بطريركية إستانبول تكافح من أجل حقوقها
يزاول عمال البناء عملهم في المقر الرسمي للبطريرك المسكوني، وهو مقر يقع في منطقة الفنار المطلة على القرن الذهبي، حيث تحجب سقالات البناء واجهة المبنى المكون من عدة طوابق بألواح من الخشب. وأمام المدخل يرفرف العلم التركي.
يؤكد المتحدث الرسمي للبطريركية السيد دوزيتيوس أنانوستوبولوس أنه لم تكن هناك أية صعوبات في الحصول على التصريح بأعمال الترميم، وهو أمر لم يكن معهودا من قبل. فبعد حريق شب عام 1941 اضطررنا للانتظار أكثر من أربعة عقود حتى منحت الحكومة التركية التصريح بإعادة البناء. وربما ترجع سرعة الحصول على التصريح هذه المرة إلى زيارة البابا بينيدكت السادس عشر إلى تركيا.
إنعدام الثقة
يواجه البطريرك المسكوني برتولوميوس الأول منذ تولي مهامه عام 1991 صعوبات في تركيا. فهو ليس فقط زعيما روحيا لأقلية الأرثوذكس اليونانيين في استانبول بل أيضا – كما كان الوضع في الإمبراطورية البيزنطينية والخلافة العثمانية - الأب الروحي لجميع المسيحيين الأرثوذكس. وتتعدى سلطة البطريرك المسكوني اليوم حدود تركيا لتشمل بعض الجزر اليونانية ومن بينها جزيرة كريت.
وهو يتولى رئاسة ما يناهز ثلاثين أبرشية في شمال اليونان على الرغم من أنها تدار إلى حد كبير من قبل أسقف أثينا منذ عشرينيات القرن الماضي، إضافة الى جمهورية الرهبان على جبل آثوس والأقليات الأرثوذكسية اليونانية في غرب أوروبا وفيما وراء البحار. وعلى خلاف البابا فإن برتولوميوس الأول لا يملك سلطة التوجيه والإرشاد، فهو يعتبر بالنسبة للبطاركة الأرثوذوكس "رئيس قرنائه".
أما أنقرة فتعتبر البطريرك المسكوني زعيما روحيا للأقلية اليونانية في تركيا فقط، ولا تعترف به رسميا إلا بهذه الصفة. وتبرر ذلك بأن معاهدة السلام التي عُقدت في لوزان بعد الحرب التركية اليونانية في يوليو/تموز عام 1923 تنص على إلغاء الخلافة العثمانية وأيضا الوظائف الدينية القيادية التي كانت في تلك الفترة.
ولكن هذه البطريركية لم تذكر في الوثيقة التي تمنح الجماعات غير المسلمة في تركيا الحقوق التي تتمتع بها الأقليات. ولهذا فإن القوميين الأتراك يرون أن التمسك بمسؤولية البطريركية عن جميع الأرثوذكس دليل على وجود أهداف سياسية وراء ذلك. كما أنهم لا يزالون يعتبرون الأقلية المسيحية جسما غريبا وخطرا جسيما يهدد وحدة كيان الدولة التركية.
يعلق المحامي كمال كرنيجز رئيس إحدى روابط الحقوقيين وأحد أقطاب القوميين المتطرفين في مكتبه علم الإتحاد الأوروبي، وهو علم مرسوم بصليب معقوف داخل دائرة النجوم. وهذا يدل دلالة واضحة على موقفه تجاه الإتحاد الأوروبي.
كما قام أيضا برفع دعوى ضد أورهان باموك الحائز على جائزة نوبل للآداب، فضلا عن دعاوى أخرى. وهو يدّعي المحامي أن البطريركية المسكونية تريد إقامة دولة فاتيكان ثانية في استانبول، أي حكومة كنسية يونانية تضم القرن الذهبي، ويزعم أن اليونانيين بدأوا بالفعل بشراء بيوت في المناطق التي يطالبون بها.
لا شك أن البطريرك المسكوني في القسطنطينية كان يتمتع بمكانة قوية أيام الخلافة العثمانية. وكان الرعايا من غير المسلمين موزعين حسب تبعيتهم الدينية. وهكذا كانت "الملة" تعتبر طائفة دينية يسري عليها حكم الأقليات. وكان للأتباع الحق في ممارسة بعض الإجراءات الإدارية باستقلال، كما كان لهم قانون خاص بهم. وكان الزعيم الروحي لطائفة الأرثوذكس يتمتع أيضا بصلاحيات سياسية ولكنه فقدها بعد انهيار الخلافة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى وإعلان الدولة التركية عام 1923.
تضاؤل الأقلية اليونانية
تعتبر الإتهامات التي يوجهها القوميون المتطرفون الأتراك إلى البطريركية المسكونية مناقضة للمنطق لأن الأقلية اليونانية تضاءل عددها إلى بضعة آلاف شخص. كما أصبحت نسبة المسيحيين في المجتمع التركي الذي يزيد على 70 مليون نسمة قليلة جدا. وحسب البطريركية يعيش في تركيا اليوم ما بين ستة آلاف وسبعة آلاف مسيحي أرثوذكسي، ومن بين هؤلاء أربعة آلاف شخص ينطقون باليونانية.
أما البقية فهم من العرب والبلغار والروس. ومن الأقليات المعترف بها رسميا - إلى جانب الأقلية اليونانية - الأرمينية واليهودية. ويبلغ أعضاء الكنسية الأرمينية حوالي 50.000، في حين يقدر عدد اليهود بحوالي 20.000 شخص. أما من تبقى في تركيا من النصارى الآشوريين - الذين لا يزيدون عن 10.000 شخص - فالحكومة التركية ترفض الإعتراف بهم كأقلية. وهذا ما يتناقض مع معاهدة لوزان للسلام التي تهتم بالأقليات غير المسلمة على وجه العموم، ولكنها لم تحدد أية أقلية بالضبط.
قانون جائر
وتنص معاهدة لوزان للسلام على وجوب تمتع الأقليات غير المسلمة بالحق في تأسيس مدارس خاصة بها مع حقها في استخدام لغتها الخاصة في تلك المدارس. كما تنص المعاهدة على أن المواطنين الأتراك من الأقليات غير المسلمة يتمتعون بالحقوق السياسية مثلهم في ذلك مثل المسلمين.
أما ممثلو الأقليات فيرون أن الحقوق المذكورة في المعاهدة لا تزال يتكرر انتهاكها. وفي الوقت الحالي توجه البطريركية المسكونية النقد للقانون الذي أصدره البرلمان التركي بشأن المدارس الخاصة والذي يحصر دخول المدارس الخاصة بالأقليات غير المسلمة على المواطنين ذوي الجنسية التركية.
إن هذا القانون سوف يؤثر تأثيرا كبيرا على البطريركية، حيث يرى المتحدث الرسمي باسم البطريركية أنانوستوبولوس أن القانون الجديد يعتبر بحد ذاته نهاية لكلية اللاهوت على جزيرة هايبيلي الواقعة على بحر مرمرة جنوب اسطنبول.
وكانت الحكومة التركية قد قامت بإغلاق هذه الكلية عام 1971 - التي خرجت أجيالا من رجال الدين الأرثوذكس اليونانيين - في نطاق تأميم جميع الكليات والمعاهد العليا الخاصة. ونظرا لتضاؤل أعداد اليونانيين ذوي الجنسية التركية فإن إعادة تشغيل الكلية لن يكون ممكنا بدون أساتذة وطلاب أجانب.
بطريرك بدون خليفة
ومما يجعل الوضع يتأزم أكثر هو عدم حصول القساوسة الأجانب العاملين في البطريركية على الإقامة أو تصاريح العمل. ولهذا فإنهم يضطرون لدخول تركيا كسائحين. أضف إلى ذلك أن البطريرك المسكوني لا بد وأن يكون من ذوي الجنسية التركية، ومن ثم فمن الصعوبة بمكان وجود خليفة للبطريرك برثلماوس الأول المولود عام 1940.
وحسب المعلومات الصادرة عن المتحدث الرسمي أنانوستوبولوس فإن هناك خمسة مطارنة فقط لم يبلغوا الستين عاما من بين الستة عشر مطرانا في تركيا. وهذا ما يجعل البطريركية مهددة في بقائها.
تقع كلية اللاهوت على جزيرة هايبلي في أحسن موقع من هضبة مكسوة بغابة، ومدخلها مغلق يرفرف فوق سطحه العلم التركي. ولا يفتح الحارس بوابة الكلية إلا بعد حصوله على إذن بذلك من الرهبان الأرثوذكس اليونانين المقيمين في حرم الكلية.
وهذا المبنى الفاخر بحالته الجيدة وحديقته الرائعة ظل خاليا منذ ما يزيد عن ثلاثين عاما. لكن داخل الكلية في منتهى النظافة ولا توجد هناك أي إشارة توحي بخرابها. وتبدو الفصول كما لو أن الطلاب قد درسوا فيها بالأمس، إلا أن المكاتب قديمة جدا. وواضح للعيان أن ثمة عناية فائقة بالمكان.
ويرجع السبب في ذلك الى أن البطريرك المسكوني لا يريد أن يعطي الحكومة التركية العنيدة فرصة لرفض افتتاح الكلية مرة ثانية بحجة أنها في حالة يرثى لها. وليس ثمة أي إشارة تدل على أن الحكومة التركية تنوي النزول عند رغبة البطريركية المسكونية بشأن هذه المسألة التي تهم مستقبلها. كما ترفض البطريركية إلحاق كلية اللاهوت بجامعة استانبول الحكومية بحجة أن الكلية ليست مدرسة عليا عادية لتدريس اللاهوت ولكنها مدرسة عليا لتأهيل القساوسة.
ولهذا فإنها يجب أن تظل مستقلة. أما السيد كمال كرنيجز فيؤكد أن دولة علمانية مثل تركيا لا ينبغي أن تكون فيها مؤسسات تعليمية دينية، ويعارض بشدة إفتتاح الكلية مرة أخرى. ويحتج أيضا بأن الكلية تهدد كيان الدولة التركية مدعيا أن اليونان والبطريركية تحاولان تأهيل "المبشرين" فوق جزيرة هايبلي مثلما كان الوضع قبل حرب التحرير التركية. كما أنهما تهدفان إلى تنصير تركيا وبهذه الطريقة يمكن لهما استعادة الأقاليم التي فقدتها اليونان عام 1922 في أسيا الصغرى.
ضد قوانين الإتحاد الأوروبي
نظرية المؤامرة هذه لا تحظى بقبول لدى كل الأتراك. كما أن الحكومة التركية لم تسع إلى مراعاة حقوق الطائفة المسيحية والأقليات غير المسلمة حسب قوانين الإتحاد الأوروبي الخاصة بها، على الرغم من رغبتها في الإنضمام إلى الإتحاد ووعدها بتنفيذ تلك القوانين.
وهكذا تعتبر البطريركية المسكونية غير معترف بها رسميا وليست لها صفة قانونية وعرضة لتعسف الدولة، والأملاك الكنسية لا بد أن تسجل في أوقاف دينية، كما لا تزال العقارات تابعة للأوقاف، وليس للبطريركية حيلة ضد جبروت المحاكم التركية.
ويعلق على ذلك البطريرك برتولوميوس الأول بأن الحكومة تجد دائما مسوغا عندما تريد مصادرة أملاك كنسية. لهذا فإن البطريركية تطالب بتعديل قانون الأوقاف والبت في مسائل الملكية.
وفي كل الأحوال فإن البطريركية المسكونية ترحب بدخول تركيا في الإتحاد الأوروبي، فهي تأمل من ذلك تحسن أوضاع الطوائف الدينية والأقليات غير المسلمة. ولكن ما من خطوات إيجابية في هذا الموضوع، ومع ذلك ليس سهلا على أنانوستوبولوس ألا يفقد الأمل.
بقلم سيريل شتبغر
ترجمة عبد اللطيف شعيب
حقوق طبع النسخة العربية قنطرة 2006
صدر المقال في صحيفة نيوه تسورشر تسايتونغ
سيريل شتبغر مراسل صحيفة نيوه تسورشر تسايتوغ في تركيا.