عمرو موسى الرجل المناسب للمرحلة المقبلة؟

يقدم الباحث جمال عبد الناصر أربعة خيارات لتغيير النخبة السياسية في مصر عموما ولخلافة الرئيس حسني مبارك خصوصا، وذلك في سياق سيناريوهات محتملة لتطوّرات الصراع الإقليمي في الشرق الأوسط.

عمرو موسى، الصورة: أ ب
عمرو موسى

​​يقدم الباحث جمال عبد الناصر أربع خيارات لتغيير النخبة السياسية في مصر عموما ولخلافة الرئيس حسني مبارك خصوصا، وذلك في سياق سيناريوهات محتملة لتطوّرات الصراع الإقليمي في الشرق الأوسط.

ارتبط تغيير النخبة السياسية في مصر، ارتباطًا وثيقًا بالتطورات الإقليمية الكبرى في الشرق الأوسط، وعلى وجه أخص بالصراع العربي ـ الإسرائيلي. في النصف الثاني من القرن العشرين شهدت البلاد تغيرين جوهريين:

الأوّل إثر نكبة 1948 عندما قامت نخبة من ضبّاط الجيش الشبّان بإسقاط النظام الملكي وإقصاء نخبة الباشوات عن الحكم في ثورة يوليو 1952. و جاء التغير الثاني في أعقاب حرب أكتوبر 1973 وما تبعها من قيام السادات بزيارته التارخية للقدس، ممّا رتّب لنخبة جديدة موالية للغرب و لسلام كامب ديفيد وللنظام الرأسمالي أن تحلّ محلّ سلفها.

صاغت الحربان شرعية كلتا النخبتين والطابع أو النمط العسكري في نقل السلطة بينهما. لكن اللافت للنظر أن كل نخبة قد عكست توجّهات سابقتها أو أن كلّ جيل قد انقلب على سلفه. هكذا فعلت نخبة أكتوبر أو جيل أكتوبر عندما غيرت توجهات البلاد من موالاة الشرق "السوفيتي" إلى الغرب "الأمريكي" ومن الاشتراكية إلى الرأسمالية ومن القومية العربية إلى مصر أوّلا، و هو تمامًا ما فعلته نخبة أو جيل يوليو مع سلفها من الباشوات.

ولعلّ تركيز الضوء على حالة "دراسة" خلافة الرئيس، يعكس في ذاته حالة الحيرة التي تكتنف تغيير النخبة السياسية في مصر على وجه العموم، و ذلك بوصف الرئيس رأس النخبة و رمزها الأوّل.

من هو الرجل الثاني في مصر؟

والواقع أن الرئيس مبارك، طوال نحو 25 عامًا من حكمه، وعلى نقيض سلفيه، قد تعمّد دائما تجهيل أو عدم تحديد لشخصية خليفته. والأمر هنا يتعلق بمنصب نائب الرئيس الذي لم يشغر قطّ في عهدي ناصر والسادات بينما لم يشغل قطّ في عهد مبارك.

كان وجود النائب يؤمن، أولاً، عملية نقل السلطة و سلاستها بما يحافظ على استقرار النظام ويجنبه أيّ هزّات قد تنتج عن اختلاف الرؤى بين أعضاء النخبة المؤثرة، جماعات أو أفرادًا. ثم كان يؤمن ثانيا استمرارية توجّهات الرئيس بعد غيابه، متشخصة في نائبه أو في ظلّه الذي شاركه، عن كثب، في صناعة القرار.

هكذا كان الحال منذ ناصر إلى السادات و من السادات إلى مبارك. عند سؤاله عن الخلافة لم تمسّ أجوبة مبارك إلاّ الجوانب الدستورية و المؤسسية لعملية نقل السلطة.

على الرغم من عدم تعيين نائب، كان هناك دائما "الرجل القوي الثاني" في الدولة. المشير عبد الحليم أبو غزالة أحد قادة حرب أكتوبر، ووزير الدفاع والانتاج الحربي في الفترة من 1981 ـ 1993 ثم عمرو موسى وزير الخارجية في الفترة من 1993 و حتى تولّيه أمين عام جامعة الدول العربية 2001، ونضيف إليها جمال مبارك، طالما أنّه أصبح محلّ نقاش عام كخليفة محتمل، رغم أننا لا نعتبره "الرجل القوي الثاني في الدولة".

الرموز والجماعات التي تمثلها:

تمثل الشخصيات الثلاث السابقة أهمّ ثلاث مؤسسات في مصر وزارة الدفاع، وزارة الخارجية و الحزب الديمقراطي، كما تعتبر رموزًا أو ideal types لأهمّ ثلاث جماعات من النخب المؤثرة على صناعة القرار الاستراتيجي وهي العسكريون والدبلوماسيون، والسياسيون في الحزب الحاكم. خاصّة الجيل الجديد منهم.

الرموز الثلاثة المذكورة تعكس أيضا تطوّر الأوزان النسبية لجماعتها في صناعة القرار:

العسكريون تحت أبو غزالة، وذلك بين 1981، تاريخ إغتيال السادات صاحب كامب ديفيد والسلام مع إسرائيل، وحتى 1993 سنة عودة طابا آخر قطعة من التراب الوطني المحتلّ منذ حرب 1967.

ثم الدبلوماسيون تحت عمرو موسى منذ انطلاق عملية السلام في أوسلو 1993 وحتى توقفها مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية 2001.

ثم السياسيون الليبراليون الجدد من شباب الحزب الحاكم تحت جمال مبارك بعد انتخابات 2000 التشريعية الواعدة بإصلاح إنتخابي جذري وبدء إصلاح شامل للحزب تحت شعار "فكر جديد".

وعلى ذلك يمكن القول إن الخيار العسكري ذا التوجه الإسلامي كان خيارا مرجحا في حقبة احتلال الأراضي المصرية، ثم صعد الخيار السياسي أو الدبلوماسي ذو التوجّه القومي في فترة آمال السلام وصعد مؤخرًا الخيار المدني الليبرالي واعدًا بإمكانية مستقبلية.

السؤال الجوهري المتعلق بخليفة الرئيس هي، هل سيكون رجلاعسكريا أم مدنيّا؟ رجل دولة أم رجل حزب. والجدول التالي يلخص لنا هذه الخيارات منسوبة إلى سياقاتها.

سينياريوهات محتملة

بناءًا على ما سبق من طرح يمكن استنتاج أربعة خيارات أو إمكانيات أساسية لتغيير النخبة السياسية في مصر عموما و لخلافة الرئيس خصوصا. وهي تجري في سياق سيناريوهات بديلة محتملة لتطوّرات الصراع الإقليمي في الشرق الأوسط.

في سيناريو متشائم قد ينتج عن استمرار و تصعيد الحرب الأمريكية على "الإرهاب" من ناحية وتدهور العلاقات العربية-الإسرائيلية من الناحية الأخرى ما ينذر بأن تعود الأوضاع إلى أجواء حرب شاملة مماثلة لما كانت عليه منذ نحو ثلاثة عقود و تحديدًا قبل كامب ديفيد والسلام بين مصر و إسرائيل. إن خطورة هذا السيناريو تكمن في تغيير طبيعة وأدوات الصراع.

فبينما جرى الصراع العربي-الإسرائيلي خلال نحو نصف قرن مضّى تحت رايتين إيديولوجيتين علمانيتين هي القومية العربية من جانب و الصهيونية على الجانب الأخر، فإن الأمر قد يتطور هذه المرة إلى حرب دينية أو ما شابه، تتركز على المقدسات و تتسع رقعة أطرافها.

في هذا السيناريو ستصعد نخب عسكرية دينية إلى سدّة السلطة وحينها قد تحكم مصر من "بطل" من طراز و مزاج خالد الاسلامبولي الذي اغتال السادات. لكننا نرى أن هذا السيناريو العنيف أصبح غير واقعي استنادًا إلى أمرين يخصّان الإسلاميين:

أولهما أن الجماعة الإسلامية كبرى المنظمات الإسلامية الراديكالية في مصر قد تطوّرت من كونها شريكة لمنظمة الجهاد في اغتيال السادات إلى مراجعة مواقفها وتحوّلها عن العنف، بل إلى الإعتذار عن ممارسته كما جاء في مؤتمراتها السياسية التي شارك فيها الآلاف من أعضائها من داخل السجون.

لقد بدأت مسيرة التحوّل هذه (كما جاء في كتاب منتصر الزيات عن أيمن الظواهري) عقب اغتيال رابين عندما أعلن بعض قيادات الجماعة أن الأمر قد اختلف الآن بعد نتنياهو بما يقلب أولويات فقه الجهاد عند الجماعة من قتال العدو القريب إلى قتال العدو البعيد. وهو ما تبنته لاحقا الجماعة في كتابها الضخم الذي صدر مؤخرًا 2002.

أمّا ثاني الأمرين فهو يتعلق بجماعة الإخوان المسلمين كبرى حركات المعارضة في مصر فقد تحوّلت بدورها من شعار "الإسلام هو الحل" في عقد الثمانينات إلى "احترام الدستور" مع بداية الألفية وهو ما يشير إلى رغبتها في الإندماج ضمن مكوّنات النظام السياسي الرسمي.

تحالفات جديدة

في سيناريو إسلامي آخر لكن أقلّ عنفا وأكثر اعتدالاً قد يصل الإخوان المسلمون إلى سدّة السلطة تحت رئيس من خلفية عسكرية وعندئذ قد يقلبون ميزان القوى الاستراتيجي في الشرق الأوسط من الرصيف الغربي اليوروأمريكي إلى التحالف مع الشرق الآسيوي خاصة أقطاره المسلمة.

لكننا نميل إلى، و نتوقع سيناريو أكثر تفاؤلاً تنحسر فيه الصراعات المسلحة في الشرق الأوسط ليبدأ المعنيون حواراً عميقاً وجدّياً عن إمكانيات السلام وإصلاح النظام الإقليمي في إطار إصلاح شامل للنظام الدولي وهو ما بدأت إرهاصاته حاليا.

في هذا السيناريو سيكون الوضع الإقليمي أشبه بحالة اللاحرب واللاسلم. في هذا السيناريو سيمثل إصلاح النظام السياسي أولوية عاجلة على الأجندة الداخلية وهو ما يتطلب تدخّلاً لتعديل الدستور ما يسمح بتداول للسلطة بين أحزاب متنافسة في انتخابات حرّة ومفتوحة و يعدّل من طريقة انتخاب الرئيس من الاستفتاء إلى الانتخاب المباشر و يضع حدًّا لمدة ولايته، ما يسمح أيضًا بإعادة توزيع السلطات بين مؤسسات الدولة من جانب و بين منظمات المجتمع المدني من الجانب الأخر.

الشباب أصحاب القرار

هذا يعني تغييرًا في النظام وهو التحدّي الذي سيواجه الجيل الجديد من النخب السياسية في مصر. في مثل هذا السيناريو ستضم النخبة السياسية مكوّنين أساسيين:

شباب السياسيين في الحزب الحاكم حاليا وهم ليبراليون متفتحون غربًا ولهم أجندة للتحديث والنهضة وشباب الإخوان المسلمين الأكثر "حداثة" من أسلافهم وهم الذين صعدوا كقيادات طلابية في الجامعات المصرية في زمن الثورة الإسلامية في إيران وهو ذاته زمن كامب ديفيد 1979.

سيكون التحّدي أمام هذين المكونين هو في قدرتهما على المصالحة وتغيير سلوكيات سياسة سلبية ومزمنة مثل احتكار السلطة وإقصاء الآخر. في مثل هذا السيناريو قد يلعب جيل "الصحوة الإسلامية" دور المحافظ في نظام برلماني على طريقة حزب العدالة و التنمية في تركيا.

من المقرّر أن يجرى الإستفتاء على منصب الرئيس في مصر في أكتوبر 2005، و هو ذاته موعد إجراء الانتخابات البرلمانية 2005ـ 2001. إن تجديدًا رابعًا للرئيس مبارك 2005ـ 2011 هو أمر ممكن دستوريا. لكننا لا نستبعد أيضًا أن يقوم الرئيس من تلقاء نفسه بأن يتنحّى عن الاستمرار في موقع المسؤولية.

عندئذ سيقدم مبارك سلوكًا سياسيا غير مسبوق في أن يترك حاكم عربي المقعد الأوّل وهو بعد على قيد الحياة ودون إنقلاب أو ثورة، لو صحّ ذلك فسيصبح مبارك حينها قدوة في التغيير وهو ما أظن أن الجيل القادم في حاجة إليه ليندفع إلى الأمام نحو التغيير أو الإصلاح الذي أصبح شعار هذه الأيام.

الشخصية المناسبة

إن شخصية كاريزمية مثل عمرو موسى الأمين العامّ الحالي لجامعة الدول العربية تجمع، في تقديري، مقوّمات الرجل المناسب للمرحلة المقبلة. حيث يمثل الوسيط أو نقطة العبور، بكل ما للكلمات من معان فهو، عمريا، الوسيط بين جيل أكتوبر والجيل القادم وخلفيته كدبلوماسي تجعله وسيطا بين رجل الدولة العسكري والسياسيين المدنيين.

كما أن خلفيته أيضًا كدبلوماسي لا يمارس العمل الحزبي، كما يحتم القانون في مصر، تجعله محايدًا بين أحزاب سياسية متنافسة، معروفًا بميوله القومية العربية، يستطيع أن يكون موسى أيضا نقطة تقاطع الإسلاميين المتجهيين شرقًا والليبراليين المتوجهيين غربا.

وعلى المستوى الدولي يستطيع موسى أن يكون نقطة عبور بين البلدان العربية والإسلامية، و بين المصالح الأروبية و لمصالح الأمريكية. إنّه باختصار يصلح لأن يكون نقطة تقاطع الخيوط الداخلية والخارجية، إن صحّ ذلك ثانية فستكون المهمة الأولى أمام موسى هي إلغاء حالة الطوارىء المستمرة منذ إغتيال السادات وإدارة جدل موسّع ومعمق حول إصلاح أو تغيير الدستور، و قد يجد رصيده الكبير في نجاحه في إصلاح ميثاق الجامعة العربية الذي مضى عليه أكثر من نصف قرن. فهل يفعل؟

بقلم جمال عبد الناصر، باحث مصري مقيم في برلين.
صدرت الصيغة المطولة لهذا المقال في الكتاب التالي الصادر حديثا:
Volker Perthes (ed.): Arab Negotiating Politics of Change.