الوطن.... بلا «السفير»
تعبت «السفير»، لكنها ترفض أن تكون المثال، خصوصاً أنها ترى في أفق المهنة بعض النور. إذ لا يعقل أن يبقى الظلام المخيّم على المنطقة والبلد جاثماً على صدرها وزميلاتها لوقت طويل.
في السنوات الأخيرة، كان حجم الموت والخراب الذي طرق أبواب معظم الدول العربية هائلاً. سوريا ما تزال تنزف بعد مرور نحو ست سنوات على الحرب. ليبيا لم تستطع لملمة جسدها الممزق. الجرح اليمني ما يزال ينزف. العراق صار يلهث خلف هويته. فيما «أم الدنيا» لم تعد قادرة على إطعام عيالها. كيف يعيش الإعلام وسط هذه النيران ومما يتغذّى؟
لطالما كان هذا السؤال يؤرق أهل المهنة، طيلة السنوات الماضية. فلبنان ليس جزيرة معزولة، كما لم يكن يوماً كذلك
.
لم يكن أحد ليصدق في بداية الأزمة السورية أن الحريق لن يطال لبنان الهشّ. لامسته النار مراراً، لكن أبناءه، الذين خبروا ويلات الحرب، رفضوا الانصياع للغة الرصاص وصانوا سلمهم الأهلي بالحد الأدنى من الخسارات.
وبرغم كل خلافاتهم، تمكّن اللبنانيون من عزل أنفسهم عن ألسنة النيران. لكن هذا لا يعني أن لبنان بخير. سوريا هي الرئة التي يتنفس منها. والفضاء العربي هو الذي يمدهّ بالهواء. فكان أن تفرّق العرب وتحاربوا، وانعكس ذلك أول ما انعكس على الاقتصاد اللبناني.. شريان الصحافة.
ثم، ماذا يعني أن تقفل صحيفة لبنانية أبوابها؟ هل قلّت مساحة الحرية في البلد إلى درجة لم يعد للصحافة المستقلة من مكان فيها، أم أن الخواء صار صفة ملازمة، لبلد يفشل مسؤولوه، خلال سنتين، من رفع النفايات من أمام المنازل، تماماً كما يفشلون في إنارة هذه المنازل بكهرباء صرفوا عليها مليارات الدولارات ولا تزال مقننة!
الصحافة واجهة الأوطان. ولأنها كذلك تميّز الإعلام اللبناني عن مثيله العربي. فتداول السلطة في لبنان سمح بوجود منصات إعلامية عريقة قادرة على مواكبته بصناعة متطورة وحرة. المعيار نفسه حكم الصحافة في العالم الأول، لكن في تلك الدول، يتم التعامل معها أيضاً كقطاع اقتصادي أساسي، مثلها مثل الصناعة والزراعة والتعليم، وكرمز وطني مثلها مثل العلم.
للصحافة المكتوبة اللبنانية تاريخ عريق، جعل العاملين فيها ينتشرون في مختلف الدول العربية، فيزرعون فيها بذور المهنة. لكن هؤلاء الصحافيين أنفسهم مارسوا المهنة في بلدهم كفعل نضال يومي.. بعدما تخلّت السلطات المتعاقبة عنهم، ولم تتعامل مع الصحافة كوجه حضاري، بل كانت في معظم الأحيان ولا تزال على خصومة دائمة معها.
الصحافة الورقية تحديداً لم تمُت. لا بل إن مرضها قابل للعلاج. ليست المعجزات مطلوبة بل السياسات. وهذا يستدعي بداية وجود سلطة تملك رؤية. الأمل ليس كبيراً في سلطة لبنانية لم تتأخّر في التنبّه إلى أن التصدع الذي يصيب المهنة، إنما يصيب البلد أيضاً، بل في كونها تريد أن تكدّس ثروة وسلطة ومحسوبيات ولو على حساب هواء الناس وشربهم وأكلهم وحياتهم.