ما بين البهاء والتجريب

نصف البيوت الدمشقية القديمة التي دونت في السجل العثماني لعام 1900 لم تعد موجودة. الخطر الذي يتهدِّد ما تبقَّى من هذه البيوت دفع بعض سكان المدينة إلى العمل على ترميمها؛ عمل جريء يستحق الترحيب والاستحسان لكنَّه معقَّد. تقرير بقلم منى سركيس.

افتتح قبل أكثر من عشرة أعوام مطعم "بيت جبري" في واحد من البيوت الدمشقية التقليدية وقد حقَّق بذلك رواجًا سريعًا لا يزال يتمتَّع به حتَّى يومنا هذا. وذلك ليس فقط لأنَّه يقدِّيم لزبائنه كلَّ شيء من النرجيلة حتَّى مقهى للإنترنت في صالته الرئيسية التي يبلغ ارتفاع سقفها 18 مترًا وحجراته الـ23 الموزَّعة على طابقين.

يكمن سبب ازدهاره قبل كلِّ شيء في الولع بالتفاصيل التاريخية التي تعجب أيضًا الأشخاص غير المختصين بالآثار. لم يكن من السهل ترميم مواد بنائه التي يعود معظمها إلى القرن الثامن عشر - فصالة الاستقبال الموجودة فيه ذات الثلاثة أجنحة تحمل تاريخ العام 1744.

تتجلَّى صعوبة ترميمه في ماضيه الذي لا يزال يذكره رائد جبري مدير مطعم بيت جبري: سكنت أسرته حتَّى العام 1973 في هذا البيت الذي اقتنته في العام 1905، لكنَّها اضطرَّت فيما بعد إلى تركه بسبب نفقاته الباهظة. تفرَّق ورثة البيت مما أدَّى إلى تداعيه. وفي آخر المطاف كان يستخدمه أشخاص غرباء كمخزن للبضائع.

إغراء الحياة الحديثة

مرَّت معظم البيوت الدمشقية القديمة في حالة من التراجع والانحطاط: إذ أنَّ الكثير من أبناء الطبقة الوسطى كانوا يغلقون بيوت المدينة القديمة أحيانًا بسبب النفقات الباهظة، ولكن في أغلب الحالات لأنَّ "الفيلات الحديثة" التي شيِّدت في مطلع القرن الـ20 ذات البنى التحتية الحديثة والشوارع الواسعة كانت تغريهم ولأنَّ أزقة المدينة القديمة غير المنتظمة والتي كانت تزداد فقرًا قد بدت لهم "أقلّ من مستواهم".

وبالعكس بدأت حركة هجرة للمواطنين الريفيِّين الفقراء إلى المدينة القديمة. لقد تكفَّل بقاء البيوت خالية وكذلك تفرّق واختلاف الورثة كما هي الحال لدى أسرة جبري أو الإيجارات المنخفضة وكذلك تكفلت القوانين التي كانت تمنح لفترة طويلة المؤجِّر القليل من الحقوق إزاء المستؤجر بفعل الباقي: مما أدَّى إلى خراب البيوت.

يستطيع حكم ركبي أن يروي الكثير عن ذلك. اشترى هذا المهندس قبل عام ونصف "بيت فرحي" الذي تبلغ مساحته 3700 متر مربَّع. في هذا البيت الحافل بالأحداث التاريخية، الذي كان يملكه في القرن الـ18 الصيرفي اليهودي ذو النفوذ الواسع حاييم فرحي والذي بات فيه سليمان باشا بعد حملته على دمشق في العام 1810 - سكن في السنين الماضية حوالي خمس عشرة أسرة في نفس الوقت. "كلّ شيء مثل كومة من القمامة".

عيوب وأخطاء

سوف يفتتح في العام 2008 فندق من الدرجة الأولى في هذا البيت الذي توجد فيه خمسة أفنية داخلية. لكن كذلك سوف يظهر إذا ما كان ترميمه من الدرجة الأولى.

إنَّ بسام الزريق الذي كلِّف من قبل أسرة طلاس- خير منذ ثلاثة أعوام بتصليح "بيت القوتلي" مع صالة المرايا الموجودة فيه والتي كانت صالة مذهلة فيما مضى، يقف مبدئيًا من "موجات الترميم" هذه موقف المتشكِّك. وبسام الزريق الذي استقال من منصبه كمعاون لوزير الثقافة بعد ستة أشهر من تعيينه فيه - يشتكي قائلاً: "إنَّ التعليمات القانونية ليست صارمة بما فيه الكفاية".

تسمح هذه التعليمات - على حدِّ قوله، مثلاً باستخدام الخرسانة "بكميَّات محدَّدة"؛ بيد أنَّ حجم هذه الكمِّيات غير محدَّد. يتابع قائلاً: وفي ذلك ما من شيء يتلف مواد البناء التقليدية الخفيفة هذه أكثر من الاستخدام غير الحرفي للخرسانة الثقيلة.

فهكذا انحنت الجدران الخارجية في "بيت القوتلي" انحناءات بلغت حتَّى 70 سنتيمترا إلى الخارج، وذلك لأنَّ مادَّة بنائه القديمة التي استخدم فيها الطين وخشب أشجار الصفصاف لم تتحمَّل التوسيعات المعمارية التي نفَّذها السكَّان السابقون بأنفسهم.

ديسكو مرمر

مع استخدام الإسمنت لن تختلف الحال، حسب تعبيره: يمكن عندما تُغظَّى الحجارة الكلسية التقليدية بالإسمنت أن تصبح معزولة عن الهواء وتتفتَّت.

يضاف إلى ذلك انتشار الديكور المدهش أحيانًا والذي نراه مثلا في "جوهرة" دمشق الجامع الأموي: شيِّدت من جديد بعض أجزاء الجدران الرومانية التي تعود إلى القرن الأوَّل الميلادي وكذلك تمَّ استبدال بعض قطع المرمر التي تعود إلى القرن الـ 8 ونوافير الماء التي تعود إلى القرنين الـ14 والـ 15 بـ"رؤى معمارية" حديثة، كما يذكر شتيفان فيبر في ريبورتاجه "حول الأخطار المحدقة بدمشق" في عامي 2001/2002.

تمَّ ترميم الجدران الملبَّسة بالخشب الموجود في الديسكوتيك الدمشقي الشهير مرمر الواقع في الحي المسيحي باب توما بشكل رديء، جعل الجدران سخيفة تخلو من الذوق إلى حدّ ما. من المؤسف أنَّ تكون نتيجة الاستثمارات السريعة المحمومة بالتوق إلى الماضي على ذلك النحو؛ إذ أنَّ ديسكو مرمر موجود في بيت شُيِّد مع بداية القرن الـ17.

مَتْحَفَة دمشق القديمة فرصة للحفاظ عليها

لا يمكن تقريبًا انكار أنَّ هذه المدينة الشرقية القديمة التي ينتقل فيها المرء سيرًا على الأقدام لن تصمد أمام الاستفراد المتزايد فيها. إنَّ الاتِّجاه نحو تحويلها إلى متحف على شكل واحات صغيرة يتمّ من دون شكّ على حساب شكل الحياة اليومية النشيطة الذي يميِّز بالذات مدينة دمشق القديمة منذ أقدم العصور.

ومع ذلك من الممكن لهذا الاتِّجاه أن يسهم بصورة أساسية في انقاذها من مخطَّطات خفية يراد بها طمس معالمها. لهذا السبب من الضروري أن تحافظ عملية "متحفتها" حقًا على ما يكمن في وصفها بأنَّها "أقدم عاصمة في العالم لا تزال مأهولة".

مثلاً "بيت العقَّاد". شيِّد هذا البيت في مراحل بناء عديدة فوق مسرح روماني، وتمّ ترميمه بشكل نموذجي في الفترة من عام 1996 حتَّى عام 2000 من قبل المعهد الثقافي الدنماركي. ابتداءً من رسم النجوم النافر ذي الصنعة التقليدية المملوكية الموجود على واجهة صالة الاستقبال الشمالية أعلى الإيوان الذي يبلغ ارتفاعه 14 مترًا والذي يعود إلى القرن الـ14 والفناء الداخلي، الذي رُصف أرضه بعد الهزَّة الأرضية عام 1759 بزخرفة صنعت بالحجارة البازلتية والمرمر، حتَّى "الغرفة الزرقاء" التي كانت قد جدِّدت بتكاليف باهظة في نحو عام 1860 بطراز معماري عثماني كثير الزينة والزخرفة.

كذلك يمكن الآن النظر بإعجاب إلى البقية الباقية من أقواس مسرح هيرودس القديم في مقرّ المعهد الثقافي الدنماركي؛ قبالة جهاز الحاسوب.

بقلم منى سركيس
ترجمة رائد الباش بتصرّف
حقوق الطبع قنطرة 2007

قنطرة

المدينة القديمة بين مطامع رؤوس الأموال ومصالح الأهالي
بدأ المسؤولون في محافظة دمشق بتنفيذ مشروع مثير للجدل يهدف إلى هدم أبنية قديمة واقعة خارج السور الروماني للمدينة من أجل شق طريق عريض وإقامة أبنية تجارية حديثة. تقرير من دمشق بقلم رزان زيتونة
.