائفة مُهرطقة وملّة ضعيفة، في نظام الملل والنحل العثمانيّ، وبالتالي سهولة استهدافهم. وقد ذاق الإيزيديّون الويلات من الصفويين أيضاً.
وبالطبع لم تكن كل الحملات ضدهم بسبب الانتماء الدينيّ فقط، فالقبائل الإيزيديّة كانت محاربة أيضاً وتشارك في الصراعات القبلية والنزاعات على الموارد وطرق المواصلات واعتراض القوافل، كغيرها من القبائل الكرديّة والعربيّة والتركمانيّة، حيث تشكّل سنجار إحدى أقدم مناطق الجزيرة الفراتيّة وتمتاز بموقع لوجستيّ مهم كصلة وصل للطرق والمسالك بين مدن الجزيرة العليا والموصل وبلاد الشام.
ولم تفلح إلا قليلاً الجهود «التبشيرية» للخطاب القوميّ الكرديّ المعاصر في محو آثار الحقبة العثمانية المريرة من ذاكرة الإيزيديين. وقد بالغ هذا الخطاب أحياناً في قومنة الديانة الإيزيديّة باعتبارها ديناً مزعوماً للأكراد قبل الإسلام، من خلال اعتباره امتداداً خطيّاً للزرادشتيّة القديمة، وهذا زعم إيديولوجيّ لا يثبت أمام الدراسات التاريخيّة الجادة.
ثمة مفارقة كبيرة هنا: فالإيزيديون هم الكرد الوحيدون الذين يؤدون شعائرهم الدينيّة باللغة الكردية، وهم يجلّون الكرديّة لاعتقادهم أن إلههم نفسه يتكلم الكردية، كما جاء في تقرير لعصبة الأمم في العراق في بدايات القرن المنصرم، وذلك على خلاف الكتلة الكردية الكبرى التي تدين بالإسلام. وهم ينتمون إلى عشائر كرديّة معروفة تاريخيّاً ويسكنون في منطقة مأهولة بالعنصر الكرديّ منذ مئات السنين. فما من شك يرقى بالتالي إلى انتماء الإيزيديين إلى الفضاء الكرديّ، على رغم وجود عوائل إيزيديّة تدّعي الأصل العربيّ، وتلك ظاهرة شجّعها نظام البعث في العراق مستفيداً من اللعب على موضوع تاريخيّ عمره قرون، حين التجأ بعض شتات الأموييّن إلى جبال كردستان وتكرّدوا وسط الأغلبية الكرديّة، لكنْ مع ذلك ظلت علاقة الإيزيديين متوترة مع محيطهم الكردي، وهو ما ينطبق على معقلهم التاريخيّ، جبل سنجار ووادي لالش، أكثر مما ينطبق على المجتمعات الإيزيدية الأخرى. وقد ساهم انتشار التعليم منذ أواسط القرن الماضي وعلمانيّة الحركات القومية الكردية الحديثة في استقطاب شرائح إيزيديّة إلى صفوفها وكسر العزلة التاريخية.
إن مأساة الإيزيديين الجديدة هذه، أعادت إلى ذاكرتهم السير الشعبيّة الأليمة التي تختزنها ذاكرة الأجيال، وفضلاً عن فداحتها الإنسانية الرهيبة فإنها تركت آثاراً اجتماعيّة خطيرة على صعيد العلاقات الإيزيدية العربية، والإيزيدية الكردية، تُترجَم اليوم بمزيد من التوجس وفقدان الثقة تجاه المحيط الإسلامي، العربي والكردي على حد سواء، إن لم نقل الكراهية والبغضاء، وذلك على رغم أن جهود مقاتلي العمال الكردستاني إبّان الغزوة وتضحيات البيشمركه لاحقاً في تحرير سنجار رمّمت الجرح المؤلم... ولو قليلاً.
* كاتب كردي.